الجمعة، 19 سبتمبر 2025

الساعة الخامسة والعشرون لــــ « قسطنطين جيورجيو » .. الرواية التي فضحت الحضارة الغربية

مجلة اليمامة 18-09-2025

عماد العالم


رواية الساعة الخامسة والعشرون، للكاتب الروماني قسطنطين جيورجيو، رواية واقعية تشرح جميع الحروب ومآسيها، وظلم الانسان وجبروته وقدرته اللامتناهية على التلاعب بالقانون، وكأنه يقول بأن القوانين وضعت ليتم خرقها، لا للصالح الإنساني، وإنما للغرب الحداثي المتلاعب بالعقول والثقافات، والموجد معاييره الأخلاقية الخاصة التي يراها المرتكز لما سواه من الأمم. فالتلاعب بالقانون ومهما قيل عن حرمته انطلاقا من فصل السلطات والعدالة المقدسة، لا يعدو أن يظهر في المطامع السياسية والحروب المترتبة عليها، كاشفا زيف الحضارات التي تدعي القيمية الأخلاقية الإنسانية، بجلاء ووضوحٍ رغم إصرارها على أن تكون الحكم والقاضي والجلاد والقديس والفيلسوف والمفكر، المنظِّرين جميعهم لإملاءاتٍ مفروضة على الأمم والثقافات الأخرى، رغم انكشاف زيفها وممارساتها التاريخية، القديم منها والحديث، بإبادتها العرقية والمذهبية ولأسباب جيوسياسية واقتصادية، ارتكبت في سبيل تحقيقها أبشع مظاهر القهر الإنساني، فضلاً عن استمرارها في الحاضر متخذةً من ازدواجية المعايير نهجاً سوغته وقبلت به. سينتاب القارئ ولا بُد، شعور متناقض أثناء قراءة الرواية، لتمكن كاتبها بواقعية مفرطة بعيدة عن الكلاسيكية التقليدية؛ خلق وتكوين عالمها الافتراضي الخاص بجغرافيا متنوعة، وإن كان في حقيقته أكثر واقعية من أشد القصص والحكايات عن الحروب ضراوةً وبؤساً. فالمكان والزمان معلومين، أما ما يربط بينهما كفكرةٍ مركزية، هو اللاّعدالة، التي لا يشفع لها تباين درجات فسادها، لكون المحصلة دوماً وفي نهاية المطاف تصب في خانة الشمولية السياسية والعرقية والمذهبية والمصالح الأيديولوجية والجيوسياسة، حتى لو كان مقترفيها من دُعاة الديموقراطية من جهة، أو من أنظمة الاستبداد تحت شعار الأمة.  نتخيل هذا العالم في أذهاننا كقراء أثناء ارتباكنا ومشاعرنا المتناقضة، بسردية محكمة الحبكة، يتخللها الحوارات التي تحمل تارة طابعاً إنسانياً شاعرياً، وآخر مصلحي منفعي، وثالث يحمل رسائل سياسية واضحة ومبطنة، ورابع وجودي عبثي بلسان الشخصيات الرئيسية والهامشية فيها. فيما تظهر الفلسفة التأملية والفكرية لا فقط في التمسك بالمبادئ وتحليل الواقع، وإنما باختيار النهايات الصعبة على القارئ، السهلة على أصحابها، بعد شعورهم بانتفاء القيمة وعبثية الصبر والأمل المزعوم. هي قصة متعددة الأبطال، وإن كانت بدايتها تأخذنا للتعرف على الشاب البسيط الطامح للهجرة