عماد أحمد العالم
كاتب رأي ومقال، وباحث مهتم بالعلوم الإنسانية والاستشراق. صدر لي ثلاثة كتب، وهناك بقية بانتظار ناشر!
الثلاثاء، 18 فبراير 2025
لماذا لا نقرأ إلا الكتب الجيدة؟
مجلة اليمامة - 16-02-2025
السبت، 21 ديسمبر 2024
الأدب الجيد والرواية الرديئة
مجلة اليمامة - 19-12-2024
بقلم: عماد أحمد العالم
ما زال العديد يخلط بين بعض الأدب الرديء الأكثر انتشاراً من حيث عدد ونوع وشكل القُراّء، والأدب الأقل انتشاراً رغم كونه الأكثر صناعة للوعي والذائقة الأدبية، وذلك أثناء الحديث عن روايات الفانتازيا والخيال والتشويق البوليسي، التي عرف التاريخ الأدبي حضور لها في أزمنة كثيرة بما فيها عصرنا الحالي، والذي بات حاضرا حديث معارض الكتاب بعد تكرار حالات الهرج والمرج من قبل جمهور قرّاء أثناء حفلات توقيع الروايات، متسبباً بإثارة انتباه الكُتّاب والنقاد للروائيين المجهولين الذين باتوا الأكثر شهرة بين مجهولي الهوية الروائية ومنزوعي القيمة الأدبية، بالرغم من أن طيف واسع ممن تناولهم نقدا أو إطراء، ولا أعمم، لم يكلفوا نفسهم عناء الاطلاع على منتوجهم وقراءة رواياتهم، ليكون الحكم عليهم وفق النص ودلالاته، ومكامن قوته وضعفه؛ لا الإطار العام لنهجهم ونمطهم وأسلوبهم وجمهورهم.
لا بد لنا بداية أن ندرك أن الأدب ليس بقالب واحد ينهجه الأدباء بمن فيهم الرواة والقاصين والحكواتية “storytellers”، فهناك أشكال منه تحذو حذو المتعارف عليه من حيث الالتزام بأسس الأدب الروائي وتياراته ومدارسه. وهناك في المقابل، نوع من الأدب بحكم انتمائه للرواية، وإن لم يلتزم بالإطار الروائي؛ يقود المراهقين وصغار السن لحالة من الإعجاب المبني على فضول مثار تجاه قصص الجن والعفاريت والجرائم البوليسية وفانتازيا الرعب، دون أن يكون له تأثير وعي ثقافي سوا إرضاء فضول فئة يغلب عليها صغار السن المتفتحين على قراءة التشويق والإثارة، أو حتى ما يُمكن أن نطلق عليه الهّبة «الترِند».
دون أن نغفل بالطبع، الأدب الأهم الأكثر فائدة وتأثيرا رغم بعده عن منصات التتويج، وهو الذي يصنع الوعي والذائقة الأدبية الحقيقية والفعلية، مؤطراً وممكنا للقارئ الناقد لا القارئ الناقل أو العابر أو المرتبط فقط بغرائزه وصيحات جيله والمكان/الزمان الذي يعيش فيه.
باعتقادي، ودون أن يكون في الرأي انتقاص مما سأطلق عليه «أدب صغار السن والمراهقين»، ولا الحط مما وصل له قلة من الرواة والقاصين من تأثير واضح وحضور لافت وانتشار كبير يحسده عليهم الرواة المعروفين المفتقدين لمكاسب على أرض الواقع؛ أرى أن المبالغة في تناول ظاهرة روايات فانتازيا المراهقين، جزء منها دعائي، وآخر استرعى انتباهه انحدار الذائقة، وثالث أخذته الحمية والانتماء والعاطفة ليكون حصان طروادة في الدفاع عنه وما وصل إليه، ورابع وهو الأكثر سخرية، استخدم النظريات الأدبية والعلمية للدفاع عن روايات أحدهم، ولتبرير نمطه وأسلوبه، بما في ذلك الهجوم على منتقديه من النقاد والأدباء، واتهامهم بالغيرة والحسد، متناسين أن ما يبقى وتخلده الذاكر هو الأدب الحقيقي، الحافر بصمته عبر الزمن بأعمال مضت عليها عقود وقرون وما زالت تُقرأ حتى يومنا هذا، بخلاف روايات الإثارة منزوعة القيمة، وإن كانت ترى مجداً في السنين الحاضرة، إلا أن حكم الوقت عليها آتٍ كما فعل مع من سبقها، ليهملها بعد أن كانت مجرّد نزعة فضول ودعاية عابرة!
وعند الأخير أتوقف، مستعرضا استشهاد أكاديمي بنظرية «موت المؤلف» للناقد والأديب والعالم اللغوي الفرنسي رولان بارت، وإسقاطها مثلا على روايات أحدهم، لإثبات ما لا يمكن إثباته بأن نصه يحمل في داخله مكامن القوة التي تفسر سبب انتشاره وتأثيره الكبير، في إسقاط مدمر لطبيعة نظرية موت المؤلف لعراب التيار البنيوي وأحد رواده الأوائل، عبر استحداث مقاربة في غير محلها، لإعطاء مكانة أدبية لروايات جُل نجاحها لا يكمن في اللغة والعبارات والبناء البلاغي للنص، وإنما بأعداد التوزيع الكبيرة، وجذبها لصغار السن، دون الأخذ بالاعتبار، ومع كل الاحترام للراوي وجهده، بكونها لا تعد أدبيا روايات تمثل أدباً حقيقياً يرتقي بالذائقة الأدبية لقرائها، بل أقرب ما تكون ربما لنسخة رديئة من روايات أجاثا كريستي.
بعض المتحمسين للظاهرة، وصلت بهم المبالغة لدرجة عقد مقارنة بين روائي أدب «الهبّة/الترِند»، بأسلوب أيقونة الواقعية السحرية، الروائي غابريل غارسيا مركزيا، عاقدين مقارنة بين ما يكتبوه، والروايات الخالدة لأسطورة أمريكا اللاتينية، بما فيها عمله الأيقوني «مائة عام من العزلة»!
أما الهجوم الشعبوي الذي يشنه حماة حمى ظاهرة الأدب الرديء، فأكثر ما استرعى اهتمامهم، هو تصويب سهام نقدهم لطبقة المثقفين، لا من واقع نقد لإعادة البوصلة باتجاه تكريس وجود «المثقف العضوي» كما وصفه غرامشي، وإنما كما ظهرت في العديد من أقوالهم، للانتقاص لمجرد الانتقاص من الثقافة والفكر والأدب. وهو ما يؤشر في حد ذاته على اتساع الهوة عربياً بين المجتمع بعامته، والأقلية من النخب البعيدة عن إما إقامة جسور التواصل، أو الْمُراد لها أن تبقى مُغيبة!
