الاثنين، 1 أكتوبر 2018

جيل الرهبة

جريدة الكويتية
23-09-2018
عماد أحمد العالم


أنا من جيلٍ تربى على الرهبة والخوف وأمضى سنيناً من عمره وقد أغلق عقله وسوره برباطٍ من نارٍ تحرق كل لحظة يحاول رأسه فيها التفكير خارج الصندوق، والذي يمثل هنا مجرد التطرق بينه ونفسه لمسلماتٍ فرضت عليه وغرست بالقوة، مع التهديد والوعيد المغلف بشتى أنواع العذاب، الذي كان كافياً لي كمراهق ومن ثم كشاب أن يحول حياته لأفلام رعب وكوابيس لازمته في صحوه ونومه، سعادته النادرة وحزنه وكآبته الغالبة.
هذا هو ببساطة ملخص لما كشف عنه أحدهم بعد جلسةٍ كسر فيها جدار الصمت الذي فُرض عليه، فناله مستسلماً له من دون مقاومة، وهو الذي يلخص ببساطة مأساة أجيالٍ منا كعرب مسلمين نالنا ما نالنا من لغةٍ سادة وقتاً ما، وما زالت وإن كان بريقها قد بدأ يخبو حالياً، إلا أنها وفي يومٍ من الأيام كانت السائدة.
في خطب الجمعة وفي حقبة ما دَرُجَ على تسميته بالجهاد الأفغاني، كان الحديث يتركز على النضال الإسلامي الفريد في ذاك البلد البعيد، الذي جُند له خيرة الشباب ليقاتلوا فيه باسم دحر الشيوعية الكافرة الملحدة، التي وللحق قد ولدت قبل أن تدخله بعقودٍ طويلة، لكنها وفجأة أصبحت خطراً وقتالها جهاداً واجباً في دولة كانت آمنة أياً كان نمط الحكم بها، إلا أنها كانت مستقرة ومزدهرة، حتى استغلتها القوى العظمى في غُمرة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي لتصفية الحسابات معها وإنهاك الأخيرة، التي خرجت منها غير آسفةٍ عليها وهي تعي أنها ستتحول لخراب ونزاعٍ طويل الأمد ما زال مستمراً حتى يومنا هذا، تارةً بين من كانوا يسمون أنفسهم بالمجاهدين وتالياً مع طالبان والقاعدة ولاحقاً معها أيضاً مع دخول جماعات أخرى في دوامة العنف غير المنتهية.
من كان يوماً آنذاك يجرؤ أن يشكك بالكرامات والمعجزات، في وقتٍ كان الصوت الوحيد يتمثل بمقولة الجهاد بأفغانستان، حتى أن أحدهم وأعرف أنه كان مدرساً للغة العربية قد ذكر لي أن إمام المنطقة التي يسكن بها كان يزوره كل أسبوع صباح الجمعة لينقح له خطبته ويصححها، فما كان من الراوي أن سأل الشيخ: كل جمعة خطبة عن أفغانستان ودعاء لها فلم أسمع منك لغيرها، فغضب «المطوع» من تساؤل المعلم وكانت تلك آخر مرةٍ يزوره فيها.
أفغانستان ودعاوى الجهاد المقدس في تلك الحقبة لم تكن فقط حديث الساعة، بل تواكبت مع لغة التهديد والوعيد والعذاب من دون ترغيب، يرافقها قصص تُروى من كل حدبٍ وصوب بعضها صحيح وأُخرى اخترعها رواتها أو تناقلوها عمن كانوا يسمونهم «ثُقاتاً»، كرّست الخوف في نفوس العامة ونفرت العديد وتسببت بانحرافات فكرية ما زلنا نعاني تبعاتها حتى يومنا هذا.
في قصةٍ أخرى، يقول أحدهم، كنا صغاراً نمارس قبل المغرب بساعة هوايتنا المُحببة بلعب كرة القدم في ملعب الحي، وكان يصدف أن يأخذنا الحماس وروح المنافسة للعب بعد أن يدخل وقت المغرب، لكن ذلك لم يكن يوماً ليطول، فما إن يُردد المؤذن «الله أكبر»، حتى تتوقف فجأة سيارة يخرُج منها رجلٌ معروفٌ لدينا راكضاً نحونا لاعتقالنا، فيما نحن وفي لحظة رؤيته نهب مسرعين بغير هُدى كي لا يقبض علينا، فسيئ الحظ من يمسك به، ونهاره وليله سيكون كالكحل أسود.
كم تمنينا دعوة حسنة من ذاك المطارد، الذي كنا وحتى في غير أوقات الصلاة نبتعد عنه ونتوارى كلما برز لنا طيفه.
تلك حكايات يرويها البعض عن حقبةٍ زمنيةٍ سوداء في تاريخنا لم تصنع من الشعب دعاة وإنما جرفت العديد منهم لغلاةٍ أو مفرطين.



