السبت، 21 يونيو 2025

موراكامي في ظلال الحارس في حقل الشوفان

 الجزيرة الثقافية 18-04-2025
عماد العالم


لكلاسيكيات الأدب من روايات خالدة طعم خاص من الصعب أحيانا إدراك سبب تعلقنا بها وتوافق الآراء في الغالب على عظمتها، وهو ما لا أرغب بسبر أسبابه هنا، بمقدار استعارة أحدها لتكون مظلة قياس على أعمال الروائي الياباني ذائع الصيت هاروكي موراكامي، الذي بدون مبالغة أحد أكثر الروائيين تأثيرا في العصر الحاضر، لا من حيث فرادته الأدبية، وهذا رأيي الشخصي؛ بمقدار كون أعماله حاليا من الأكثر ترجمة للغات الأخرى، فضلا عن كونها الأكثر مبيعا في سوق الكتاب، الذي لم أقتنع يوما أن الأكثر توزيعا فيه وانتشاراً، بحكم الضرورة، هو الأفضل كقيمة أدبية.
موراكامي الذي قرأت له أكثر من عمل، وإن كان من أبرزها، كافكا على الشاطئ والغابة النرويجية؛ ما زال يبدو لي، وقد أكون مخطئا، ليس أكثر من نسخة تجارية حسنة السرد، ضخمة الحجم، مزهوة بلغة بليغة ووصف متقن، ولكن في نفس الوقت مقلدة ومكررة من الوحيدة التي صنعت عظمة الروائي الأمريكي سالينجر، أي الحارس في حقل الشوفان.
يبدو بالنسبة لي تأثر موراكامي بسالينجر واضحا، وان لم أقرأ له أو أسمعها منه مباشرة؛ وخصوصا في روايته «الغابة النرويجية»، حيث تكرر ذكر «الحارس في حقل الشوفان» عرضيا أكثر من مرة، دون الخوض في تفاصيلها أو إسقاط سلوك بطلها الوحيد على الشخصية الرئيسية في رواية «الغابة النرويجية». 
والمثل ينطبق على روايته «كافكا على الشاطئ»، قياسا على تكرار نموذج المراهق الشاب المتمرد دون وجهة ووضوح رؤية، والراغب في التجربة بلا هدف محدد. 
هذا الزج العرضي أو المقصود بذكر رواية «الحارس في حقل الشوفان» في رواية «الغابة النرويجية»، قد يكون إشارة من موراكامي بتأثره بسالينجر من باب الامتنان الأدبي والإعجاب الشخصي، وقد يكون لاوعي موراكامي هو من قاده للزج باسم الرواية في خضم سرده. وقد يكون وهذا جائز أيضا، أن يكون ذكر اسم الرواية لا يعدو كونه ضرورة سردية اختارها الراوي لتناسبها مع ما يراه مناسبا أو يتقابل مع شخصية البطل في روايته.
أما الاحتمال الآخر الوارد جدا، هو بأن يكون هولدن كولفيلد بطل سالينجر، بات رمزًا لتمرد المراهقة، والتحول من مرحلة عمرية لأخرى، وما ينتج عنها من تيه وثورة وتمرد على الحاضر والسائد، المترافق مع انعدام الرؤية والنأي عن الالتزام الهوياتي والعلاقات، وفقدان الهوية واضطرابها، والتوق نحو العُزلة. 
جميع ما ذُكر سواء اجتمعت أو أُخذت منفردة، يجعل من القراءة لموراكامي أحيانا تكرارا لسالينجر، كما يجعل منه مقلدا سواء أراد معالجة قضية حساسة روائيا، أو كان خطه الأدبي، أو كتب عما يجذب انتباه القرّاء ويُلامس شغفهم ورغباتهم ويلامس ذواتهم. وهو ما لا عيب فيه أياً كانت الاحتمالات، عدا أن الطول غير المبرر لرواياته، والسرد الْمُسهِب حد النفور، والتنميق الزائد والحشو، والوصف المبالغ فيه لحد الكمال، والذي يبدوا وكأنه مقصود لخلق صورة مثالية مكتملة المعالم لكل جزء وحدث وموقف وشكل، فضلا عن استخدام القالب ذاته أو «بارادايم» سالينجر؛ هو ما يعيب موراكامي، الذي يتوجب عليه الاقتصاد فيما ذكر لما لا حاجة منه، مع إيجاد نموذجه الخاص، لا «بارادايم» سالينجر لهولدن كولفيلد، المراهق المتمرد الذي وجد أن الفزّاعة التي يغرسها المزارعون في الحقول، والشوفان أحدها، تخويفا للطيور من إتلاف المحصول؛ هو الوصف الأقرب لهولدن كولفيلد، الذي وجد حياته عبثية في آن، وفاقد للشغف في أخرى، والوحيد وسط العالم الذي رغم حركته المتواصلة، لا يعدو أن يكون سوى سيقان متجاورة كثيفة العدد من الشوفان، الذي يقبع في منتصفه دون أي ارتباط معه، عدا استخدامه كفزاعة مزيفة غير حقيقية تظنها الطيور بشرا فتخشى الاقتراب من الحقل بسبب حركته التي تتسبب بها الرياح، بعد أن ألبسه من وثقوه بالأرض وغرسوه بها، ملابس الإنسان!
بطلا موراكامي في روايتيه الغابة النرويجية وفي كافكا على الشاطئ، مراهق وشاب جامعي، تراهم يسيرون بلا رؤى، وكأنهم مصابون بالتوحد في انعزاليتهم ورفضهم السير على خطى السائد مجتمعيا، ناقمين أحيانا وانعزاليين أغلب الوقت. ترهقهم الصداقات وتكون موضع تساؤلاتهم عن مدى أهميتها ومكانتها في حياتهم. يظهر عليهم انعدام الشغف والتكرار والرتابة والروتين، وفي أحيانٍ أخرى الرغبة في التمرد وكسر القيود، وكأنهما يعكسان مذهب الوجودية الذي نظّر له سارتر وكامو ويكاد تكون آثاره معدومة في وقتنا الحاضر، حيث كان انعكاسا لحقبتي العبثية في زمن حياة مفكري فرنسا المتمردين، كثيري التساؤل والرفض في نفس الوقت. 
بالطبع لا يضع موراكامي أمام القارئ نفس المشاهد، فالبيئة مختلفة، والثقافة اليابانية متباينة بشدة حد التنافر مع الثقافة الأمريكية، ولذلك يقدم دوما النسخة اليابانية لهولدن كولفيلد الأمريكي، مع أجواء نفسية يتم الزج بها لإضفاء روحانية وعمق تتناسب مع مفهوم صراع الهوية والتمرد الذي تتميز بها شخصية أبطاله، وهو الذي يبدو أحيانا موفقا، وبأخرى مبتذلا لا يتناسب مع سطحية الموقف. 
ومع ذلك، يبقى هذا الرأي تحديدا يتعلق بروايات موراكامي المذكورة آنفا لا جميع أعماله الأدبية. مع إنني أجد نفسي هنا ميالاً لذكر ما يُلاحظ على موراكامي بشكل عام، من استعراضٍ فج لمقدراته اللغوية التي قد تصل حد التنميق المبالغ به والحشو، والحوارات التي لا تتماشى مع السياق، والوصف المبالغ لعناصره ومشاهده وأحداث روايته وشخوصها من غير داعٍ سوى خلق صورة لا يحتاجها النص بمقدار «أنا» موراكامي الذي تصر دوما على إظهار عظمة مخيلته الروائية. وكذلك بالطبع الطول والسرد الْمُسهِب غير المبرر في غياب الحبكة والقصة والأحداث التي تستدعي ذلك، مع إباحية فجة، ووصف جنسي خادش لا علاقة له بالحبكة الروائية، لا تبدو الغاية منها سوى الزج فيها بالنص خارج السياق لإضفاء إثارة دَرَجَ موراكامي انتهاجها كسمة باتت واضحة في الكثير من أعماله.