بعيدا عن المقارنات المليئة بالمغالطات المنطقية، والحماس الغير منضبط المدافع عن روايات الفانتازيا الرديئة، والناقدة له دون تبيان مكامن العور فيه، أرى أن بالإمكان الاستفادة من موهبة البعض القصصية، للارتقاء بذائقة صغار السن من القراء، وانتهاز تأثيرهم لإحداث بصمة أدبية بدلا من الاستمرار في الاعتماد على التشويق القائم على إثارة الفضول، مع انتهاج حبكة يتم استخدامها في عالمهم الصغير دونما بلورة لقيم ومعايير تجعل منهم قراء شغوفين بالقراءة للمعرفة، بدلا من إشباع فضولهم الوقتي، وملئه بقصص الجن والشياطين والعفاريت.
المصدر: مجلة اليمامة - العدد 2839 / 19 ديسمبر 2024 - الأدب الجيد والرواية الرديئة.
الأربعاء، 13 نوفمبر 2024
إسلامان: إسلام سني للأغلبية وإسلام شيعي للأقلية
موقع ميدل إيست أونلاين / 11-11-2024
بقلم: عماد أحمد العالم
هل ستنحصر المنافسة بين الطائفتين الإسلاميتين الأكبر وهما السنة والشيعة، أم ستدخل في المنافسة بقية الطوائف كالإسماعيلية والزيدية والصوفية والأشاعرة والإباضية، وغيرهم ممن يرى بنفسه الصواب والبقية على خطأ؟ أو، ولنكن صريحين دون مواربة، على ضلالة كما يرى بعضها الآخر المختلف عنها رغم انضوائها جميعاً تحت بوتقة الدين الواحد، الذي يؤمن اتباعه بالشهادتين وبرسول الله كخاتم الأنبياء والمرسلين، وببقية الأركان من صوم وصلاة وزكاة وحج.
لماذا اتسمت علاقة المذاهب الإسلامية بالتنافر والتشاحن بدلاً من التقبل والتعايش المشترك، وهل رجال الدين هم السبب؟ أم العلة في نصوص أُجتهد فيها لتمنح المعتنقين الصواب على غرار الآخرين، أم أن السعي للسلطة هو المتسبب، وبذلك جُيرت العاطفة الدينية لتخدم أهواء الطامحين فيها ولما يتناسب مع دعواتهم التي لاقت جماهير متعطشة لتفريغ كبتها ومقتها لأوضاعها السياسية والاقتصادية، فانقادت عاطفياً وصاغرةً.
من قراءة مبكرة للتاريخ، نجد أن السياسة هي أحد أهم المسببات. فالدولة الأموية وبعدها العباسية وكذلك الفاطمية والصفوية جميعها قامت على أسس دولة الخلافة والملك الوراثي، ولتأطيرها مارست الانتقائية في اختيار نصوص من الشريعة وحتى بعضها تم اختلاقه لإعطاء صبغة روحانية للحاكم وشرعية لسلطته تلزم الشعوب بالبيعة والقبول بالسلطة دون اعتراض.
لماذا لا يتذكر السنة والشيعة على حدٍ سواء أن علي بن أبي طالب رفض الخروج على بيعة أبي بكر يوم السقيفة رغم أن البعض استنكرها وفضل ترشيح صهر الرسول وابن عمه وربيبه. وقتها لم يمكر الصديق لمؤيدي علي، ولم يسعَ للانتقام منهم.
اليس الأجدى بأتباع الطائفتين أن يقتدوا بملهمها في نبذ العنف والتآخي، علماً أن أصحاب الشأن أنفسهم عملوا بها ونبذوا الفرقة، فيما الأتباع لاحقاً ومنذ قرون مديدة يتصرفون بتعصب لقومٍ هم في الأساس أول من دخل في دين الله وآمن بدعوة رسوله ودعمها بالسلاح والمال والدعوة، وبقوا طوال حياتهم صحابةً كرام وأحبة يجمعهم وعدٌ وبُشرى بالجنة، فما كان بينهم هو اختلاف في وجهات نظر لم تتحول لخلافٍ يؤدي لقطيعة وحروب تسفك بها الدماء، وذلك حمايةً للإسلام من التفتت والتشرذم والانشقاق، وهو الذي حصل بعد ذلك لأسبابٍ كان الدافع المبدئي فيها الاعتراض على نفوذ حكم والمطالبة به لطرف على حساب آخر.
بداية الخلاف كانت فرقة سياسية، تم تجييرها مذهبياً لدرجة أن المذهب نفسه بعد ذلك عمل على التشعب وكرس الفرقة لتصبح عقائدية، فبدلاً من أن تكون السياسة هي السبب أصبح المذهب هو ما يُفرق.
ويبقى السؤال: ألا يجب علينا كمسلمين إيجاد قواسم مشتركة يمكن البناء عليها لنتجاوز خلاف القرون الأولى حول الخلافة والحكم والحاكم ومن أحق بها، والتخلص من رواسبها التي تميز طبيعة العلاقة القائمة حاضراً بعد أن ندرك أن الخلاف الجوهري قد ذهب مع الريح وانقضى زمانه، أم وصلنا لليوم الذي يكون لنا فيه إسلامان أحدهم إسلام سني ذي أغلبية وإسلام شيعي للأقلية؟
المصدر: ميدل إيست أونلاين - إسلامان: إسلام سني للأغلبية وإسلام شيعي للأقلية | عماد أحمد العالم | MEO
الخميس، 23 نوفمبر 2023
أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية
موقع ميدل إيست أونلاين
10-11-2023
بقلم: عماد أحمد العالم
المصدر: ميدل إيست أونلاين - أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية | عماد أحمد العالم | MEO (middle-east-online.com)
الأربعاء، 30 أغسطس 2023
أوبنهايمر، كيف تقتل بضمير مرتاح!
موقع ميدل إيست أونلاين / 27-08-2023
بقلم: عماد أحمد العالم
كعادة أي فيلم يسبقه دعاية كبيرة تصوره كفيلم العام المرشح
لنيل جوائز أو لتحقيق أعلى إيرادات شباك التذاكر؛ يستمر مسلسل تتفيه الشر
الأمريكي، الذي عادةً ما ترعاه هوليوود وصناعة السينما بالولايات المتحدة، التي
رغم كونها والحديث هنا عن هوليوود، ليبرالية شديدة التطرف بما تسبغه على نفسها من
حرية التعبير والرأي والاعتناق والفكر؛ إلا أنها الْمُحلل والمسوغ والمفكر المبرر
لجميع الشرور الأمريكية عبر التاريخ الحديث، عبر تلاعبها بالحقائق وتزوير التاريخ
لتكون قراءته فقط وفق وجهة النظر الأمريكية ورغبتها لما تريد أن تكون الأحداث
عليه. كيف حصلت ولم حدثت والأسباب التي استدعت حدوثها.
بالطبع، عدم تعميم ما سبق لا ينفي أن الغالبية العظمى من
منتوج السينما الأمريكية ينطبق عليه التوصيف السابق، عدا القلة القليلة جدا من
أعمال سينمائية منصفة غردت خارج السرب، وإن كانت في واقع الحال الشذوذ الذي يثبت
القاعدة.