المصدر: جريدة الكويتية - www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=474027

السبت، 22 سبتمبر 2018

الاكتئاب.. «القاتل الصامت»

جريدة الكويتية
15-09-2018
عماد أحمد العالم



روبين وليامز أضحكنا وعاش الملايين مع أفلامه متعة الضحك والدراما والفن الجميل، لكنه عاش حياةً أخرى محبطة سلبت قواه فأنهاها منتحراً، بعده بأعوام سار على ركبه الطباخ العالمي ومقدم البرامج الأشهر آنتوني بوردين، وقبلهم جميعاً أنهى حياته منتحراً آرنست هيمنجواي، وكذلك فعلت فرجينيا وولف ويوكيو ميشيما وسيلفيا بلاث، من العلماء قضى بنفس النهج هانز بيرجر وديفيد كيلي وفيكتور ماير وقبلهم وبعدهم العديد من المشاهير من علماء وكتاب وصحافيين ورواد مجالهم، لكنهم وفي النهاية اختاروا الخلاص من معاناتهم ومعهم مقولة المتشائم كافكا «ان الانتحار هو الحل الوحيد الممكن».
يقول الفيلسوف والكاتب الفرنسي ألبير كامو أن الانتحار هو المشكلة الفلسفية الوحيدة، وأقول ولست ببارعٍ في البحث فيه بأنه الحد الفاصل بين الإرادة ونقطة اللاعودة، حيث تتغلب الأخيرة وتقطع الطريق على أي حلول أو آمالٍ ممكنة، فتضحي هي نجاة المنتحر من مزيدٍ من الشقاء.
قد تستوعب أن أحد أباطرة المال مثلاً قد انتحر بعد إفلاسه ولكن ما لا يمكن استيعابه هو أن يقدم على الأمر شخصية ظاهرها السعادة والنجاح والتوفيق والراحة والاستقرار، حيث حياة أسرية مستقرة ومريحة مع زوجة وأبناء وظهور دائم ببريق يخفي خلفه ما لا يعرفه ربما أقرب الناس اليه من معاناة تعذب صاحبها وتمزق ما تبقى من قوته التي تتنازعها قوى الظلام والجانب المشرق من شخصيته التي نراها.
محزن جدا أن يحيى مثلهم في عالمين ظاهره ما يرغب المشاهد برؤيته وآخره نزاع بين ثناياه يستولي في كل جولةٍ على شقٍ أكبر يجعل له الغلبة التي ستكون جولتها الفاصلة إقدامه على أن ينهي حياته بعد اللا عودة!
من منظور علمي وبناءً على رأي الطب النفسي فالعديد ممن أقدموا على الانتحار، مصابون بأمراض نفسية مزمنة تتراوح بين الاكتئاب الحاد وثنائي القطب ونوبات الذعر الشديدة والوسواس القهري.
جميعها تصب في مصطلح واحد يقود الشخص في النهاية للخيار القاتل؛ الاكتئاب والذي يملك قوة تستطيع التغلب على كل نظريات علم النفس بأدويته وممارسيه وكذلك تقنيات العلاج السلوكي والنفسي، فمقدرة عقل بشري واحد سيطر الحزن المرضي على دماغه، قادر على أن يصمد في وجه قدرات الطب النفسي ويتغلب عليها بأن لا يدع لها مجالاً لإصلاحه.