للولايات المتحدة سعيا في حياةٍ أفضل، تؤهله للزواج من حبيبته. “إيوهان موريتز”، قروي في مطلع العمر، طيب لحدِّ السذاجة، لكنه إنسان يؤمن بالمبادئ والقيم، ولا يتخلى عنها في سبيل رغبات آنية. يفاجئه قدره بانتفاء حلم العمر في لحظات، يتسبب بها شر إنساني في ظاهره بسيط، تحركه الرغبة المحرمة، فتكون النتيجة هي الكارثة التي تسير عليها أحداث الرواية من بدايتها لنهايتها. في المقابل، تُظهر لنا الشخصية المثقفة المتفلسفة، تريان كوروغا، في حواراتها ورسائلها ومواقفها، ما أراد المؤلف بثه للقارئ من أفكار وتأملاتٍ عقلية فلسفية فكرية، تقوده في نهاية المطاف بأن يختار نهايته بنفسه، كصرخة رفض أن تُفرض عليه. هذا العالم الافتراضي الأكثر واقعية من الواقع الذي أوجده الراوي، لا يقتصر على قصة واحدة، ولا عدد من الأبطال، وإنما تأريخ روائي فريد من نوعه، قلما وجد له نظير؛ يُعري الحضارة الغربية الحداثية، ويكشف زيفها انطلاقا من نشوب الحرب العالمية الثانية، وسنوات مآسيها، وصولاً لراية الانتصار والمحاكمات العبثية في جانبٍ منها، الآخذة البريء بإثم الْمُذنب، لا لشيء سوى الانتماء الْمُشترك. هي الأخلاق، ونقيضها الحداثة، بين النسبية العقلية والتمركزية الإنسانية، وبين تقاطعاتها على أرض الواقع، في تناقض واضح بين ما يراه الدين والعرف والفطرة السليمة، وقانون الغاب الْمُقنن بمظاهر زائفة، سرعان ما ينكشف كذبها على أرض الواقع. حيث قوانين الحرب هي القانون والعدالة حتى لو قادت كمحصلة للظلم البيّن والاستعباد والإقصاء والتفرقة والعنصرية، التي على أنقاض تراثها الآثم، قامت الهوية الغربية الحديثة الليبرالية الديموقراطية، ويقودها الأمريكي، ويدور في فلكه الأوروبي الغربي. وفي الطرف المقابل، رغم اندحار النازية والفاشية، يسطع نجم الشيوعية وحلفها الجبري على الشرق الأوروبي، مؤذنةً بحربٍ جديدة تصنيفية، لا تقل فسادا وإبادة عن سابقاتها، مهما ادّعت أطرافها ونادت بالفردانية والحرية الفردية والمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وحرية الرأي والاعتقاد والممارسة. فالفرد أثناء الحرب، وبعد انتهائها، كما صوره قسطنطين جيورجيو، عضو معطّل الإرادة والقرار وسط الأمة والجماعة المنتمي لها. هو كيان بشري تحول بفعل التدجين والتطويع والأيديولوجيا، لإنسان آلي مجرد من المشاعر والأحاسيس والرغبات الإنسانية الفردية. في لحظةٍ يكون فيها كالروبوت في المصنع، وفي مكان آخر روتيني يفعل ويردد ما يُطلب منه آلياً دون تذمر، وبالتزامٍ تام. لكنه حين يُستدعى لممارسة الشر وأفعاله، يتحول لكاسر خالٍ من أية مشاعر، قاتل ومغتصب وسارق بأخلاق