ما استدعى هذه المقدمة، تعقيب سأحاول أن يكون مختلفاً بشأن
فيلم أوبنهايمر، الذي لم يخرج الجدل بشأنه بين ممجد وناقد، ولكلٍ بالطبع حججه التي
عادةً لا تخرج من إطار من يراه تحفة فنية شدته بتصويره وحواراته وموسيقاه
التصويرية، وسيناريو الفيلم وأحداثه، والابداع بأداء أبطاله وحواراتهم، وبين من لم
يخرج عن تابو التشكيك بأي عمل فني أمريكي ورفض ما جاء فيه بالمطلق.
أما الزاوية التي سأعلق من خلالها فستكون سيراً على ركب
فيلسوفة "الشر" ومنظرته الأبرز حنة آرنت، وتقديمها لما سمته تفاهة الشر
أو banality of evil في
سعيها لتفسير ارتكاب جرائم ومجازر من قبل بشر طبيعيين لن نتوقع قبل ارتكابهم للجرم
فعلهم له، ولا عدم شعورهم بتأنيب ضمير نتيجة اقترافهم له.
الفكرة واحدة، وإن استطعنا استغلالها وإسقاطها على الدعاية
الأمريكية بشقها الرسمي والخاص، السياسي والأدبي والفني؛ سنجدها نهج دأبت الولايات
المتحدة انتهاجه لتبرير أفعالها.
سياسياً مثلاً، كان برنارد لويس ومارتن كريمر وغيرهم من
المستشرقين الأمريكيين، أو كما يحلو لهم التسمية كمتخصصين مناطقيين أو بالدراسات
الشرق الأوسطية؛ المحللين والمبررين والمسوغين علمياً وفكرياً وقانونياً للكثير من
السياسات والتصرفات الخارجية الأمريكية بما فيها حروبها وغزواتها وتدخلها بسياسات
الدول الأجنبية، ورعاية أجهزتها للأنظمة الشمولية والديكتاتورية.
هذا من جانب، ومن آخر، كانت هوليوود التي لا تخفي عداءها
للنهج المحافظ بما فيه الحزب الجمهوري والرؤساء الأمريكيين؛ اللاعب الأبرز شعبيا
على المستوى المحلي والعالمي في توجيه الرأي العام تجاه القضايا الأمريكية،
وتصويرها على الدوام بما يخدم أهدافها وسياساتها، وبما يبرر نهج "كيف تقتل
بضمير مرتاح" دون أن تُلام، بل تشجيعك والتبرير لك.
البداية المبكرة كانت في العام ١٩٤٩ ميلادية عقب تقسيم
برلين وبداية الحرب الباردة برعاية ثقافية وفنية من وكالة المخابرات المركزية
الأمريكية، مروراً بحرب فيتنام والعقود التي أعقبتها وشهدت حركة سينمائية أمريكية
نشطة لتصوير بسالة أمريكا وحقوقيتها ووحشية الشعب الآسيوي، الذي لم يختلف في
إجرامه كما صورته هوليوود، عن الهنود الحمر، والإيطاليين عرابي عصابات المافيا،
والمكسيكيين الهمج المغتصبين، والسود القتلة، وتجار المخدرات الكولومبيين، والعرب
والمسلمين الإرهابيين، والروس المتوحشين، والصينيين الدنيئين.
القائمة طويلة ولا يمكن حصرها هنا، وإن خرجت دراسات وأبحاث
جادة تحدثت عنها وكيفية صناعة العدو على الطريقة الأمريكية وتشويه سمعته واختزاله
بصورة نمطية معينة تبرر لأي إجراء سابق أو حاضر ومستقبلي بشأنه.
في فيلم أوبنهايمر أو عراب القنبلة النووية الأمريكية، كان
لا بد حتى عقود من الجريمة الأبشع عبر التاريخ، من الاستمرار في تأكيد أن مجزرة
هيروشيما وناغازاكي النووية، شر أخلاقي لا مفر منه؛ بل هو خير نتائجه على فظاعتها
أسدت البشرية معروفاً بإنهائها الحرب العالمية الثانية، بواسطة أمة أخلاقية لها ما
يسوغ فعلتها تجاه إجرام الإمبراطورية اليابانية، وكحركة استباقية كيلا يفكر
الاتحاد السوفيتي أو أي من قوى الشر في العالم اتخاذ خطوة مماثلة.
هذا هو جوهر ومغزى الفيلم باختصار عبر استغلال السيرة
الذاتية لبطل الفيلم لتسويق هذه الفكرة الشريرة كأحد أهم عمل خير قدمته أمريكا
للعالم أجمع وشعوبه بمختلف أطيافه!
استهداف المدينتان اليابانيتين قد يبدو شراً لناظره، لكنه
شر تافه يحمل شق خير وآخر مأساوي يمكن التغاضي عنه مقابل تفاهة شره.
هذا من جهة مفهوم تفاهة الشر لدى حنة آرنت، أما إن استخدمنا
تفسير زيجمونت باومان للهولوكوست واستخدمناه على الحدث، فسيفيدنا لتبيان عدم شعور
المنظومة الأمريكية كاملة تجاه الفعل بالذنب، بما فيه من أصدر أمر إلقاء القنبلة
النووية، والطيار الذي سار بها، والمهندسين والعلماء الذين صنعوها، وحتى حارس
المستودع وعامل النظافة والمطعم الذين كانوا جزء من فريق العمل. جميعهم كانوا جزء
من المنظومة البيروقراطية للدولة الأمريكية، أقسموا على الولاء لقيمها الخاصة
المفروضة عليهم بغض النظر عن مرجعياتهم الأخلاقية الإنسانية، والتزموا بتنفيذ
الأوامر بناء على ذلك، ولكن دون أن يشعر أي منهم بأن عملهم في هذه المنظومة تسبب
بعملية القتل المباشر لربع المليون من اليابانيين الذين قضوا بسبب القنبلة. فهم لم
يشتركوا بشكل مباشر في فعل القتل نفسه الذي تكفلت به القنبلة، ومهمتهم اقتصرت على
جزئيات بعينها كثيرة ومتعددة جدا في الجريمة لدرجة تاهت معها المسؤولية المباشرة
عنها.
لم يتطرق فيلم أوبنهايمر لتبعات القنبلة النووية وأثرها
المدمر على اليابانيين على مدار عقود جسدياً ونفسياً، إلا بشيء من الاستخفاف
المقصود لتأكيد تفاهة الشر، ولا عرض صوراً من الدمار الشامل الذي تسببت به حتى لا
تُكشف حجم المأساة بالتأكيد. هذا فضلاً عن جمل مقصودة بحواراته المملة الطويلة،
حيث أكد بأحدها مسؤول أمريكي استبعاد مدينة يابانية كأحد الخيارات الاثنا عشر كهدف
لكونها تحمل بعداً ثقافياً، والمهم للمسؤول، لأنها كانت حيث قضى شهر العسل برفقة
زوجته!