الخميس، 20 مارس 2025

خرف الذاكرة

مجلة اليمامة 20-03-2025
عماد العالم


كنت أظن أن عدم تذكر القارئ المتذوق للأدب سوى النزر اليسير أو حتى اللاشيء من رواية بعينها سواء كانت من الكلاسيكيات الخالدة أو تلك التي تلامس النفس من جوانب من الصعب أحيانا إدراكها؛ دلالة على عور واضح في الذاكرة، أو دلالة على طريقة القراءة، وهو ما أشغلني على المستوى الشخصي فترات طويلة، حتى ظننت أن لدي مشكلة تكمن في ذاكرتي المتداعية إما بسبب ازدحامها بقائمة من حصيلة القراءة، أو لكوني أنتهج أسلوبا خاطئ يجعلني أحرص على الانتهاء من آخر صفحة من كتاب لتكون الأولى من التالي في سلسلة لا متناهية من قائمة القراءة التي تزداد يوما بعد الآخر دون ملامح لنهايتها يوما، في عالمٍ لا يمكن أن نحصي فيه ما يستحق أن يُقرأ في حياتنا رغم أضعاف ما لا يجب أن يُقرأ منه! بدد هذه الحيرة توافق جاء بالصدفة بعد عقود من القراءة، على يد الكاتب والروائي الأمريكي جون كوين في كتابه “هوس القراءة”، متحدثا من طرفه عن هذه الظاهرة من “خرف القراءة” كما يحلو لي أن أسميها أحيانا، مستذكرا جون كوين بدوره ذكرياته التي لا تنسى مع كتب بعينها، يكاد مثلي، لا يذكر منها شيئا سوا اسم مؤلفها وعنوانها، رغم ما تركته هذه الكتب في ذاكرتي وذاكرته من ذكريات خالدة تشبه تلك النشوة اللامتناهية من المتعة كلما خطر في ذهني اسمها، سواء على سبيل التأمل أو من خلال حديث أحدهم أو كتابته عنها. حقيقية، هناك روايات أضع إلى جانبها أعمالا، اختفت جميع تفاصيلها من الذاكرة بما في ذلك أقل قدر من التفاصيل وحتى موضوعها، لكنني وللسخرية، ما زالت أتذكر جيدا تلك المتعة العارمة والنشوة حين كنت أقرأها، رغم أنني لا أتذكر بدايتها وبمَ انتهت إليه. ما حنت علي به الذاكرة من ذكرى استمتاعي بكل كلمة وسطر وصفحة من روايات بعينها قرأتها في الماضي ثم نسيتها بالكامل، ومثلها مؤلفات متعددة المشارب؛ ساعدني للوصل لاستنتاج أن من جماليات القراءة فضلا عن المعرفة والتسلية وبناء البنية الثقافية والفكرية والعلمية والأدبية؛ هو أن القراءة للقراءة أحيانا دون هدف واضح مما نقرأ، ودونما رغبة في الاستفادة منها، قد تنتج أحيانا لذة من نوع غريب يجعل مجرد ذكرى قراءتها في حد ذاتها والاستمتاع بها في حينها، متعة لا يشوهها أبدا نسياننا لماذا قرأناها، ويكفيها أن تنعم علينا الذاكرة بكوننا أثناء قراءتنا لها قد استمتعنا في كل ثانيةٍ منها حتى لو لم نعد نتذكر لاحقا شيئا مما قرأناه فيها. ربما تكررت معي هذه الظاهرة بعد أن صممت على قراءة النسبة الأكبر من قائمة أعدتها صحيفة بريطانية بعد توافق النقاد والقراء، لأعظم مائة رواية في التاريخ. كان في تلك القائمة كلاسيكيات خالدة، أغلبها طويل مليء بالأحداث والتفاصيل، مما يجعل قراءة جزء كبير منها وتذكرها لاحقا مهمة شاقة، وخصوصا إن كانت الرغبة في طوي صفحة أحدها للبدء في الأخرى تتملك القارئ. ولذلك، أكون مثلا قد أصبت بلوثة الإعجاب اللامتناهي برواية ميدل مارش وجين آير ومرتفعات وذرنج وغيرها العديد، رغم أنني الآن وبعد سنوات من قراءتها لا أذكر شيئا منها، فضلا عن كون ما أسعفتني الذاكرة به، لا يعدو مشاهد متداخلة من مزيج منها دون أن أتذكر لأي من الروايات تعود هذه المشاهد. ومع ذلك، ما زلت أتذكر جيدا مدى سعادتي أثناء قراءتي لها واستمتاعي بكل لحظة في تفاصيلها، التي لم تبارحني لحظة حتى الآن، رغم أنني قد نسيتها كاملة!