حيوانية بدائية. هي ثنائية أوجدها قسطنطين جيورجيو، للإنسان بشقيه الصالح والطالح، الخيّر والشرير، في تقلباتٍ تفرضها السياسة والأيديولوجيا، وتستخدم لتنفيذها ثقافة القطيع. فما إن تكون المصلحة للجانب الخير، يظهر خيره، وما إن يطلب منه ممارسة الشر، يتحول من كونه مواطن بسيط، وأحيانا ضحية، لجلاد يُعذِّب ويقتل دون وازع ضمير. ربما أراد أن يلفت نظرنا وبشكل مبكر، قسطنطين جيورجيو، للعقل الأداتي الغربي، المصلحي الذي يطوع ما يملك من أدوات تحقيقاً لأهدافه، بغض النظر عن كونها مقبولة أو مرفوضة أخلاقياً. فقيمة الشيء تحدده نتائجه المرتبطة بمنفعته فقط. ولكن دون أن يقتصر ذلك على معسكره الغربي، بل الشرقي أيضاً، في تقاطع واضح للديموقراطية مع الشمولية الاستبدادية، حيث تختلف الوجوه والمظاهر، فيما يبقى الجوهر واحداً، يشير إلى أن كلاهما متماثلين بالشر. أغلب شخصيات وأبطال الرواية منزوعة الإرادة الحرة، فمصائرهم وحياتهم وعلاقاتهم وأسرهم وحتى مواطنتهم رهن باللا عدل، والشر والرغبة في الانتقام، والتفرقة العرقية والدينية المذهبية، والسياسية الأيديولوجية، التي سترسم نهايتهم وتحدد مصيرهم. فما إن يتم التصنيف، سيكون التيه اللامنتهي، الْمُنعدم معه الأمل بالنجاة، وسط سلسلة من الأحداث المتتالية والمتزامنة، يتخللها في كل لحظة الهمجية والغطرسة البشرية الْمُستندة لقانونها الوضعي، الْمُبرر لها ممارساتها. يجعلنا قسطنطين جيورجيو، نتساءل، لمَ هي الساعة الخامسة والعشرون، متجاوزةً عقارب الساعة: لنكتشف رمزيتها للساعة الأخيرة، حيث لا وقت يتبقى بعدها. هي رمزية اللاعودة، وانعدام الأمل بعودة العدل، وعبثية انتظار نجاة لن تأتي أبداً مهما بلغ الأمل، السبيل لتحقيقها. فهو أمل زائف في نهاية المطاف، يؤكد زيف الأمل بالرفاه الإنساني الذي تدعيه الحضارة الغربية الحداثية، وتناقضه بممارسات الشر الذي سوغه انعدام القيم والأخلاق ونسبيتها ومصلحيتها الفجة المتوحشة، التي لا تعرف التعاطف والشفقة والرحمة. هل انتهت ساعة قسطنطين جيورجيو الأخيرة والخامسة والعشرون، أما أن انتهاءها هو إيذان بانهيار الحضارة الغربية، أو بنهاية التاريخ التي روج لها فوكوياما، أم أنها ما زالت ساعة بعمر العقود الماضية والحاضرة والقادمة، تشير لاستمرار الظلم وغياب العدالة، وانعدام الأخلاق والعقلانية المتطرفة، التي لم تزل نظرتها للفرد، آلية علمية تقنية صناعية، يخدم هدف وغاية محددة. أي مجرد رقم في المنظومة الصناعية التقنية، حيث حياته وفناؤه، ليس أكثر من رقم في لعبة الأرقام، رغم أنهم يدعون أنه مواطن، فيما الواقع يشير لكونه
المواطن الهجين من تزاوجه مع الآلة.