قبل فتره سمعنا عن مدونٍ تونسي ترك خلفه رسالة انتحاره التي فاضت معاناةٍ لم يستوعبها من حوله وكذلك فعل شاب مصري وصف في رسالة انتحاره هواءه الذي يتنفسه بالنيكوتين، فتيات عربيات وغربيات ومن مختلف الجنسيات أقدمن على الخطوة ولكلٍ مبررها وبعضهن أقدمن عليها علانية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكنهن جميعاً اتفقن على قرار اللا عودة الذي ينهي وجودهن في عالم بات العيش فيه بغض النظر عما يكدرهن، أقسى عقوبة تقع عليهنّ.
من الصعب أن يشرح المُكتئب معاناته التي في الغالبية العظمى لا تجد صدى استجابة فعالة مساعدة ممن حوله عدا النصح بزيارة الطبيب أو تناول الأدوية، لتُخلق الفجوة بينه ومن حوله حيث تزداد معاناتهم وانفضاضهم وتجاهلهم أو انشغالهم، فيبقى وحيداً يصارع وحشاً يشاركه جسده وعقله، ويفسد ما تبقى من قوته ويحوله لأسير أفكار ووساوس وهواجس وظنون تُحكم قبضتها عليه فيصبح أسيراً مغمى العينيين تُسيره كيفما شاءت لهلاكٍ من غير الضرورة أن يفتك بحياته، وإنما يجعل من البقاء فيها الماً لا شفاء منه ولا مُسكن له، ليفقد صوابه كنتيجةً لذلك بعد أن ينفض الجمع والمجتمع ويصنفه كمجنون!
قبل فترة نشرة سيدة أمريكية صورة تجمعها وزوجها وأبناؤها أثناء رحلتهم الأخيرة، وعلقت عليها قائلةً «نظراته لم تكن توحي لي ولا لأحد بما أقدم عليه بعدها بأيام فقد أطلق النار على نفسه وانتحر»!!
حجم الألم في القصة السابقة أن الزوجة تفاجأت بانتحار زوجها التي كانت تظن بعض لحظات ضيقه وسكوته ووجومه السابقة عابرة، لكنه كان قد وصل لنقطة اللا عودة عن قرار انهاء حياته حتى يتخلص من الامه التي لم يُقدِّر أقربُ الناس اليه ومنهم زوجته درجة خطورتها واستحواذها عليه.
يعتبر الفرنسي اونريه دي بلزاك أن كل انتحارٍ هو نظامٌ راقٍ للحزن، كما سعى إلى ذلك الكاتب الياباني يوكو ميشيما ومارس طقوس الانتحار في اليابان بنهج السيبوكو أو الهاراكيري وهو الانتحار بالسيف.
كثيراً ما يربط الباحثون بين الاكتئاب والانتحار لكن الواقع يسير لأسبابٍ أخرى كالمرض والإحباط والظروف الاجتماعية والصدمات الحياتية والعاطفية والأخلاقية والسياسية وحتى الهم الوطني كما فعل الشاعر اللبناني خليل حاوي والذي سجل اعتراضه على الحصار الإسرائيلي لبيروت سنة ٨٢ عبر إطلاقه النار على رأسه جهة عينه اليسرى من بندقية، وكذلك فعل قبله تيسير السبول والشاعر والرسام العراقي إبراهيم زاير.
يقول الطبيب المصري هشام عادل صادق أستاذ الأمراض النفسية والعصبية في كلية طب عين شمس، «أنه تعامل مع مختلف حالات المرضى، الذين لم يقدم أحد منهم على الانتحار، عدا مرضى الاكتئاب الذين أقدم البعض منهم على الانتحار بسهولة وتخطيط للوسيلة الأنجع لتحققه وضمان حصوله»، وهذا مما يجعلنا غافلين عن قاتلٍ صامت سيفتك بالبشر أكثر فأكثر
.