المصد: مجلة اليمامة 

الثلاثاء، 18 فبراير 2025

لماذا لا نقرأ إلا الكتب الجيدة؟

 مجلة اليمامة - 16-02-2025
بقلم: عماد أحمد العالم


أو، ليكن تساؤلنا، لماذا يبحث الجميع عن الكتب الجيدة لقراءتها سواء كانت في الغالب الروايات والمجموعات القصصية، أو الكتب المتخصصة في مجالات بعينها. أيكون الغرض، مع التأكيد على صوابه، هو السعي في المقاوم الأول للمتعة والتسلية والمعرفة، وبالطبع للحصول على إجابات على تساؤلاتنا الخاصة أو المهنية. في السعي لكتاب جيد، ينثر أحدهم أو إحداهن تساؤلاتهم في أماكن عدة لضم رواية جيدة وكتاب لقائمة القراءة، باحثين في الوقت ذاته بين طيات صفحات الكتب التي تتحدث عن القراءة وهوسها ومتعتها، عن ترشيحات المؤلفين لأعمال خالدة وممتعة ومثيرة. ومع الأوصاف البراقة التي يستخدمها البعض لجذب انتباه القارئ لعناوين معينة، نكتشف أننا أحيانا قد خدعتنا أوصاف أحدهم في مدحه لكتاب أو رواية، سرعان ما سنكتشف أنها لا يمكن أن تتوافق مع معايرنا لما نريده أن يكون الكتاب الجيد. ومع كثرة الترشيحات والآراء المنتشرة في كل مكان، من وسائل التواصل الاجتماعي، لأحاديث المثقفين والقرّاء والمؤثرين؛ تزداد خيباتنا مما نجدها كتبا خارج سياق المتعة. وتستمر الحالة لما لا نهاية إلى الوقت الذي ندرك فيه أن العلة ليست في الترشيحات ولا المؤثرين والمثقفين وتوصيات القُرّاء النهمين واسعي الاطلاع والمعرفة، بل هي فينا. فنحن منذ البداية من ربطنا بحثنا عن هوية محددة ترتبط فقط فيما ندعوه وفق مقاييسنا بالكتاب الجيد، ولكن وفق ذائقة الآخرين! في اعتقادي، أن المشكلة الأساسية الأخرى فضلا عما سبق، تكمن في توصيف “الكتاب الجيد”. فحصر القراءة فقط بالكتاب الجيد تجعل منا قُرّاء اتكاليين على المؤلفين المتميزين، الذين يحملون عنا عناء السوء فيما يكتبون، فيقدمون لنا مادة سهلة الهضم، لا نكلف أنفسنا أثناء قراءتها اكتشاف عورها. بخلاف التجربة التي يمكن أن تمنحنا إياها الروايات والكتب السيئة، التي تمنحنا فرصة عظيمة لتفعيل ملكاتنا الأدبية والنقدية في السبيل لتكوين شخصية القارئ الناقد، الذي يمنحه السوء مجالا واسعا لاكتشاف الخلل، وفي نفس الوقت، تحديد ما يعنيه له مفهوم الرواية والكتاب الجيد. بدون الكتاب السيء، نبقى دوما رهينة تحكم المؤلفين وعبقريتهم ونبوغهم وجمال كلماتهم وحبكتهم وسردهم. وبالتالي، لا نستطيع أن نكتشف بأنفسنا ماذا يعني الحسن والسوء، فبدون الكتاب السيء لا معنى أبدا للكتاب الجيد، والعكس صحيح أيضا. فالضدين الجيد والسيء هما جوهر القراءة. أما الاقتصار على قراءة الكتب الجيدة دون السيئة، هو ما يضعنا دوما في بحث عبثي عما هو جيد وفق رؤى الآخرين الذين سبقونا في القراءة، وهو ما يعرضنا للارتهان للجيد والسيء وفق معاييرهم، لا وفق ذائقتنا. ينبغي علينا الاستمرار في قراءة الكتب السيئة دون أن تكون هي الطاغية، ولكن للحد الذي يخدم أدمغتنا ويعمل على تنشيط ملكاتنا النقدية لاكتشاف أسباب السوء فيها، ومن ثم لاستكشاف أسباب أخرى لروعة الكتب الجيدة، عدا تلك التي يتحدث عنها الجميع.