السبت، 21 يونيو 2025

موراكامي في ظلال الحارس في حقل الشوفان

 الجزيرة الثقافية 18-04-2025
عماد العالم


لكلاسيكيات الأدب من روايات خالدة طعم خاص من الصعب أحيانا إدراك سبب تعلقنا بها وتوافق الآراء في الغالب على عظمتها، وهو ما لا أرغب بسبر أسبابه هنا، بمقدار استعارة أحدها لتكون مظلة قياس على أعمال الروائي الياباني ذائع الصيت هاروكي موراكامي، الذي بدون مبالغة أحد أكثر الروائيين تأثيرا في العصر الحاضر، لا من حيث فرادته الأدبية، وهذا رأيي الشخصي؛ بمقدار كون أعماله حاليا من الأكثر ترجمة للغات الأخرى، فضلا عن كونها الأكثر مبيعا في سوق الكتاب، الذي لم أقتنع يوما أن الأكثر توزيعا فيه وانتشاراً، بحكم الضرورة، هو الأفضل كقيمة أدبية.
موراكامي الذي قرأت له أكثر من عمل، وإن كان من أبرزها، كافكا على الشاطئ والغابة النرويجية؛ ما زال يبدو لي، وقد أكون مخطئا، ليس أكثر من نسخة تجارية حسنة السرد، ضخمة الحجم، مزهوة بلغة بليغة ووصف متقن، ولكن في نفس الوقت مقلدة ومكررة من الوحيدة التي صنعت عظمة الروائي الأمريكي سالينجر، أي الحارس في حقل الشوفان.
يبدو بالنسبة لي تأثر موراكامي بسالينجر واضحا، وان لم أقرأ له أو أسمعها منه مباشرة؛ وخصوصا في روايته «الغابة النرويجية»، حيث تكرر ذكر «الحارس في حقل الشوفان» عرضيا أكثر من مرة، دون الخوض في تفاصيلها أو إسقاط سلوك بطلها الوحيد على الشخصية الرئيسية في رواية «الغابة النرويجية». 
والمثل ينطبق على روايته «كافكا على الشاطئ»، قياسا على تكرار نموذج المراهق الشاب المتمرد دون وجهة ووضوح رؤية، والراغب في التجربة بلا هدف محدد. 
هذا الزج العرضي أو المقصود بذكر رواية «الحارس في حقل الشوفان» في رواية «الغابة النرويجية»، قد يكون إشارة من موراكامي بتأثره بسالينجر من باب الامتنان الأدبي والإعجاب الشخصي، وقد يكون لاوعي موراكامي هو من قاده للزج باسم الرواية في خضم سرده. وقد يكون وهذا جائز أيضا، أن يكون ذكر اسم الرواية لا يعدو كونه ضرورة سردية اختارها الراوي لتناسبها مع ما يراه مناسبا أو يتقابل مع شخصية البطل في روايته.
أما الاحتمال الآخر الوارد جدا، هو بأن يكون هولدن كولفيلد بطل سالينجر، بات رمزًا لتمرد المراهقة، والتحول من مرحلة عمرية لأخرى، وما ينتج عنها من تيه وثورة وتمرد على الحاضر والسائد، المترافق مع انعدام الرؤية والنأي عن الالتزام الهوياتي والعلاقات، وفقدان الهوية واضطرابها، والتوق نحو العُزلة. 
جميع ما ذُكر سواء اجتمعت أو أُخذت منفردة، يجعل من القراءة لموراكامي أحيانا تكرارا لسالينجر، كما يجعل منه مقلدا سواء أراد معالجة قضية حساسة روائيا، أو كان خطه الأدبي، أو كتب عما يجذب انتباه القرّاء ويُلامس شغفهم ورغباتهم ويلامس ذواتهم. وهو ما لا عيب فيه أياً كانت الاحتمالات، عدا أن الطول غير المبرر لرواياته، والسرد الْمُسهِب حد النفور، والتنميق الزائد والحشو، والوصف المبالغ فيه لحد الكمال، والذي