ثلاث ساعات عبثية مملة سيقضيها من سيتابع الفيلم، متوسط
الإخراج والموسيقى التصويرية والحبكة السينمائية، والسيناريو غير المقنع بتاتاً
إلا بنجاحه بتوظيف سيرة ذاتية لأبو القنبلة النووية الأمريكية ومدير مشروع
مانهاتن؛ لتكريس حقائق وطمس أخرى، وممارسة مزيد من الخداع والتضليل عبر خلق أيقونة
أمريكية أو إعادة إحيائها ومن ثم تمرير الرسائل من خلالها، التي يجب أن تنجح، وقد
حدث ذلك دوماً عبر هوليوود، ومع الغالبية العظمى التي تأثرت مسبقاً بالضجة الكبيرة
للفيلم قبل عرضه، وبآراء النقاد الإيجابية بشأنه، فكان الجميع وكالعادة دمى عرائس
يتم تحريك حبالها.
تقييمي بفشل الفيلم على جميع الأصعدة لا يعني إنكاري بنجاحه
فيما أراه فشلاً، فقد حرف بوصلة المشاهد من النقمة تجاه أوبنهايمر المتحمس جداً
لصنع القنبلة النووية والسعيد بنجاحها في القضاء على الخصم الياباني بداية، دون أن
يخفي أمنية لم تتحقق باستخدامها على الألمان المهزومين في الحرب كانتقام لبني قومه
من اليهود ضحايا المعسكرات النازية. وهو ما عبر عنه في عدة مشاهد، ليتوه المشاهد
بين وطنية أوبنهايمر ورغبة الانتقام لديه من النازيين. لكن هذه الرغبة والسعادة
سرعان ما تم طمسها بالترويج لأخلاقية أوبنهايمر الرافض للقنبلة الهيدروجينية
والنشط ضد استخدام أسلحة الدمار الشامل، والمروج لاتفاقيات أممية للحد من تصنيع
واستخدام الأسلحة النووية، يتخللها مشهد مقت الرئيس الأمريكي ترومان له عقب
مقابلته واستماعه إليه، والطلب بألاّ يدخل هذا البكاء كما وصفه، مكتبه مرة أخرى.
أوبنهايمر الذي قتل مئات آلاف اليابانيين بضمير مرتاح في
البداية، تم تحريف نقمة المشاهد تجاهه، بتصوير عداء رئيسه السابق له ومكره الذي
توجهه بتشويه سمعته وحرمانه من تجديد تصريحه الأمني.
عند هذه المرحلة، يتم التلاعب بالمشاعر الإنسانية والعاطفة،
التي ترفض الظلم والمكر، فتتناسى أخطاء المجرم لمجرد تعرضه للخيانة، وتتحول النقمة
والكره تجاهه لتعاطف نجح صانع السيناريو بتحقيقه مع مشاهدين تعاطفوا مع بطل أمريكي
American hero تم
تقديره أخيراً بعد عقود من ظلم تعرض له رغم ما قدمه للوطن وشعبه!أوبنهايمر وإن كان الفيلم يلخص السيرة الذاتية لروبرت
أوبنهايمر كهدف معلن؛ إلا أنه دون شك كرس ورسخ مفهوم تفاهة الشر الأمريكي مهما
كانت شناعته وتأثيره على الآخرين، وأكد المؤكد من حيث "كيف تقتل أمريكا بضمير
مرتاح"!
بالطبع، عدم تعميم ما سبق لا ينفي أن الغالبية العظمى من منتوج السينما الأمريكية ينطبق عليه التوصيف السابق، عدا القلة القليلة جدا من أعمال سينمائية منصفة غردت خارج السرب، وإن كانت في واقع الحال الشذوذ الذي يثبت القاعدة.
ما استدعى هذه المقدمة، تعقيب سأحاول أن يكون مختلفاً بشأن فيلم أوبنهايمر، الذي لم يخرج الجدل بشأنه بين ممجد وناقد، ولكلٍ بالطبع حججه التي عادةً لا تخرج من إطار من يراه تحفة فنية شدته بتصويره وحواراته وموسيقاه التصويرية، وسيناريو الفيلم وأحداثه، والابداع بأداء أبطاله وحواراتهم، وبين من لم يخرج عن تابو التشكيك بأي عمل فني أمريكي ورفض ما جاء فيه بالمطلق.
أما الزاوية التي سأعلق من خلالها فستكون سيراً على ركب فيلسوفة "الشر" ومنظرته الأبرز حنة آرنت، وتقديمها لما سمته تفاهة الشر أو banality of evil في سعيها لتفسير ارتكاب جرائم ومجازر من قبل بشر طبيعيين لن نتوقع قبل ارتكابهم للجرم فعلهم له، ولا عدم شعورهم بتأنيب ضمير نتيجة اقترافهم له.
الفكرة واحدة، وإن استطعنا استغلالها وإسقاطها على الدعاية الأمريكية بشقها الرسمي والخاص، السياسي والأدبي والفني؛ سنجدها نهج دأبت الولايات المتحدة انتهاجه لتبرير أفعالها.
سياسياً مثلاً، كان برنارد لويس ومارتن كريمر وغيرهم من المستشرقين الأمريكيين، أو كما يحلو لهم التسمية كمتخصصين مناطقيين أو بالدراسات الشرق الأوسطية؛ المحللين والمبررين والمسوغين علمياً وفكرياً وقانونياً للكثير من السياسات والتصرفات الخارجية الأمريكية بما فيها حروبها وغزواتها وتدخلها بسياسات الدول الأجنبية، ورعاية أجهزتها للأنظمة الشمولية والديكتاتورية.
هذا من جانب، ومن آخر، كانت هوليوود التي لا تخفي عداءها للنهج المحافظ بما فيه الحزب الجمهوري والرؤساء الأمريكيين؛ اللاعب الأبرز شعبيا على المستوى المحلي والعالمي في توجيه الرأي العام تجاه القضايا الأمريكية، وتصويرها على الدوام بما يخدم أهدافها وسياساتها، وبما يبرر نهج "كيف تقتل بضمير مرتاح" دون أن تُلام، بل تشجيعك والتبرير لك.
البداية المبكرة كانت في العام ١٩٤٩ ميلادية عقب تقسيم برلين وبداية الحرب الباردة برعاية ثقافية وفنية من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، مروراً بحرب فيتنام والعقود التي أعقبتها وشهدت حركة سينمائية أمريكية نشطة لتصوير بسالة أمريكا وحقوقيتها ووحشية الشعب الآسيوي، الذي لم يختلف في إجرامه كما صورته هوليوود، عن الهنود الحمر، والإيطاليين عرابي عصابات المافيا، والمكسيكيين الهمج المغتصبين، والسود القتلة، وتجار المخدرات الكولومبيين، والعرب والمسلمين الإرهابيين، والروس المتوحشين، والصينيين الدنيئين.
القائمة طويلة ولا يمكن حصرها هنا، وإن خرجت دراسات وأبحاث جادة تحدثت عنها وكيفية صناعة العدو على الطريقة الأمريكية وتشويه سمعته واختزاله بصورة نمطية معينة تبرر لأي إجراء سابق أو حاضر ومستقبلي بشأنه.