المصدر: مجلة اليمامة

السبت، 21 ديسمبر 2024

الأدب الجيد والرواية الرديئة

 مجلة اليمامة - 19-12-2024
بقلم: عماد أحمد العالم


ما زال العديد يخلط بين بعض الأدب الرديء الأكثر انتشاراً من حيث عدد ونوع وشكل القُراّء، والأدب الأقل انتشاراً رغم كونه الأكثر صناعة للوعي والذائقة الأدبية، وذلك أثناء الحديث عن روايات الفانتازيا والخيال والتشويق البوليسي، التي عرف التاريخ الأدبي حضور لها في أزمنة كثيرة بما فيها عصرنا الحالي، والذي بات حاضرا حديث معارض الكتاب بعد تكرار حالات الهرج والمرج من قبل جمهور قرّاء أثناء حفلات توقيع الروايات، متسبباً بإثارة انتباه الكُتّاب والنقاد للروائيين المجهولين الذين باتوا الأكثر شهرة بين مجهولي الهوية الروائية ومنزوعي القيمة الأدبية، بالرغم من أن طيف واسع ممن تناولهم نقدا أو إطراء، ولا أعمم، لم يكلفوا نفسهم عناء الاطلاع على منتوجهم وقراءة رواياتهم، ليكون الحكم عليهم وفق النص ودلالاته، ومكامن قوته وضعفه؛ لا الإطار العام لنهجهم ونمطهم وأسلوبهم وجمهورهم.
‏لا بد لنا بداية أن ندرك أن الأدب ليس بقالب واحد ينهجه الأدباء بمن فيهم الرواة والقاصين والحكواتية “storytellers”، فهناك أشكال منه تحذو حذو المتعارف عليه من حيث الالتزام بأسس الأدب الروائي وتياراته ومدارسه. وهناك في المقابل، نوع من الأدب بحكم انتمائه للرواية، وإن لم يلتزم بالإطار الروائي؛ يقود المراهقين وصغار السن لحالة من الإعجاب المبني على فضول مثار تجاه قصص الجن والعفاريت والجرائم البوليسية وفانتازيا الرعب، دون أن يكون له تأثير وعي ثقافي سوا إرضاء فضول فئة يغلب عليها صغار السن المتفتحين على قراءة التشويق والإثارة، أو حتى ما يُمكن أن نطلق عليه الهّبة «الترِند».
دون أن نغفل بالطبع، الأدب الأهم الأكثر فائدة وتأثيرا رغم بعده عن منصات التتويج، وهو الذي يصنع الوعي والذائقة الأدبية الحقيقية والفعلية، مؤطراً وممكنا للقارئ الناقد لا القارئ الناقل أو العابر أو المرتبط فقط بغرائزه وصيحات جيله والمكان/الزمان الذي يعيش فيه.
باعتقادي، ودون أن يكون في الرأي انتقاص مما سأطلق عليه «أدب صغار السن والمراهقين»، ولا الحط مما وصل له قلة من الرواة والقاصين من تأثير واضح وحضور لافت وانتشار كبير يحسده عليهم الرواة المعروفين المفتقدين لمكاسب على أرض الواقع؛ أرى أن المبالغة في تناول ظاهرة روايات فانتازيا المراهقين، جزء منها دعائي، وآخر استرعى انتباهه انحدار الذائقة، وثالث أخذته الحمية والانتماء والعاطفة ليكون حصان طروادة في الدفاع عنه وما وصل إليه، ورابع وهو الأكثر سخرية، استخدم النظريات الأدبية والعلمية للدفاع عن روايات أحدهم، ولتبرير نمطه وأسلوبه، بما في ذلك الهجوم على منتقديه من النقاد والأدباء، واتهامهم بالغيرة والحسد، متناسين أن ما يبقى وتخلده الذاكر هو الأدب الحقيقي، الحافر بصمته عبر الزمن بأعمال مضت عليها عقود وقرون وما زالت تُقرأ حتى يومنا هذا، بخلاف روايات الإثارة منزوعة القيمة، وإن كانت ترى مجداً في السنين الحاضرة، إلا أن حكم الوقت عليها آتٍ كما فعل مع من سبقها، ليهملها بعد أن كانت مجرّد نزعة فضول ودعاية عابرة!
وعند الأخير أتوقف، مستعرضا استشهاد أكاديمي بنظرية «موت المؤلف» للناقد والأديب والعالم اللغوي الفرنسي رولان بارت، وإسقاطها مثلا على روايات أحدهم، لإثبات ما لا يمكن إثباته بأن نصه يحمل في داخله مكامن القوة التي تفسر سبب انتشاره وتأثيره الكبير، في إسقاط مدمر لطبيعة نظرية موت المؤلف لعراب التيار البنيوي وأحد رواده الأوائل، عبر استحداث مقاربة في غير محلها، لإعطاء مكانة أدبية لروايات جُل نجاحها لا يكمن في اللغة والعبارات والبناء البلاغي للنص، وإنما بأعداد التوزيع الكبيرة، وجذبها لصغار السن، دون الأخذ بالاعتبار، ومع كل الاحترام للراوي وجهده، بكونها لا تعد أدبيا روايات تمثل أدباً حقيقياً يرتقي بالذائقة الأدبية لقرائها، بل أقرب ما تكون ربما لنسخة رديئة من روايات أجاثا كريستي.
بعض المتحمسين للظاهرة، وصلت بهم المبالغة لدرجة عقد مقارنة بين روائي أدب «الهبّة/الترِند»، بأسلوب أيقونة الواقعية السحرية، الروائي غابريل غارسيا مركزيا، عاقدين مقارنة بين ما يكتبوه، والروايات الخالدة لأسطورة أمريكا اللاتينية، بما فيها عمله الأيقوني «مائة عام من العزلة»!
أما الهجوم الشعبوي الذي يشنه حماة حمى ظاهرة الأدب الرديء، فأكثر ما استرعى اهتمامهم، هو تصويب سهام نقدهم لطبقة المثقفين، لا من واقع نقد لإعادة البوصلة باتجاه تكريس وجود «المثقف العضوي» كما وصفه غرامشي، وإنما كما ظهرت في العديد من أقوالهم، للانتقاص لمجرد الانتقاص من الثقافة والفكر والأدب. وهو ما يؤشر في حد ذاته على اتساع الهوة عربياً بين المجتمع بعامته، والأقلية من النخب البعيدة عن إما إقامة جسور التواصل، أو الْمُراد لها أن تبقى مُغيبة!
بعيدا عن المقارنات المليئة بالمغالطات المنطقية، والحماس الغير منضبط المدافع عن روايات الفانتازيا الرديئة، والناقدة له دون تبيان مكامن العور فيه، أرى أن بالإمكان الاستفادة من موهبة البعض القصصية، للارتقاء بذائقة صغار السن من القراء، وانتهاز تأثيرهم لإحداث بصمة أدبية بدلا من الاستمرار في الاعتماد على التشويق القائم على إثارة الفضول، مع انتهاج حبكة يتم استخدامها في عالمهم الصغير دونما بلورة لقيم ومعايير تجعل منهم قراء شغوفين بالقراءة للمعرفة، بدلا من إشباع فضولهم الوقتي، وملئه بقصص الجن والشياطين والعفاريت.


المصدر: مجلة اليمامة - العدد 2839 / 19 ديسمبر 2024 - الأدب الجيد والرواية الرديئة.