المصدر: جريدة الكويتية -  alkuwaityah.com/Article.aspx?id=473356

الخميس، 6 سبتمبر 2018

حلم آثر الهوى أن يطيله

جريدة الكويتية

 03-09-2018
عماد أحمد العالم



يبحث عن صوت المطر، وقصيف الرعد الصاخب ولمعان البرق، عن انعكاس وهجه على أضواء الشوارع الخافتة المنسية، عن تساقط حبيباته البلورية المتسارعة على أرض مرتوية ضاقت ذرعاً به بعد أن فاضت منه، وعن هدير رياح الشتاء الموسمية العاصفة الباردة القادمة من الشمال، وعن تساقط أوراق الأشجار الذابلة المتراكمة فوق بعضها البعض في فصل الخريف حين تتكسر من دون صراخٍ مستسلمة لقدرها بعد نفاذ الروح منها بعد أن وطأتها قدماه، يطربه حسيس النار المنخفض وجرجرة الحطب المحترق المتكوم بموقده وفرقعته.
ينسجم مع صوت عجلات سيارته المرتبكة المبرمجة لطريق تسير فيه كل يوم، يقودها على جسر خشبي ضيق قديم لا هندسة فيه بناه مزارع بسيط نشأ بأرض يرفض تركها لحياة سريعة توفرها المدينة، أراده ليكون همزة الوصل بين منفاه المحبب والعالم المشغول بجدول أعماله الروتيني، يمر عبر أشجارٍ مرصوفة بقوام معتزة بعلوها الشاهق الزاهية بأغصانها المتدلية منها دون هدى على جانبي طريق ترابيٍ شبه معبد من وقع المرور المتكرر عليه، امتداده يقوده لمنزله الخشبي الواقع بأطراف منسية من المدينة بعد أن هجرها القلة من قاطنيها بعد أن غررت بهم فرص الحياة الراغدة التي توفرهم لهم المدينة، لكنها تنعم بسلام الخالدين المطمئنين خاليي الوفاض، وعذوبة الطبيعة العذراء التي لم تدنسها يد مدنية البشر الأنانية الماكرة الملطخة بمعاناة الآخرين، والناقمة على هجرانها.
بحثه مصدره الحاجة لحياة أخرى يعيشها بخلاف التي يحياها منذ أمد، لكنها لم تعد تواقة للالتزام بالعهد الذي قطعته للقبول بالواقع، الذي قد يرضي غيره، لكنه لم يعد بحاجة للتصالح معها والقبول بالواقع، فلا مقدرته على التحمل تحتمل المزيد ولا الواقع يريد أن يتغير، في مجابهة الغلبة فيها للواقع الذي يملك خيوط اللعبة، فيما هو متفرج لا يملك من أمره شيئاً عدا الاستمرار بأحلام يقظته التي لا يريد الاستيقاظ منها أبداً، حيث المكان الأنسب له لكي ينغمس في رؤاه المتكررة كيفما شاء وإلى ما لا النهاية.
يعشق الهدوء والموسيقى والسكينة واخضرار ما حوله والبحر والشواطئ الرملية وفنجان قهوته وكوب الشاي ودخان غليونه التي انعكست على وحدته فعززت من تفرده ليكون من القلة القليلة من البشر التي لا تكترث لأوصافهم التي يطلقوها عليه، لا يلقي بالا لجنون يصمونه به، ولا كونه بنظرهم معقد وغامض وأناني وانطوائي.
هو كما أراد لنفسه بأن يكون معها فقط، فلا حياتهم في شيءٍ تعنيه ولا سمعته لديهم تشكل عائقاً سبب له الأرق يوماً.
يجلس على كرس خشبيٍ استهلكه الزمن على شرفة كوخه الذي يهتز مع حركته المتواترة من دون انقطاع لساعات، فيما الصمت يطبق على المكان الذي أبت حشرات المساء إلا أن تنتهكه، تحوم حول إضاءة خافتة تصدر من مصباحٍ معلق خلفه فيما هو محدق بما يوازي نظره، أصبح جزء من هذا المنظر الذي يمثل خلوته المعتادة ورغباته الجامحة في الهيام بمملكته.
على الجانب الآخر منه وعلى بعد أمتارٍ قليله تتكسر بعض الأشجار تاركة ممرا ضيقا صنعته يد بشرية، تتجه نحو ضفة البحيرة القريبة، حيث قاربه المتواضع يقبع على يمين لسان من خشب يمتد لمسافة قصيرة داخل المياه، حيث يمارس هواية الصيد بالسنارة، مدلياً قدميه العاريتين الملامستين لحركة التيار التي تحدثها أرجحتهما الخفيفة.
يسهو قليلاً فترتسم على شفتيه رعشة خفيفة بللتها دمعة هربت سريعاً من محراب عينه المنهكة وجسده المتعب وروحه المُعذبة بغياهب الجُب، فيما ابتهالاته وطنين الألم يستحضر الحوار الأخير للجلاد الصالح والمجرم البريء في رواية ستيفن كينج «اللحظة الأخيرة»، حيث يُخاطب السجين رئيس عنبره قائلاً:
«أنا متعب يا سيدي من كوني وحيداً بالطريق كعصفور يتخبط بالمطر، متعب لعدم وجود رفيق لي يخبرني أين أذهب، متعب في الغالب من البشر ومن قبحهم في تعاملهم مع بعضهم البعض، متعبٌ من كل الآلام التي أشعر بها كل يوم في هذا العالم وهناك الكثير منها، أشعر بها جميعاً كقطع زجاجٍ متكسرة بعقلي».