في فيلم أوبنهايمر أو عراب القنبلة النووية الأمريكية، كان لا بد حتى عقود من الجريمة الأبشع عبر التاريخ، من الاستمرار في تأكيد أن مجزرة هيروشيما وناغازاكي النووية، شر أخلاقي لا مفر منه؛ بل هو خير نتائجه على فظاعتها أسدت البشرية معروفاً بإنهائها الحرب العالمية الثانية، بواسطة أمة أخلاقية لها ما يسوغ فعلتها تجاه إجرام الإمبراطورية اليابانية، وكحركة استباقية كيلا يفكر الاتحاد السوفيتي أو أي من قوى الشر في العالم اتخاذ خطوة مماثلة.
هذا هو جوهر ومغزى الفيلم باختصار عبر استغلال السيرة الذاتية لبطل الفيلم لتسويق هذه الفكرة الشريرة كأحد أهم عمل خير قدمته أمريكا للعالم أجمع وشعوبه بمختلف أطيافه!
استهداف المدينتان اليابانيتين قد يبدو شراً لناظره، لكنه شر تافه يحمل شق خير وآخر مأساوي يمكن التغاضي عنه مقابل تفاهة شره.
هذا من جهة مفهوم تفاهة الشر لدى حنة آرنت، أما إن استخدمنا تفسير زيجمونت باومان للهولوكوست واستخدمناه على الحدث، فسيفيدنا لتبيان عدم شعور المنظومة الأمريكية كاملة تجاه الفعل بالذنب، بما فيه من أصدر أمر إلقاء القنبلة النووية، والطيار الذي سار بها، والمهندسين والعلماء الذين صنعوها، وحتى حارس المستودع وعامل النظافة والمطعم الذين كانوا جزء من فريق العمل. جميعهم كانوا جزء من المنظومة البيروقراطية للدولة الأمريكية، أقسموا على الولاء لقيمها الخاصة المفروضة عليهم بغض النظر عن مرجعياتهم الأخلاقية الإنسانية، والتزموا بتنفيذ الأوامر بناء على ذلك، ولكن دون أن يشعر أي منهم بأن عملهم في هذه المنظومة تسبب بعملية القتل المباشر لربع المليون من اليابانيين الذين قضوا بسبب القنبلة. فهم لم يشتركوا بشكل مباشر في فعل القتل نفسه الذي تكفلت به القنبلة، ومهمتهم اقتصرت على جزئيات بعينها كثيرة ومتعددة جدا في الجريمة لدرجة تاهت معها المسؤولية المباشرة عنها.
لم يتطرق فيلم أوبنهايمر لتبعات القنبلة النووية وأثرها المدمر على اليابانيين على مدار عقود جسدياً ونفسياً، إلا بشيء من الاستخفاف المقصود لتأكيد تفاهة الشر، ولا عرض صوراً من الدمار الشامل الذي تسببت به حتى لا تُكشف حجم المأساة بالتأكيد. هذا فضلاً عن جمل مقصودة بحواراته المملة الطويلة، حيث أكد بأحدها مسؤول أمريكي استبعاد مدينة يابانية كأحد الخيارات الاثنا عشر كهدف لكونها تحمل بعداً ثقافياً، والمهم للمسؤول، لأنها كانت حيث قضى شهر العسل برفقة زوجته!
ثلاث ساعات عبثية مملة سيقضيها من سيتابع الفيلم، متوسط الإخراج والموسيقى التصويرية والحبكة السينمائية، والسيناريو غير المقنع بتاتاً إلا بنجاحه بتوظيف سيرة ذاتية لأبو القنبلة النووية الأمريكية ومدير مشروع مانهاتن؛ لتكريس حقائق وطمس أخرى، وممارسة مزيد من الخداع والتضليل عبر خلق أيقونة أمريكية أو إعادة إحيائها ومن ثم تمرير الرسائل من خلالها، التي يجب أن تنجح، وقد حدث ذلك دوماً عبر هوليوود، ومع الغالبية العظمى التي تأثرت مسبقاً بالضجة الكبيرة للفيلم قبل عرضه، وبآراء النقاد الإيجابية بشأنه، فكان الجميع وكالعادة دمى عرائس يتم تحريك حبالها.
تقييمي بفشل الفيلم على جميع الأصعدة لا يعني إنكاري بنجاحه فيما أراه فشلاً، فقد حرف بوصلة المشاهد من النقمة تجاه أوبنهايمر المتحمس جداً لصنع القنبلة النووية والسعيد بنجاحها في القضاء على الخصم الياباني بداية، دون أن يخفي أمنية لم تتحقق باستخدامها على الألمان المهزومين في الحرب كانتقام لبني قومه من اليهود ضحايا المعسكرات النازية. وهو ما عبر عنه في عدة مشاهد، ليتوه المشاهد بين وطنية أوبنهايمر ورغبة الانتقام لديه من النازيين. لكن هذه الرغبة والسعادة سرعان ما تم طمسها بالترويج لأخلاقية أوبنهايمر الرافض للقنبلة الهيدروجينية والنشط ضد استخدام أسلحة الدمار الشامل، والمروج لاتفاقيات أممية للحد من تصنيع واستخدام الأسلحة النووية، يتخللها مشهد مقت الرئيس الأمريكي ترومان له عقب مقابلته واستماعه إليه، والطلب بألاّ يدخل هذا البكاء كما وصفه، مكتبه مرة أخرى.
أوبنهايمر الذي قتل مئات آلاف اليابانيين بضمير مرتاح في البداية، تم تحريف نقمة المشاهد تجاهه، بتصوير عداء رئيسه السابق له ومكره الذي توجهه بتشويه سمعته وحرمانه من تجديد تصريحه الأمني.
عند هذه المرحلة، يتم التلاعب بالمشاعر الإنسانية والعاطفة، التي ترفض الظلم والمكر، فتتناسى أخطاء المجرم لمجرد تعرضه للخيانة، وتتحول النقمة والكره تجاهه لتعاطف نجح صانع السيناريو بتحقيقه مع مشاهدين تعاطفوا مع بطل أمريكي American hero تم تقديره أخيراً بعد عقود من ظلم تعرض له رغم ما قدمه للوطن وشعبه!أوبنهايمر وإن كان الفيلم يلخص السيرة الذاتية لروبرت أوبنهايمر كهدف معلن؛ إلا أنه دون شك كرس ورسخ مفهوم تفاهة الشر الأمريكي مهما كانت شناعته وتأثيره على الآخرين، وأكد المؤكد من حيث "كيف تقتل أمريكا بضمير مرتاح"!