الأربعاء، 13 نوفمبر 2024

إسلامان: إسلام سني للأغلبية وإسلام شيعي للأقلية

 موقع ميدل إيست أونلاين / 11-11-2024
بقلم: عماد أحمد العالم

لو قُدر للمهدي الظهور، فبرأيكم أي المذاهب الإسلامية سيختار، ومن أيٍ منها ستنطلق دعوته ليعم السلام والوئام الأرض ويقضى على الجور والظلم؟
هل ستنحصر المنافسة بين الطائفتين الإسلاميتين الأكبر وهما السنة والشيعة، أم ستدخل في المنافسة بقية الطوائف كالإسماعيلية والزيدية والصوفية والأشاعرة والإباضية، وغيرهم ممن يرى بنفسه الصواب والبقية على خطأ؟ أو، ولنكن صريحين دون مواربة، على ضلالة كما يرى بعضها الآخر المختلف عنها رغم انضوائها جميعاً تحت بوتقة الدين الواحد، الذي يؤمن اتباعه بالشهادتين وبرسول الله كخاتم الأنبياء والمرسلين، وببقية الأركان من صوم وصلاة وزكاة وحج.
لماذا اتسمت علاقة المذاهب الإسلامية بالتنافر والتشاحن بدلاً من التقبل والتعايش المشترك، وهل رجال الدين هم السبب؟ أم العلة في نصوص أُجتهد فيها لتمنح المعتنقين الصواب على غرار الآخرين، أم أن السعي للسلطة هو المتسبب، وبذلك جُيرت العاطفة الدينية لتخدم أهواء الطامحين فيها ولما يتناسب مع دعواتهم التي لاقت جماهير متعطشة لتفريغ كبتها ومقتها لأوضاعها السياسية والاقتصادية، فانقادت عاطفياً وصاغرةً.
من قراءة مبكرة للتاريخ، نجد أن السياسة هي أحد أهم المسببات. فالدولة الأموية وبعدها العباسية وكذلك الفاطمية والصفوية جميعها قامت على أسس دولة الخلافة والملك الوراثي، ولتأطيرها مارست الانتقائية في اختيار نصوص من الشريعة وحتى بعضها تم اختلاقه لإعطاء صبغة روحانية للحاكم وشرعية لسلطته تلزم الشعوب بالبيعة والقبول بالسلطة دون اعتراض.
لماذا لا يتذكر السنة والشيعة على حدٍ سواء أن علي بن أبي طالب رفض الخروج على بيعة أبي بكر يوم السقيفة رغم أن البعض استنكرها وفضل ترشيح صهر الرسول وابن عمه وربيبه. وقتها لم يمكر الصديق لمؤيدي علي، ولم يسعَ للانتقام منهم.
اليس الأجدى بأتباع الطائفتين أن يقتدوا بملهمها في نبذ العنف والتآخي، علماً أن أصحاب الشأن أنفسهم عملوا بها ونبذوا الفرقة، فيما الأتباع لاحقاً ومنذ قرون مديدة يتصرفون بتعصب لقومٍ هم في الأساس أول من دخل في دين الله وآمن بدعوة رسوله ودعمها بالسلاح والمال والدعوة، وبقوا طوال حياتهم صحابةً كرام وأحبة يجمعهم وعدٌ وبُشرى بالجنة، فما كان بينهم هو اختلاف في وجهات نظر لم تتحول لخلافٍ يؤدي لقطيعة وحروب تسفك بها الدماء، وذلك حمايةً للإسلام من التفتت والتشرذم والانشقاق، وهو الذي حصل بعد ذلك لأسبابٍ كان الدافع المبدئي فيها الاعتراض على نفوذ حكم والمطالبة به لطرف على حساب آخر.
بداية الخلاف كانت فرقة سياسية، تم تجييرها مذهبياً لدرجة أن المذهب نفسه بعد ذلك عمل على التشعب وكرس الفرقة لتصبح عقائدية، فبدلاً من أن تكون السياسة هي السبب أصبح المذهب هو ما يُفرق.
ويبقى السؤال: ألا يجب علينا كمسلمين إيجاد قواسم مشتركة يمكن البناء عليها لنتجاوز خلاف القرون الأولى حول الخلافة والحكم والحاكم ومن أحق بها، والتخلص من رواسبها التي تميز طبيعة العلاقة القائمة حاضراً بعد أن ندرك أن الخلاف الجوهري قد ذهب مع الريح وانقضى زمانه، أم وصلنا لليوم الذي يكون لنا فيه إسلامان أحدهم إسلام سني ذي أغلبية وإسلام شيعي للأقلية؟

المصدر: ميدل إيست أونلاين - إسلامان: إسلام سني للأغلبية وإسلام شيعي للأقلية | عماد أحمد العالم | MEO