يبدوا وكأنه مقصود لخلق صورة مثالية مكتملة المعالم لكل جزء وحدث وموقف وشكل، فضلا عن استخدام القالب ذاته أو «بارادايم» سالينجر؛ هو ما يعيب موراكامي، الذي يتوجب عليه الاقتصاد فيما ذكر لما لا حاجة منه، مع إيجاد نموذجه الخاص، لا «بارادايم» سالينجر لهولدن كولفيلد، المراهق المتمرد الذي وجد أن الفزّاعة التي يغرسها المزارعون في الحقول، والشوفان أحدها، تخويفا للطيور من إتلاف المحصول؛ هو الوصف الأقرب لهولدن كولفيلد، الذي وجد حياته عبثية في آن، وفاقد للشغف في أخرى، والوحيد وسط العالم الذي رغم حركته المتواصلة، لا يعدو أن يكون سوى سيقان متجاورة كثيفة العدد من الشوفان، الذي يقبع في منتصفه دون أي ارتباط معه، عدا استخدامه كفزاعة مزيفة غير حقيقية تظنها الطيور بشرا فتخشى الاقتراب من الحقل بسبب حركته التي تتسبب بها الرياح، بعد أن ألبسه من وثقوه بالأرض وغرسوه بها، ملابس الإنسان!
بطلا موراكامي في روايتيه الغابة النرويجية وفي كافكا على الشاطئ، مراهق وشاب جامعي، تراهم يسيرون بلا رؤى، وكأنهم مصابون بالتوحد في انعزاليتهم ورفضهم السير على خطى السائد مجتمعيا، ناقمين أحيانا وانعزاليين أغلب الوقت. ترهقهم الصداقات وتكون موضع تساؤلاتهم عن مدى أهميتها ومكانتها في حياتهم. يظهر عليهم انعدام الشغف والتكرار والرتابة والروتين، وفي أحيانٍ أخرى الرغبة في التمرد وكسر القيود، وكأنهما يعكسان مذهب الوجودية الذي نظّر له سارتر وكامو ويكاد تكون آثاره معدومة في وقتنا الحاضر، حيث كان انعكاسا لحقبتي العبثية في زمن حياة مفكري فرنسا المتمردين، كثيري التساؤل والرفض في نفس الوقت. 
بالطبع لا يضع موراكامي أمام القارئ نفس المشاهد، فالبيئة مختلفة، والثقافة اليابانية متباينة بشدة حد التنافر مع الثقافة الأمريكية، ولذلك يقدم دوما النسخة اليابانية لهولدن كولفيلد الأمريكي، مع أجواء نفسية يتم الزج بها لإضفاء روحانية وعمق تتناسب مع مفهوم صراع الهوية والتمرد الذي تتميز بها شخصية أبطاله، وهو الذي يبدو أحيانا موفقا، وبأخرى مبتذلا لا يتناسب مع سطحية الموقف. 
ومع ذلك، يبقى هذا الرأي تحديدا يتعلق بروايات موراكامي المذكورة آنفا لا جميع أعماله الأدبية. مع إنني أجد نفسي هنا ميالاً لذكر ما يُلاحظ على موراكامي بشكل عام، من استعراضٍ فج لمقدراته اللغوية التي قد تصل حد التنميق المبالغ به والحشو، والحوارات التي لا تتماشى مع السياق، والوصف المبالغ لعناصره ومشاهده وأحداث روايته وشخوصها من غير داعٍ سوى خلق صورة لا يحتاجها النص بمقدار «أنا» موراكامي الذي تصر دوما على إظهار عظمة مخيلته الروائية. وكذلك بالطبع الطول والسرد الْمُسهِب غير المبرر في غياب الحبكة والقصة والأحداث التي تستدعي ذلك، مع إباحية فجة، ووصف جنسي خادش لا علاقة له بالحبكة الروائية، لا تبدو الغاية منها سوى الزج فيها بالنص خارج السياق لإضفاء إثارة دَرَجَ موراكامي انتهاجها كسمة باتت واضحة في الكثير من أعماله.