المصدر: ميدل إيست أونلاين - أوبنهايمر، كيف تقتل بضمير مرتاح! | عماد أحمد العالم | MEO (middle-east-online.com)
السبت، 19 نوفمبر 2022
قطر وكأس العالم، بين الحوار الحضاري ودعوات التبشير
19-11-2022
عماد أحمد العالم
بعيداً عن ذلك، وبعد أكثر من سبعة عقود لاحقة، تستضيف قطر، النسخة الأولى عربيا في تاريخ المنافسة الكروية لكأس العالم. ووسط الاستعدادات للحدث البارز، تتوالى الدعوات لأن تكون التجربة الأولى عربيا فرصة ومناسبة لا تفوت للدعوة للتعريف بالإسلام، وهو ما لا يُمكن إنكار قيمية القيام به لكل مؤمنٍ بعقيدته، ويرى الخلاص للبشرية بالإيمان بدينه. هذا النشاط الدعوي مُحبب، لا خلاف على القيام به طوعاً لا بالإكراه والفرض بالقوة في جميع الأماكن والأوقات، فديننا وقرآننا وهدي نبينا الكريم علمنا أن ندعو لسبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن. أما المغزى هنا، فهو مع تزايد الدعوات للتعريف بالإسلام أثناء المونديال، أجدُ من الملح الدعوة للتريث قليلاً والتحلي بمزيد من الحكمة والتعقل قبل الاندفاع الديني والتعجل بقطف الثمرات. فالحماس وإن كان دلالة محبة وإخلاص، هو ذو تأثير عكسي إن لم يتم توظيفه في السياق الصحيح. وبما أن العالم وللأسف الشديد قد تم تكريس تقسيمه لغرب وشمال متقدم، وجنوب وشرق نامي، بات من السائد فيه أن يكون قيم الأول هي الدارجة والمقبولة، والثاني يعاني من اتهامات التخلف والرجعية والإسلاموفوبيا والإرهاب والتشدد. هذا من جهة، ومن أخرى، إن افترضنا أن أي حضارة هي فعليا حصيلة مجموعة من الحقول والمبادئ والطبيعة التي تمثلها وتمنحها شكلها وكينونتها وجوهرها؛ تكون الحضارة الشرقية، بما فيها الإسلامية والعربية كأحد أهم مكوناتها، مشكلة فعليا من آدابها وتقاليدها وأديانها ومعتقداتها، وثقافاتها المتنوعة، وموروثها الإنساني ولغاتها.
وبناء على ذلك، يعتبر الدين، ولنقل الإسلامي في هذه الحالة، وهو المهم بالنسبة لنا؛ جزء من الكل الممثل للحضارة الشرقية العربية، وأحد أهم عوامل ثرائها. ومع ذلك، لا ينبغي أن يكون فقط هو محور التبشير الموجه لضيوف قطر من مشجعي كأس العالم المفترضين، ومعهم الوفود الإعلامية والصحفية، ولا عنوانه الرئيسي. بل الأجدى أن يكون ضمن مجمل الباقة التي تمثل الشرق العربي تحديدا منه، كحضارة عادة ما يُساء فهمها ويلفها الغموض، وتقابل بالاستهجان والاستنكار. وحتى يُفهم ما أريد قوله بالشكل الصحيح، أرى التوقف عن شعارات الدعوة الإسلامية الحماسية التي تتلقفها الجموع لاستقطاب غير معتنقيه صوبه، والتركيز في المجمل على الغرض الأعم، مع تبنيه لأن يكون عرض حاصل لا هدف موجه وظاهر وعلني. أي أن تكون المناسبة الكروية محور الاهتمام الرئيسي، الذي يتم من خلاله إدارة المنافسات باحترافية وسط أجواء أمن واستقرار، يتخللها بطبيعة الحال سياحة ثقافية للزائر في دوحة الخليج، لا بُد أن يسترعيه فيها تبديد غموض ومخاوف وإجابات عن تساؤلات ومظاهر ومشاهدات، هي من يجب أن يتم استغلالها فعلياً كعرض وصدفة في حالة الفراغ الكروي، ووسط موجات النقد والاستهداف الممنهج للإساءة لقطر على وجه التحديد؛ لتكون مناسبة لسياحة في الثقافة الشرقية العربية، ولتبديد المغالطات، وإجلاء الشكوك، وبث الرسائل، وتصحيح الرؤى، والتعريف اللائق بنا كشعوب تشترك مع المختلف عنها في الجنس البشري بالتنوع الحضاري، فضلاً عن اشتراكها الأهم في قاعدة أساسية تشكل في حقيقتها جوهر الحقيقة المطلقة بأننا بشر من لحم ودم، اختلافنا إثراء لنا، لا سبباً معتاداً للتفرقة والضغينة والعداء.
هذه المنافسة الكروية، لا أراها أبدا السبيل الآني اللحظي لنشر الدين الإسلامي، فهو هدف على سمو مقاصده، ينبغي أن يكون في إطاره الأشمل، المنطلق من كسر حاجز الخوف والرهبة والشك تجاه العالم العربي الشرقي، ومنح العقول الزائرة فرصة التأمل والتفكر والمراجعة الذاتية في قناعاتها السابقة، لتنطلق بعد المغادرة لدولها بعد انتهاء الزيارة، للتساؤل والبحث والتقصي في مفهومها المتراكم عن العرب والمسلمين. هي رحلتهم المعرفية التي سيغذيها ويستفزها مشاهداتهم ومرئياتهم عبر الاحتكاك المباشر، وهي التي ستقودهم لإنصاف هذا العرق العربي والدين الإسلامي، ومن ستمهد الطريق لهم بدولهم، بين أسرهم وفي مجتمعهم وبيئة عملهم ولهوهم، للنقاش الجاد وتبادل الأفكار، الذي حتما سيكون تبعاته إن تم استخلاص الحقيقة، في حده الأدنى، لإنصافنا كعرب ومسلمين، أو لاعتناق الدين الإسلامي بعد دراسته ومناقشته والاقتناع التام به عن إصرار ودراسة مستفيضة.
المسألة ليست بالكم الحماسي، وإنما بالكيف والحكمة. وبالتأكيد، لا يمكن الانجراف فيها خلف الشعارات والدعوات العشوائية المندفعة لنصرة الدين والدعوة له على حساب الأسس القوية المتينة لتأسيس أرضية مشتركة مع الآخر طويلة الأمد. هي أن توصلنا لها، ستكون ثمرة الجهد الدؤوب لتحقيق الغاية والمراد، الذي لا يجب أن تكون فقط اكتساب مزيد من الأتباع للدين الإسلامي، بل لتصحيح البوصلة نحو وعي شعبي غربي وأممي مدرك للصورة المزيفة التمثيلية التي يجري تداولها، وتصحيحها، وهو ما إن يتحقق ستكون مكتسباته ذات أهمية أكبر بكثير من حماسة لحوادث فردية.