المصدر: جريدة الكويتية - www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=472419

الأربعاء، 15 أغسطس 2018

تركيا والأزمة مع واشنطن......الحقيقة والواقع

بقلم: عماد أحمد العالم
15-08-2018



هذا المقال ربما لا يلقى قبولاً لدى فئتين من العالم العربي بشتى مشاربه, أحدهما موغل بالعاطفة والتفاؤل المفرط بقيام دولة إسلامية عظمى يرى في تركيا بشخص الرئيس أردوغان ممثلاً لها وزعيماً يعيد للعالم الإسلامي مكانته, التي يناطح بها "ما يسميه" الغرب المُجحف وعلى رأسه الولايات المتحدة, وآخر هو نقيض جمع بين علمانيين وشوفينيين وليبراليين وشعبويين عرب يرون ضرورة تحجيم المارد التركي الذي يسعى لإعادة قيام الإمبراطورية العثمانية التي استعمرت الدول العربية وأذاقتهم الأمرين "كما يصفون" فترة حكمها, ويتوجسون الخوف من الليبرالية العلمانية المعتدلة ذات الطابع الإسلامي الذي ينتهجه حزب العدالة والتنمية التركي ورئيسه رجب طيب أردوغان.
في الأغلب تغيب العقلانية في التحليل بما يخص الأزمة السياسية القائمة حالياً بين الأمريكان والأتراك ولاحقاً الاقتصادية، والتي بدأها  الرئيس الأمريكي ترامب حين أصدر عقوبات بحق وزيري الداخلية والعدل التركيين عقب رفض السلطات التركية الإفراج عن القس الأمريكي الذي تحتجزه بذريعة دعمه للإرهاب وارتباطه بجهات مرتبطة بالمعارض التركي فتح الله غولن والمقيم ببنسلفانيا بالولايات المتحدة, وترفض السلطات الأمريكية تسليمه, فيما تتهمه أنقرة بضلوعه ودعمه للمحاولة الانقلابية الأخيرة فيها.
تسارعت وتيرة الخلاف, ففرضت واشنطن عقوبات اقتصادية على الصلب والالمنيوم التركي بما يعادل 20% و50%, مما أفقدهما القدرة التنافسية وبالتالي أثر على إنتاجهما وكمية المصدر منهما للسوق الأكبر لها. الليرة التركية تراجعت بشكل غير مسبوق مقابل الدولار الأمريكي، مما تسبب لفقدان عملات أخرى عالمية لقيمتها السوقية, مما يعكس ارتباط اقتصاديات الدول ببعضها, وذلك وسط مخاوف من المستثمرين بالإقدام على استثمارات جديدة بتركيا وعلى الأقل التوقف مؤقتاً عنه لحين استجلاء ما ستؤول اليه العملة التركية, التي قد يتسبب المزيد من الانخفاض بها لهروب مضطرب للمستثمرين الأجانب مما سيتسبب بدوره بركود اقتصادي تركي, سيتبعه تضخم وزيادة في نسب البطالة.
رد البنك المركزي التركي بضخ عشرة مليارات ليرة تركية في السوق وستة مليارات دولار أمريكي واثنين مليار دولار من الذهب, مما أوقف التراجع الدرامي لسعر صرف الليرة مقابل الدولار, أتبعها دعوة رئاسية لمقاطعة البضائع الأمريكية والتوقف عن الاحتفاظ بالدولار واستبداله بالليرة, وسبقها حملات عربية شعبية عبر وسائل التواصل الاجتماعي للمثل ظهر بها أفراد وهم يقومون بتحويل مبالغ واستبدالها بالليرة, فيما استنكر الطرف الآخر الأمر واتهمهم باستغلال الدين وبالانقياد والتبعية وحتى بالعمالة للأتراك, لتزيد من حالات التناحر القائمة بين أطياف العرب أنفسهم على مشكلة تركية بحتة, من الممكن أن نتحدث عنها ونناقشها وفق المصلحة العربية والإسلامية والفائدة المتبادلة, لا وفقاً للعاطفة والتطرف بالكره!