الخميس، 23 نوفمبر 2023

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

 موقع ميدل إيست أونلاين
10-11-2023
بقلم: عماد أحمد العالم


سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حقيقة ما آلت إليه أوروبا التي لم تعد "ولو ظاهرا" أوروبا العدالة الاجتماعية، ومبادئ حقوق الإنسان المعلنة وحرية الرأي والتعبير والمساواة وقدسية الروح البشرية والإنسانية كما روج لها على مدار العقود الماضية الطويلة. فحرب غزة الكاشفة وكأنها قد أعادت أوروبا لحقيقة واقعها السياسي المؤمن بذاتيتها المتعالية على من سواها من البشر، التي تراهم دونها مكانة وإنسانية وقدسية بشرية إن تقاطعت وتضاربت أي من حقوقها مع المصالح الأوروبية في الحقبة ما بعد الاستعمارية، التي مارست قبلها وأثناءها الإبادة البنيوية بعد بسط سيطرتها وسيادتها على العالم الآخر بما فيه الأرض والبشر.
هي ذاتها أوروبا التي شهدت في حقب متعددة عزلها لليهود في غيتوهات مغلقة على أطراف المدن، وهي ذاتها من قامت العديد من دولها بطردهم من أراضيها وتشتيتهم وإقصائهم مجتمعيا، وصولا لارتكاب الهولوكوست الألماني بحقهم، بعد أن تمكنت النازية من تأطير ثقافة بيروقراطية الدولة المعطلة لأي شعور إنساني لدى المنتسبين لها حتى لا يشعروا بالذنب تجاه أيٍ من ممارساتهم القمعية والإبادية بحق اليهود والغجر والمعاقين الألمان، الذين كانت تراهم عبئاً غير مقبول وجوده وتواجده في دولة الرايخ.
هي أوروبا نفسها العاملة بتفاهة الشر كما وصّفتها المفكرة اليهودية الألمانية الأميركية، حنة آرنت، والتي جعلت من ممارسة الشر تفاهةً تسمح بالقتل بضمير مرتاح، بعد أن مكنتها قوتها الصناعية والعلمية من تبوأ مكانة عليا سهّلت عليها استعمار العالم واستنفاد ثرواته بعد أمن منحتها الحداثة وعصر النهضة والتنوير ثورةً فكرية فلسفية أطّرت في خضمها للقيم والمفاهيم والمعايير الإنسانية العدلية والحقوقية، التي لم تكن في نفس الوقت كافية لبناء وعي حقيقي قيمي تستند إليه منذ قرنين ويزيد يؤطِّر لقدسية الإنسانية بما فيها من قيم العدالة والمساواة، عدا تلك التي خطتها في دساتيرها لشعوبها لتتمتع بهامش واسع من السعة والرفاه بعد قرون الاقتتال البيني والحروب الأوروبية المستعرة لمصالح قومية وعرقية وسياسية ودينية وجيوسياسية جعلت الاقتتال والإبادة عقيدة أوروبية وأسلوب حياة، لم تتخلص من وقعه في قارتها، إلا ونقلته للعالم الآخر غير الغربي الذي عانى وما زال من تبعاته، وإن ادعت خلاف ذلك عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وتبنيها ظاهرا لسياسات حقوقية تم قوننتها في إطار الشرعية الدولية ومؤسساتها، التي بات جليا فشلها وعقمها وشللها التام تجاه اتخاذ أي موقف منصف سوا بيانات الشجب والإدانة والاستنكار.
ردة الفعل الأوروبية هذه المرة والتي تمثلت بالمستوى الرسمي على لسان وأفعال ومواقف رئيسة المفوضية الأوروبية، وقادة دول القارة الرئيسية، من منح تفويض مفتوح لارتكاب مجازر الإبادة بحق مدنيي غزة من مدنيين أغلبيتهم العظمى من النساء والأطفال وكبار السن دون أدنى محاذير، مع إنكارهم المتعمد ونفيهم لتلك التي طالت المدارس والمستشفيات؛ فاقت الخيال في تماهيها مع ما سمته الإجراء الانتقامي المبرر والمستحق رغم التقارير الدولية والإعلامية المحايدة والمستقلة التي تحدثت عنها بوضوح واتهمت القوات الإسرائيلية بارتكابها. هذا فضلاً عن الموقف الأوروبي الرافض لأي هدنة إنسانية، والغاض النظر عن قطع الماء والكهرباء، والتدمير الكامل والجزئي لما يعادل نصف المنازل في غزة بما فيها البنية التحتية والمؤسسات الخدمية والعامة، وسياسة التجويع الإسرائيلية بحق مواطني القطاع من المدنيين العزل، واعتبار ذلك تصرفاً إسرائيلياً مقبولاً، دعمته بغض نظرها عنه ورفضها المتواصل لاستنكاره وإدانته.
يرى العالم غير الأوروبي بما فيه طيف واسع يتزايد يوماً بعد يوم في الشارع الأوروبي نفسه، أن انحياز الدول الأوروبية على المستوى الرسمي للجانب الإسرائيلي قد قضى بشكل كامل على أي اعتبارات كان يجد القيم والمعايير الأخلاقية والقانونية الأوروبية تمثلها في السابق، وبأنها في حقيقتها ليست إلا نفاق انفضح زيفه مع الحرب الإبادية على غزة تحت نظر العالم وسمعه، والتي يمثل المدنيين الأبرياء العزل الغالبية العظمى من ضحاياها.
على الشعوب الأوروبية قبل العربية والإسلامية والشرقية وغير الغربية، أن تعي جيداً الآن أن ما قبل الحرب على غزة لن يكون كما بعدها، وبأن السياسة الرسمية الأوروبية الرسمية قد قضت على سمعة أوروبا التي اجتهدت على مدار عقود طويلة لتكريسها والدعاية لها، فلن تكترث شعوب العالم بعد الآن لأوهام الدعاية الأوروبية المتعلقة بحقوق الإنسان، وسعيها لتكريس قيم الديموقراطية والعدالة والمساواة، ولن يصدقوا أبداً أن أي تدخل أوروبي غربي أممي في أي مكان في العالم وخوض الحروب هو في سبيل حماية المدنيين والدفاع عنهم. كما أن الجميع لن يولوا اعتباراً لما سيعدوها أكاذيب أوروبا المتعلقة بسيادة القانون، بما فيها المؤسسات الدولية والأممية كمنظمة العفو الدولية والمحكمة الجنائية الدولية المناط بها مسؤولية محاسبة ومحاكمة مجرمي الحرب، والتي لم تجرؤ حتى يومنا هذا على محاسبة أي مسؤول إسرائيلي أو غربي طوال تاريخها منذ إنشائها وحتى يومنا هذا.
فقدت أوروبا مصداقيتها، ولن يصدق أحد أنها دول عدلية حقوقية أخلاقية تحترم الحقوق الإنسانية وتسعى للالتزام بها، بما فيها شعوبها التي ربما لن تعتبر لإسرائيل الحق مجدداً للدفاع عن نفسها بعد أن رأت صور المجازر المرتكبة بحق المدنيين العزل في غزة، ولن تتماهى مع المبدأ السابق المعتبر انتقاد تصرفات إسرائيل معاداة للسامية، والمستلهم قوته من تعاطف الشعوب الغربية سابقا مع الهولوكوست، التي ترى الحكومة الإسرائيلية ارتكبته بحق سكان غزة، وبهذا لن يشفع الهولوكوست مجددا ولن يبرر لفظائع العدوان الإسرائيلي على غزة.
صدمة المثقفين العرب بمن فيهم المؤمنين بالقيم الغربية، والمعتنقين للعلمانية والليبرالية والتنوير الغربي الحداثي، استدعت طرح التساؤلات عن حنين أوروبا لماضيها القديم، وإصابتها بنوستالجيا الماضي وحلم العودة لبناء ذاتيتها القائمة على الآخرية Othering كما وصفها إدوارد سعيد، والمبنية على نحن الأعلى، والآخر الأدنى العدو الأزلي الهامشي.
هذه الصدمة المنافية لقيم التنوير الأوروبية وحداثتها الما بعد تاريخية الْمُرسية لقيم كونية، لا تتعلق فقط بالمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وإنما تتعداها لقيم واتجاهات ثقافية اجتماعية سياسية ستلقي بظلالها على نظرة الجميع لأوروبا في حقبة ما بعد حرب غزة 2023، ولن يشفع لها الندوات والأقلام والدراسات والمساعدات وإعادة الإعمار ومحاولات التبرير العبثية، لتبرأة الموقف الرسمي الأوروبي من الدم الفلسطيني في غزة والذي سيكون علامة سوداء في تاريخها المعاصر، ستتجلى انعكاساته على التعامل معها على الأقل شعبيا، بما يحمله من تهديد كبير لمصالحها في الحاضر والمستقبل، وينبئ ببوادر صراع حضاري سيطول أمده، وستنال انعكاساته أوروبا اقتصاديا وسياسياً. ودون أن نستثني أيضاً مآلات المأزق السياسي الذي وضع السياسيون الأوروبيين أنفسهم فيه أمام شعوبهم، وما سيترتب على انحيازهم من مساءلة ومحاسبة مجتمعية لفرضهم قوانين وممارسات استثنائية لا دستورية على شعوبهم أثناء الأزمة، حدت من حقوقهم الأساسية في دولهم من قبيل حرية الرأي والتعبير والتظاهر، على غرار تصرفات وأفعال وأقوال وزيرة الداخلية البريطانية ورئيس حكومتها، ومثلها في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.