في قطر، وحسب ما أعتقد، ما من داعي لأن تكون أكشاك الدعوة الدينية في كل الأماكن بشكلٍ يظهر منه محاولة إضفاء صبغة دينية على الحدث الرياضي، ولا حتى انتشار جموع الدعاة بين الجماهير بمظاهر واضحة، ولا إبراز الأمر إعلاميا ورسميا كغاية وهدف معلن. هو إن حدث، لن يخدم إلا عواطف ومشاعر قصيرة المدى، وقد يكون لها نتائج عكسية. فيما الأجدى، والأسمى ألا تظهر له أي طبيعة معلنة، مع تماهي حثيث بأجواء المونديال العامة يظهر فيها حرص الدولة المنظمة على أن يكون سابقة في حسن التنظيم والنتائج، يصاحبه جهد ثقافي ملاحظ وملموس للتعريف بالثقافة المحلية، والعربية الإسلامية الثرية، التي ستقود حال التعرف عليها للمهتم بالتساؤل وطرح ما يدور بداخله عن مفاهيم مختزلة سابقة، من المفترض لحظتها أن يتم الإجابة عليها بتجرد تام وموضوعية متجردة وعقلانية لا تحمل صفة دينية إسلامية، وإنما إنسانية وأخلاقية وقانونية يفهمها الآخر الذي تغلب على طيف واسع منه الصفة المادية. كما لا يجب أبدا في حوار الثقافة أن تكون الأديان محل مقارنات سلبية لئلا يكون الطرف الآخر من الحوار في موقف المدافع، بل ينبغي السمو عن الموقف بمخاطبة العقل وفق المنطق والسمة الأخلاقية والقيمية. باتباع هذا النهج نكون دعاة حضارة وثقافة، ديننا جزء أساسي منها. وفي نفس الوقت، لا أصحاب أيديولوجيا ومرجعية دينية مختلفة نسعى لتحقيق انتصار ديني من خلالها، هو في حقيقته لا اعتراض عليه، وإنما الهدف الأعم هو السعي لأهداف شاملة وبعيدة المدى تعم فائدتها الجميع على المستوى الشعبي والرسمي.
المثلُ ينطبق على كل صاحب قضية محل نزاع دولي، من المفترض ألا يكون التسامح الرسمي والشعبي معه، والتعاطف، وسيلة لاستغلال الحدث للتعريف بقضيته بشكل واضح، بل كما السابق، عرضياً، حتى لا تنال الدولة المستضيفة نصيباً وافراً من الاتهامات بتسييس الحدث واستغلاله. المهم في استضافة قطر لكأس العالم، ليس النجاح الوحيد في هذا العرس الكروي، وإنما الديمومة والاستمرار بفضل البنية التحتية المميزة التي أقامتها، والمرافق المنشأة؛ لتكون قطر إثراً لذلك، من الآن فصاعداً، أحد أهم وأبرز عواصم الرياضة العالمية، في إنجازاتٍ لها، نفتخر بها جميعاً، لكن دون استغلالها بوصفها ما دون ذلك، أو تجييرها لتتسم بصفة إقليمية أو دينية أو عرقية. ولكي يتحقق هذا، الجميع شركاء بالمسؤولية، فهذا ما يتطلبه أن يُعطى كل ذي حقٍ حقه المستحق، وألا يُستغل كرم العبارات كذريعة لنزع الإنجاز من قطر ومنحه صفة تتعدى كونه في الحقيقة إنجاز قطري صرف وغير مسبوق عربياً وإسلامياً وشرقياً.
الأحد، 6 نوفمبر 2022
الكرة الأردنية وصراع الهويات القاتلة
موقع سواليف
06-11-2022
عماد أحمد العالم
ليس من الأسلم فقط تحليل الظواهر والحديث عنها بشكل عملي وفكري موضوعي محايد بُمجرد انقضاء الحدث ومرور وقت على حصوله؛ وإنما الأكثر فائدة لطرح المسألة للنقاش المفضي لعرض الإشكالية دون عواطف ومواقف يفرضها الحدث، ومن ثم استعراض الحلول بعد البت في جذورها وأسبابها وتداعياتها. وعلى هذا يمكن القياس على الملابسات المؤسفة، وما نتج عن المباراة الأخيرة في الدوري الأردني لكرة القدم بين ناديي الوحدات والفيصلي، والتي انتهت بفوز الأول في ‘المعركة الكروية’، وخسارة الثاني، المؤسفة لكلا الطرفين في الواقع بعيداً عن التعصب الكروي!
حقيقةً دون خلق الأعذار والمبررات التلطيفية والذرائعية الملطفة للأمر، المسألة ليست مباراة كرة قدم بين ناديين، أو تعصب كروي جاف يحدث في كل أرجاء العالم، بل هي أعم وأشمل، وتشير إلى مشكلة حقيقية ترجع جذورها القديمة للعام ١٩٢٢م، حين رعت بريطانيا أثناء انتدابها على الأردن، وفي مسعىً منها لهدم اللحمة الوطنية الشرق أردنية في الكيان الذي لم ينل وقتها استقلاله؛ مقولة “الأردن لشرق الأردنيين”، من منطلقات استعمارية بريطانية فرنسيه، هدفت لإذكاء الكراهية الشعبية لشرق الأردنيين تجاه من لجأ من السوريين القوميين للأردن هرباً من قمع الاحتلال الفرنسي لسوريا، وقد فشلت بالطبع!
نفس المقولة تتكرر مجدداً ولكن مع اختلاف المكوِّن، حيث يتم بشكل ممنهج من أطراف ذات توجهات لا تخفى أهدافها توجيه الكراهية تجاه الأردنيين من أصول فلسطينية، عبر ترديد مقولة ‘الأردن للأردنيين أصلاً وفصلاً’، من قبل جماعات مأزومة على رأسها العنصريون الجدد، مع هامش حرية عالي بممارسة الكراهية، وتغاضي مقصود، أو متغافل عنه، أو جاهل لخطورة تجزيء المجتمع الأردني وتصنيفه وقولبته في جماعات إثنية مختلفة دون الانتماء الوطني الواحد للجميع، والذي يحكم العلاقة بين المواطن والدولة من جهة، ويأطر العدالة الاجتماعية والمساواة بين جميع أطياف المواطنين بمختلف هوياتهم المعرفية، وجذورهم ومعتقداتهم، والتي شهدت عل الدوام تآلفاً في الوطن الأردني الواحد متعدد الثقافات والمشارب والهويات الفرعية.
أما الرياضة، وإن كانت بكل دول العالم تشهد موجة عنصرية وكراهية متزايدة، وهو ما لا ننكره، إلا أنها وبعد الواقعة الرياضية الأخيرة المؤسفة، تحمل معاني ودلالات أبعد من كونها مجرد تعصب رياضي، حيث تشير على أرض الواقع لخلل مجتمعي، مرده أسباب سياسية واقتصادية وتنموية، برعاية غير معلنة من جهات ‘مصالح’، أو تغاضي لجهات تحمل طابعاً مؤسساتياً، تسعى – وقد نجحت منذ عقود إلى حدٍ ما -؛ لخلق هويتين رياضيتين أردنية وفلسطينية من خلال ناديا الوحدات والفيصلي، لتكريس الانقسام المجتمعي، وتثبيت الإلهاء كاستراتيجية منفعية من واقع أهداف مرسومة يجري العمل عليها بواسطة إذكاء الكراهية والتعصب والعنصرية بشكل عام، والرياضية على وجه الخصوص.