للعلم, فحجم التبادل التجاري السنوي بين أنقرة وواشنطن يزيد على 15 مليار دولار, ومعدل استثمار الأتراك في أمريكا خلال الأعوام الأخيرة يبلغ نحو 700 مليون دولار، في حين أن مجموع استثمار الأمريكان في تركيا خلال الـ 4 أعوام الأخيرة يتجاوز الـ 15 مليار دولار, فيما وصل حجم الاستثمارات الأجنبية إلى 165 مليار دولار في الفترة ما بين الأعوام 2003-2015, وهو رقم يعكس أهمية الاستثمار الأمريكي بأنقرة والذي زاد منذ تولي الرئيس الأمريكي ترامب ومقارنةً بالرقم العالمي, إلا أنه ورغم وقع تجميده لن يصيب الاقتصاد التركي بالشلل في ظل تواجد أوروبي قوي بتركيا وخصوصاً من قبل المانيا التي يعمل الاف من شركاتها بها ويصل حجم التبادل التجاري لها ما يزيد عن الستين مليار يورو, وجاءت ألمانيا في مقدمة المستوردين من تركيا في 8 قطاعات هي السيارات، والملابس الجاهزة، والحديد، والماكينات، وأجهزة التكييف، والبندق، والفواكه والخضراوات، والفواكه المجمدة.
تتصدر ألمانيا والعراق والولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا قائمة الدول المستوردة من تركيا, فيما يبلغ حجم التجارة بين تركيا والاتحاد الأوربي نحو 160 مليار دولار حاليا، يتوقع أن يصل إلى 200 مليار خلال عام ونصف العام, وهو الذي يعطي بدائل لأنقرة في حال استمرار الخلاف مع واشنطن ويعزز من فرص تعاونها أكثر مع الأوربيين وروسيا والصين وإيران, التي شددت الإدارة الأمريكية العقوبات عليها مؤخراً, فيما رفض أردوغان الاشتراك بذلك وبتنسيق مع بوتين, وسط دعوات قد تلقى تنفيذاً باعتماد العملات المحلية في التعامل التجاري بدلاً من الدولار وهو ما سيؤثر على أسعار صرفه ويقلل من ثقة المستثمرين به, ولكن ليس للحد الذي يتسبب بانهياره أو تراجعه الحاد وسط التعامل الدولي الأعم به.
التصريحات الألمانية الأخيرة للمستشارة ميركل والمؤسسات المالية ببرلين أظهرت دعماً ملحوظ لتركيا رغم الخلاف السياسي بين الطرفين, إلا أن المصلحة الاقتصادية المتبادلة قلصت من الهوة, فبرلين تعاني هي الأخرى من العقوبات الأمريكية التي ستنال شركات منها تتعامل مع طهران, يُضاف إلى ذلك ما نالها من فرض تعرفة جمركية مرتفعة تفقدها التنافسية على العديد من صادراتها للولايات المتحدة التي تعد من أكبر أسواقها, وتخشى تبعاتها الاقتصادية وسط تذمر أوروبي ولكن بردود فعل ضعيفة تتجنب الاصطدام مع واشنطن, لذلك تجد المانيا من تركيا حالياً حليفاً في الأزمة قد يتصدر المشهد نيابةً عنها في التصادم مع الأمريكان, تقوم بدعمه سياسياً واقتصادياً وتقدم له المشورة وربما تعد بمباحثات واعدة وتسهيلات لانضمامها للاتحاد الأوروبي.