الأربعاء، 30 أغسطس 2023

أوبنهايمر، كيف تقتل بضمير مرتاح!

 موقع ميدل إيست أونلاين / 27-08-2023
بقلم: عماد أحمد العالم


كعادة أي فيلم يسبقه دعاية كبيرة تصوره كفيلم العام المرشح لنيل جوائز أو لتحقيق أعلى إيرادات شباك التذاكر؛ يستمر مسلسل تتفيه الشر الأمريكي، الذي عادةً ما ترعاه هوليوود وصناعة السينما بالولايات المتحدة، التي رغم كونها والحديث هنا عن هوليوود، ليبرالية شديدة التطرف بما تسبغه على نفسها من حرية التعبير والرأي والاعتناق والفكر؛ إلا أنها الْمُحلل والمسوغ والمفكر المبرر لجميع الشرور الأمريكية عبر التاريخ الحديث، عبر تلاعبها بالحقائق وتزوير التاريخ لتكون قراءته فقط وفق وجهة النظر الأمريكية ورغبتها لما تريد أن تكون الأحداث عليه. كيف حصلت ولم حدثت والأسباب التي استدعت حدوثها.
بالطبع، عدم تعميم ما سبق لا ينفي أن الغالبية العظمى من منتوج السينما الأمريكية ينطبق عليه التوصيف السابق، عدا القلة القليلة جدا من أعمال سينمائية منصفة غردت خارج السرب، وإن كانت في واقع الحال الشذوذ الذي يثبت القاعدة.
ما استدعى هذه المقدمة، تعقيب سأحاول أن يكون مختلفاً بشأن فيلم أوبنهايمر، الذي لم يخرج الجدل بشأنه بين ممجد وناقد، ولكلٍ بالطبع حججه التي عادةً لا تخرج من إطار من يراه تحفة فنية شدته بتصويره وحواراته وموسيقاه التصويرية، وسيناريو الفيلم وأحداثه، والابداع بأداء أبطاله وحواراتهم، وبين من لم يخرج عن تابو التشكيك بأي عمل فني أمريكي ورفض ما جاء فيه بالمطلق.
أما الزاوية التي سأعلق من خلالها فستكون سيراً على ركب فيلسوفة "الشر" ومنظرته الأبرز حنة آرنت، وتقديمها لما سمته تفاهة الشر أو banality of evil في سعيها لتفسير ارتكاب جرائم ومجازر من قبل بشر طبيعيين لن نتوقع قبل ارتكابهم للجرم فعلهم له، ولا عدم شعورهم بتأنيب ضمير نتيجة اقترافهم له.
الفكرة واحدة، وإن استطعنا استغلالها وإسقاطها على الدعاية الأمريكية بشقها الرسمي والخاص، السياسي والأدبي والفني؛ سنجدها نهج دأبت الولايات المتحدة انتهاجه لتبرير أفعالها.
سياسياً مثلاً، كان برنارد لويس ومارتن كريمر وغيرهم من المستشرقين الأمريكيين، أو كما يحلو لهم التسمية كمتخصصين مناطقيين أو بالدراسات الشرق الأوسطية؛ المحللين والمبررين والمسوغين علمياً وفكرياً وقانونياً للكثير من السياسات والتصرفات الخارجية الأمريكية بما فيها حروبها وغزواتها وتدخلها بسياسات الدول الأجنبية، ورعاية أجهزتها للأنظمة الشمولية والديكتاتورية.
هذا من جانب، ومن آخر، كانت هوليوود التي لا تخفي عداءها للنهج المحافظ بما فيه الحزب الجمهوري والرؤساء الأمريكيين؛ اللاعب الأبرز شعبيا على المستوى المحلي والعالمي في توجيه الرأي العام تجاه القضايا الأمريكية، وتصويرها على الدوام بما يخدم أهدافها وسياساتها، وبما يبرر نهج "كيف تقتل بضمير مرتاح" دون أن تُلام، بل تشجيعك والتبرير لك.
البداية المبكرة كانت في العام ١٩٤٩ ميلادية عقب تقسيم برلين وبداية الحرب الباردة برعاية ثقافية وفنية من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، مروراً بحرب فيتنام والعقود التي أعقبتها وشهدت حركة سينمائية أمريكية نشطة لتصوير بسالة أمريكا وحقوقيتها ووحشية الشعب الآسيوي، الذي لم يختلف في إجرامه كما صورته هوليوود، عن الهنود الحمر، والإيطاليين عرابي عصابات المافيا، والمكسيكيين الهمج المغتصبين، والسود القتلة، وتجار المخدرات الكولومبيين، والعرب والمسلمين الإرهابيين، والروس المتوحشين، والصينيين الدنيئين.
القائمة طويلة ولا يمكن حصرها هنا، وإن خرجت دراسات وأبحاث جادة تحدثت عنها وكيفية صناعة العدو على الطريقة الأمريكية وتشويه سمعته واختزاله بصورة نمطية معينة تبرر لأي إجراء سابق أو حاضر ومستقبلي بشأنه.
في فيلم أوبنهايمر أو عراب القنبلة النووية الأمريكية، كان لا بد حتى عقود من الجريمة الأبشع عبر التاريخ، من الاستمرار في تأكيد أن مجزرة هيروشيما وناغازاكي النووية، شر أخلاقي لا مفر منه؛ بل هو خير نتائجه على فظاعتها أسدت البشرية معروفاً بإنهائها الحرب العالمية الثانية، بواسطة أمة أخلاقية لها ما يسوغ فعلتها تجاه إجرام الإمبراطورية اليابانية، وكحركة استباقية كيلا يفكر الاتحاد السوفيتي أو أي من قوى الشر في العالم اتخاذ خطوة مماثلة.
هذا هو جوهر ومغزى الفيلم باختصار عبر استغلال السيرة الذاتية لبطل الفيلم لتسويق هذه الفكرة الشريرة كأحد أهم عمل خير قدمته أمريكا للعالم أجمع وشعوبه بمختلف أطيافه!