في علم النفس الاجتماعي يشير التعصب الرياضي لحالة يلجأ فيها مكون اجتماعي لمجموعات معينة، للالتجاء لهوياتها الفرعية كوسيلة لتفريغ الكبت الناتج عن افتقارها لحقوق معينة. ولذلك، تجد أن المكون الآخر هو الأقرب والأسهل لتوجيه الغضب تجاهه بدلاً من مواجهة ومجابهة مصدر المشكلة الحقيقية. وهذا أمر ينبغي الأخذ به في الاعتبار لإدراك منابع هذا التعصب الرياضي المقيت وأسبابه الأساسية، الذي يقابله أيضاً واقع يستحق الإشادة، مرده تركيبة الأردن السكانية المتنوعة من أردنيين، وعشائر، وفلسطينيين، وسوريين، وشركس، وشيشان، وغيرهم من أقليات استوطنت الأردن في التاريخ الحديث قبل وبعد التأسيس، وهي في حقيقتها سر نجاح المملكة الأردنية الهاشمية كدولة للتعايش المشترك والتعدد الثقافي والديني والمذهبي، في ظل هوية أردنية مدنية واحدة حددها الدستور، وإن لم تتبلور أطرها بشكل رسمي الآن للحد من النبرات والاتجاهات العنصرية المتصاعدة. بالطبع، قد تكون الهوية الجامعة أحدها، لكنها هي الأخرى أحد أسباب الانقسام المجتمعي، بين من يراها ذريعة للتوطين الفلسطيني في الأردن وإلغاء حق العودة الفلسطيني، وبين من يعتبرها فاقدة لدعم الأغلبية والعشائر الأردنية لكونها لا تستند لإجماع شعبي. فيما يراها آخرون حلاً مؤقتاً مقبولاً ولكن ضمن إطار أكبر يشمل تبديد مخاوف مجموعات عرقية من فقدان مواقعها من جهة، وتحقيق مطالبها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من أخرى، لضمان عدم نشوء أصوات تدعوا لهوية قومية عنصرية تقصي المكونات الأخرى لخلق ذات عليا تحقق المطالب الآنفة.
من المهم للمجتمع الأردني المتمدن والمتصالح مع نفسه سابقاً، والذي نجح على مدار عقود في تقوية اللحمة الوطنية، أن يعي أن التعصب الكروي للناديين، ليس سوا إرهاصات تم تخليقها لضمان السيطرة والسيادة وفرض الهيمنة المجتمعية من أطراف لها مصلحة باستمرار الكراهية المجتمعية لمآرب لا تخفى على الحصيف، ‘ففرق تسد’، نهج ما زال قائماً ويتم استخدامه للإلهاء والتشتيت، ولخدمة أجندات داخلية وخارجية على حدٍ واحد.
أما العشائر الأردنية، أي سكان البلاد الأصليين، فينبغي التذكير والإشادة أن العشائر بكونهم تاريخياً ومنذ الحقبة العثمانية، وصولاً للاحتلال ومن ثم الانتداب البريطاني على إمارة شرق الأردن، وبعد الاستقلال ليومنا هذا، خير حاضنة وداعم لفلسطين وشعبها، وللعديد من الأقليات المضطهدة في العالم، فاستقبلتها بكل رحابة رغم ضعف الإمكانيات الاقتصادية وهشاشة البنية التحتية للبلاد في الماضي. هي نفس العشائر في الماضي والحاضر، التي تعاني حتى اليوم من مشاكل اقتصادية وتنموية حضرية وبنى تحتية في مناطقها الأبعد عن العاصمة عمان، والمدن الرئيسية. لم تولى العناية الكافية، والتوزيع العادل، مما تسبب بعشائرية ضيقة، قادت لتمسك كل فرد بعشيرته كحاضنة أساس، واللجوء لها كحماية ووسيلة لبث شكواها. وفي نفس الإطار، تسببت لأن يقوم كل مسؤول بضمان خدمة مصالح عشيرته نظراً لما يجده من افتقارها ومكونها لأساسيات الحياة الاقتصادية، وذلك بدلاً من تركه المجال للهوية المدنية، والدولة ومؤسساتها الضامنة للعدالة والمساواة، للقيام بالمهمة بدلاً عنه.
عقب الحرب العالمية الثانية، أراد البريطانيون فصل الأردن عن جغرافيتها الطبيعية (سوريا وفلسطين)، ومنعها من الدعم العشائري المقاوم لفلسطين وسوريا، فأخضعوها للوصاية والانتداب المباشر حتى العام ١٩٤٦، ومع ذلك أثبتت العشائر وطنيتها ولم تخضع. وبالتالي، الزج بالعشائر الأردنية التي لا يستطيع أحد التشكيك بوطنيتها وأخلاقها وحاضنتها وإنسانيتها، والفلسطينيين، بأتون العنصرية القائمة بين ناديي الفيصلي والوحدات؛ جريمة كبرى يستفيد منها أعداء الأردن في الداخل والخارج، ويجب الوقوف ضدها ووأدها من جميع العقلاء من الفلسطينيين والأردنيين، على المستوى الشعبي والرسمي، لأن الاستمرار في التغاضي عنها، لا يهدد وحدة الأردن وسلامته، وإنما يؤذن بانفجار الكراهية في أشكال أخرى لن تكون فقط حصراً بالرياضة، وإنما ستمتد لتشمل جميع نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مع التأكيد على أن المكون الأردني من أصول فلسطينية في المسألة يتحمل مسؤولية مشابهة للمكون الأردني. فرغم أن الدستور الأردني ينص صراحة أن من يحمل الرقم الوطني هو مواطن له كافة الحقوق وعليه كامل الواجبات؛ إلا أن هذا التحديد وعلى ما يبدوا لم يعُد كافياً لضمان السلم المجتمعي والتعددية الإثنية في الأردن، الوطن الواحد لجميع الأردنيين، وهو ما يتسدعي بدوره حلاً جذرياً لهذه الإشكالية، ولو إلى حين تحرر فلسطين واستقلالها التام، مع التأكيد على المسلمات المعروفة للقضية الفلسطينية الرافضة لفكرة التوطين والوطن البديل. حينها، ونراه قريباً بإذن الله لفلسطين حرة ومستقلة، لكل مقامٍ مقال.
المصدر: موقع سواليف - الكرة الأردنية وصراع الهويات القاتلة - سواليف (sawaleif.com)
لماذا لا نقرأ إلا الكتب الجيدة؟
مجلة اليمامة - 16-02-2025 بقلم: عماد أحمد العالم أو، ليكن تساؤلنا، لماذا يبحث الجميع عن الكتب الجيدة لقراءتها سواء كانت في الغالب الروايات...
-
بقلم عماد أحمد العالم سؤال بات من الملح علي أن أطرحه واتحدث عنه للعلن، بل أكتب عنه في ظل هوجاء مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت وسيلة...
-
موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...
-
مجلة اليمامة - 19-12-2024 بقلم: عماد أحمد العالم ما زال العديد يخلط بين بعض الأدب الرديء الأكثر انتشاراً من حيث عدد ونوع وشكل القُراّء، و...