لا بد من الإقرار أنه من شبه المستحيل تركيع سياسات ترامب الارتجالية والانفعالية وغير المحسوبة, فأمريكا ما زالت الدولة الأقوى, لكن اتحاد الأوربيين وتركيا من جهة, وحلف روسي صيني إيراني من جهة أخرى, سيضعف من موقف واشنطن وسيجبرها على إعادة تقييم سياساتها الإقتصادية الأخيرة تجاه حلفائها, وربما الوصول لتفاهمات جديدة وحلول وسط, ستحد من سلاح التلويح بالعقوبات الاقتصادية ومطالب الإذعان.
أما الرئيس التركي أردوغان فعليه أن يكون أكثر براغماتية ويستعين بتكنوقراط متخصصين في الاقتصاد بدل الاعتماد على حزبه في ذلك ومن أي الأطياف حتى لو من المعارضة، فيما يحبذ أن يتواصل مع رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد, والذي تمكن سابقاً أثناء الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالنمور الآسيوية من مواجهتها والنوء عن الاقتراض من البنك الدولي واستطاع بسياسات اقتصادية حكيمة تخطيها فيما فشل الآخرون.
على الطرف الأمريكي أن يُدرك الآن أن السيطرة المطلقة والتفرد السياسي والاقتصادي والعسكري والأممي بات غير ممكن الآن لكيانٍ واحد في آنٍ معاً, فالنفوذ السياسي والعسكري الأمريكي مرتبط بالاقتصاد العالمي, الذي يذعن لمواقف أمريكية وفق مردود اقتصادي مصلحي منها يتمثل بتمكينها من حصة وافرة من السوق الأمريكي, الذي إن أقفل بوجهها, سيترتب عليه تغير في سلم الأولويات, ومن ثم نشوء خلل في السيطرة الأمريكية, التي لن تتمكن بعد الآن من الاستمرار في لعب دور شرطي العالم وقوته الاقتصادية العظمى والمتفرد بالقرارات الأممية والنهم لتواجد قواعده العسكرية في كل مكان, وهو أمر أدركه الرؤساء والسياسيين الأمريكان على الدوام من كلا الحزبين الديموقراطي والجمهوري, فلا بد لك أن تعطي حتى تأخذ!
يعي كلا طرفي الأزمة أهمية العلاقات التركية الأمريكية القائمة منذ زمن بعيد، والمتزايدة خلال الأعوام الأخيرة، فهي شراكة استراتيجية سياسية اقتصادية عسكرية وأصبحت تنصب بشكل عام في محور الأمن ومكافحة الإرهاب، فقاعدة أنجرليك الجوية بتركيا ودور الأخيرة الفعال في حلف الناتو لا يمكن الاستغناء عنه، كما أن الأمريكان بالنسبة للأتراك صمام أمان تجاه الأوربيين يعادل معهم الكفة في خلافاتهم.
يبقى أن نشير إلى أن النظرة الجد متفائلة والعاطفية الكمالية دون تحفظ تجاه تركيا وأردوغان تقع في نفس الخطأ الذي ينتهجه منتقديهما من الشامتين والمتربصين والمنتقدين دون مبرر, فتركيا ورئيسها رغم كونهم من منبع إسلامي وداعم لقضايا عربية, إلا أن لهم أجندتهم الوطنية الخاصة بهم والتي قد تتعارض معنا, فليس كل ما هو تركي سياسياً كان أو عسكرياً واقتصادياً صائب, والمثل ينطبق على الحزب الآخر, الذي تناسى أن استقطاب تركيا للضفة العربية والوقوف معها سيشكل صمام أمان للعرب وسيحد من علاقاتها مع طهران, بل ربما سيشكل ورقة ضغط عليها وروسيا لاتخاذ مواقف إيجابية تجاه قضايا تمس الأمن القومي العربي.