استهداف المدينتان اليابانيتين قد يبدو شراً لناظره، لكنه شر تافه يحمل شق خير وآخر مأساوي يمكن التغاضي عنه مقابل تفاهة شره.
هذا من جهة مفهوم تفاهة الشر لدى حنة آرنت، أما إن استخدمنا تفسير زيجمونت باومان للهولوكوست واستخدمناه على الحدث، فسيفيدنا لتبيان عدم شعور المنظومة الأمريكية كاملة تجاه الفعل بالذنب، بما فيه من أصدر أمر إلقاء القنبلة النووية، والطيار الذي سار بها، والمهندسين والعلماء الذين صنعوها، وحتى حارس المستودع وعامل النظافة والمطعم الذين كانوا جزء من فريق العمل. جميعهم كانوا جزء من المنظومة البيروقراطية للدولة الأمريكية، أقسموا على الولاء لقيمها الخاصة المفروضة عليهم بغض النظر عن مرجعياتهم الأخلاقية الإنسانية، والتزموا بتنفيذ الأوامر بناء على ذلك، ولكن دون أن يشعر أي منهم بأن عملهم في هذه المنظومة تسبب بعملية القتل المباشر لربع المليون من اليابانيين الذين قضوا بسبب القنبلة. فهم لم يشتركوا بشكل مباشر في فعل القتل نفسه الذي تكفلت به القنبلة، ومهمتهم اقتصرت على جزئيات بعينها كثيرة ومتعددة جدا في الجريمة لدرجة تاهت معها المسؤولية المباشرة عنها.
لم يتطرق فيلم أوبنهايمر لتبعات القنبلة النووية وأثرها المدمر على اليابانيين على مدار عقود جسدياً ونفسياً، إلا بشيء من الاستخفاف المقصود لتأكيد تفاهة الشر، ولا عرض صوراً من الدمار الشامل الذي تسببت به حتى لا تُكشف حجم المأساة بالتأكيد. هذا فضلاً عن جمل مقصودة بحواراته المملة الطويلة، حيث أكد بأحدها مسؤول أمريكي استبعاد مدينة يابانية كأحد الخيارات الاثنا عشر كهدف لكونها تحمل بعداً ثقافياً، والمهم للمسؤول، لأنها كانت حيث قضى شهر العسل برفقة زوجته!
ثلاث ساعات عبثية مملة سيقضيها من سيتابع الفيلم، متوسط الإخراج والموسيقى التصويرية والحبكة السينمائية، والسيناريو غير المقنع بتاتاً إلا بنجاحه بتوظيف سيرة ذاتية لأبو القنبلة النووية الأمريكية ومدير مشروع مانهاتن؛ لتكريس حقائق وطمس أخرى، وممارسة مزيد من الخداع والتضليل عبر خلق أيقونة أمريكية أو إعادة إحيائها ومن ثم تمرير الرسائل من خلالها، التي يجب أن تنجح، وقد حدث ذلك دوماً عبر هوليوود، ومع الغالبية العظمى التي تأثرت مسبقاً بالضجة الكبيرة للفيلم قبل عرضه، وبآراء النقاد الإيجابية بشأنه، فكان الجميع وكالعادة دمى عرائس يتم تحريك حبالها.
تقييمي بفشل الفيلم على جميع الأصعدة لا يعني إنكاري بنجاحه فيما أراه فشلاً، فقد حرف بوصلة المشاهد من النقمة تجاه أوبنهايمر المتحمس جداً لصنع القنبلة النووية والسعيد بنجاحها في القضاء على الخصم الياباني بداية، دون أن يخفي أمنية لم تتحقق باستخدامها على الألمان المهزومين في الحرب كانتقام لبني قومه من اليهود ضحايا المعسكرات النازية. وهو ما عبر عنه في عدة مشاهد، ليتوه المشاهد بين وطنية أوبنهايمر ورغبة الانتقام لديه من النازيين. لكن هذه الرغبة والسعادة سرعان ما تم طمسها بالترويج لأخلاقية أوبنهايمر الرافض للقنبلة الهيدروجينية والنشط ضد استخدام أسلحة الدمار الشامل، والمروج لاتفاقيات أممية للحد من تصنيع واستخدام الأسلحة النووية، يتخللها مشهد مقت الرئيس الأمريكي ترومان له عقب مقابلته واستماعه إليه، والطلب بألاّ يدخل هذا البكاء كما وصفه، مكتبه مرة أخرى.
أوبنهايمر الذي قتل مئات آلاف اليابانيين بضمير مرتاح في البداية، تم تحريف نقمة المشاهد تجاهه، بتصوير عداء رئيسه السابق له ومكره الذي توجهه بتشويه سمعته وحرمانه من تجديد تصريحه الأمني.
عند هذه المرحلة، يتم التلاعب بالمشاعر الإنسانية والعاطفة، التي ترفض الظلم والمكر، فتتناسى أخطاء المجرم لمجرد تعرضه للخيانة، وتتحول النقمة والكره تجاهه لتعاطف نجح صانع السيناريو بتحقيقه مع مشاهدين تعاطفوا مع بطل أمريكي American hero تم تقديره أخيراً بعد عقود من ظلم تعرض له رغم ما قدمه للوطن وشعبه!أوبنهايمر وإن كان الفيلم يلخص السيرة الذاتية لروبرت أوبنهايمر كهدف معلن؛ إلا أنه دون شك كرس ورسخ مفهوم تفاهة الشر الأمريكي مهما كانت شناعته وتأثيره على الآخرين، وأكد المؤكد من حيث "كيف تقتل أمريكا بضمير مرتاح"!

المصدر: ميدل إيست أونلاين - أوبنهايمر، كيف تقتل بضمير مرتاح! | عماد أحمد العالم | MEO (middle-east-online.com)

موراكامي في ظلال الحارس في حقل الشوفان

  الجزيرة الثقافية 18-04-2025 عماد العالم لكلاسيكيات الأدب من روايات خالدة طعم خاص من الصعب أحيانا إدراك سبب تعلقنا بها وتوافق الآراء في الغ...