أطفالنا......صنيعة أيدينا

جريدة الكويتية
 12-09-2018
عماد أحمد العالم



طفلي عصبي، الولد خلقه ضيق، دائما مكشر، عقله «خُزق»، ضايق صدره، ما عنده لعب ولا مزح، أبو تكشيرة، ضارب بوز، ما يسمع الكلام، لا يُحب المشاركة، يده طويله، تنح وقفل........، وغيرها الكثير من المصطلحات العامية التي نتفاخر بإطلاقها ونحن نضحك بل نقهقه في سوالفنا الأسرية ونحن نروي للآخرين سلوك رضعنا وأطفالنا الصغار، ونكررها بدل المرة مليون وتارةً تلو أخرى وأمامهم وعلى مسامعهم، لنؤصل فيهم تلك الطباع وذاك السلوك الذي إن كبروا وشبوا عليه بتنا نلطم ونتباكى لم رزقنا الله بذرية عابسة كئيبة مملة وجدية زيادة عن الحد، وتناسينا أن جزءاً لا بأس به وقد يكون أغلبه بسببنا نحن الذين ربيناهم على تلك الصفات عبر التفاخر بها والتندر، حتى تبنتها وتشبعتها عقول الصغار وتقمستها لا إرادياً ورغبةً منهم أيضاً بالتحلي بما دأب والديهم والمقربون منهم وصفهم، ليتحول التمثيل إلى طبع سيصعب فيما بعد التخلص منه ويتحول لسمة لجيلٍ كامل تعقبه أجيال تتوارثه، ولا غرابة أبداً في ذلك، فالمتجول في شوارع ومدن وأزقة أغلب مدننا العربية نادراً ما سيجد في طريقه من يوزع الابتسامات على المارة والجلوس كلما تلاقت أعينهم في نظرة والتفاتة، على النقيض ستجد العبوس والقنوط ونظرات من تأبط شرا ويبحث كما يقولون شعبياً عن «شكل» أي مشكلة تروي ظمأ صاحبها الذي رضع منذ طفولته النكد والسأم.
لمَ نحن عدائيون في وصفنا لأطفالنا دائماً، ولمَ نحرص على الصاق صفات غير حميدةٍ بهم، ولمَ نسعد ونبتسم حين نرى غضباً طفولياً مصطنعاً على وجوههم، ولمَ لا نحرص على ثنيهم عن التحلي بتلك الهيئة الكئيبة التي نفرح لرؤيتهم بها، وليكن بدلاً من ذلك تشجيعهم على الا تختفي الابتسامة عن وجوههم البريئة، وتعويدهم على المحبة والحنان والعاطفة التي يجب أن نحفزهم لإظهارها للآخرين وممارستها بشفافية وبراءة الطفولة، كي تتأصل بهم وتصبح في مراهقتهم وشبابهم طبعاً ينعكس عليهم ومن حولهم، فتكون المحصلة بيئةً خصبةً للاستمتاع بالحياة واحترام الآخرين، ما سيأخذنا لنكون شعوباً متحضرة إنسانية رفيعة الخلق وحسنة المعشر والجوار بدل ما عُرف عنا وشاع من النقيض وهو حقيقةٌ لا يُمكن إنكارها.
في مسلسلاتنا وأغانينا الحزن هو الصفة السائدة، والمصائب والكوارث هي السيناريو الأغلب، والدموع والبكاء والنواح في كل حلقة، وكأننا لم يكفينا كمية التعاسة التي تظهر علينا لنزيدها غماً وهماً سينزع ما تبقى من لحظات فرح مأمولة لواقعٍ أردناه ليكون حزيناً بعد أن أصلناه في أطفالنا، الذين بدورهم وحين كبروا كرروه مع أبنائهم، حتى تحولت الكآبة لطبعٍ أصيل وجينات متوارثة لجيلٍ عربيٍ يخلفُ آخر لا يعرف حس الفكاهة الا بالابتذال ويستمتع بأن يوصف بالتناحة.



المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=470517

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...