الخميس، 20 مارس 2025

خرف الذاكرة

مجلة اليمامة 20-03-2025

عماد العالم


كنت أظن أن عدم تذكر القارئ المتذوق للأدب سوى النزر اليسير أو حتى اللاشيء من رواية بعينها سواء كانت من الكلاسيكيات الخالدة أو تلك التي تلامس النفس من جوانب من الصعب أحيانا إدراكها؛ دلالة على عور واضح في الذاكرة، أو دلالة على طريقة القراءة، وهو ما أشغلني على المستوى الشخصي فترات طويلة، حتى ظننت أن لدي مشكلة تكمن في ذاكرتي المتداعية إما بسبب ازدحامها بقائمة من حصيلة القراءة، أو لكوني أنتهج أسلوبا خاطئ يجعلني أحرص على الانتهاء من آخر صفحة من كتاب لتكون الأولى من التالي في سلسلة لا متناهية من قائمة القراءة التي تزداد يوما بعد الآخر دون ملامح لنهايتها يوما، في عالمٍ لا يمكن أن نحصي فيه ما يستحق أن يُقرأ في حياتنا رغم أضعاف ما لا يجب أن يُقرأ منه! بدد هذه الحيرة توافق جاء بالصدفة بعد عقود من القراءة، على يد الكاتب والروائي الأمريكي جون كوين في كتابه “هوس القراءة”، متحدثا من طرفه عن هذه الظاهرة من “خرف القراءة” كما يحلو لي أن أسميها أحيانا، مستذكرا جون كوين بدوره ذكرياته التي لا تنسى مع كتب بعينها، يكاد مثلي، لا يذكر منها شيئا سوا اسم مؤلفها وعنوانها، رغم ما تركته هذه الكتب في ذاكرتي وذاكرته من ذكريات خالدة تشبه تلك النشوة اللامتناهية من المتعة كلما خطر في ذهني اسمها، سواء على سبيل التأمل أو من خلال حديث أحدهم أو كتابته عنها. حقيقية، هناك روايات أضع إلى جانبها أعمالا، اختفت جميع تفاصيلها من الذاكرة بما في ذلك أقل قدر من التفاصيل وحتى موضوعها، لكنني وللسخرية، ما زالت أتذكر جيدا تلك المتعة العارمة والنشوة حين كنت أقرأها، رغم أنني لا أتذكر بدايتها وبمَ انتهت إليه. ما حنت علي به الذاكرة من ذكرى استمتاعي بكل كلمة وسطر وصفحة من روايات بعينها قرأتها في الماضي ثم نسيتها بالكامل، ومثلها مؤلفات متعددة المشارب؛ ساعدني للوصل لاستنتاج أن من جماليات القراءة فضلا عن المعرفة والتسلية وبناء البنية الثقافية والفكرية والعلمية والأدبية؛ هو أن القراءة للقراءة أحيانا دون هدف واضح مما نقرأ، ودونما رغبة في الاستفادة منها، قد تنتج أحيانا لذة من نوع غريب يجعل مجرد ذكرى قراءتها في حد ذاتها والاستمتاع بها في حينها، متعة لا يشوهها أبدا نسياننا لماذا قرأناها، ويكفيها أن تنعم علينا الذاكرة بكوننا أثناء قراءتنا لها قد استمتعنا في كل ثانيةٍ منها حتى لو لم نعد نتذكر لاحقا شيئا مما قرأناه فيها. ربما تكررت معي هذه الظاهرة بعد أن صممت على قراءة النسبة الأكبر من قائمة أعدتها صحيفة بريطانية بعد توافق النقاد والقراء، لأعظم مائة رواية في التاريخ. كان في تلك القائمة كلاسيكيات خالدة، أغلبها طويل مليء بالأحداث والتفاصيل، مما يجعل قراءة جزء كبير منها وتذكرها لاحقا مهمة شاقة، وخصوصا إن كانت الرغبة في طوي صفحة أحدها للبدء في الأخرى تتملك القارئ. ولذلك، أكون مثلا قد أصبت بلوثة الإعجاب اللامتناهي برواية ميدل مارش وجين آير ومرتفعات وذرنج وغيرها العديد، رغم أنني الآن وبعد سنوات من قراءتها لا أذكر شيئا منها، فضلا عن كون ما أسعفتني الذاكرة به، لا يعدو مشاهد متداخلة من مزيج منها دون أن أتذكر لأي من الروايات تعود هذه المشاهد. ومع ذلك، ما زلت أتذكر جيدا مدى سعادتي أثناء قراءتي لها واستمتاعي بكل لحظة في تفاصيلها، التي لم تبارحني لحظة حتى الآن، رغم أنني قد نسيتها كاملة!


المصد: مجلة اليمامة 

الثلاثاء، 18 فبراير 2025

لماذا لا نقرأ إلا الكتب الجيدة؟

 مجلة اليمامة - 16-02-2025
بقلم: عماد أحمد العالم


أو، ليكن تساؤلنا، لماذا يبحث الجميع عن الكتب الجيدة لقراءتها سواء كانت في الغالب الروايات والمجموعات القصصية، أو الكتب المتخصصة في مجالات بعينها. أيكون الغرض، مع التأكيد على صوابه، هو السعي في المقاوم الأول للمتعة والتسلية والمعرفة، وبالطبع للحصول على إجابات على تساؤلاتنا الخاصة أو المهنية. في السعي لكتاب جيد، ينثر أحدهم أو إحداهن تساؤلاتهم في أماكن عدة لضم رواية جيدة وكتاب لقائمة القراءة، باحثين في الوقت ذاته بين طيات صفحات الكتب التي تتحدث عن القراءة وهوسها ومتعتها، عن ترشيحات المؤلفين لأعمال خالدة وممتعة ومثيرة. ومع الأوصاف البراقة التي يستخدمها البعض لجذب انتباه القارئ لعناوين معينة، نكتشف أننا أحيانا قد خدعتنا أوصاف أحدهم في مدحه لكتاب أو رواية، سرعان ما سنكتشف أنها لا يمكن أن تتوافق مع معايرنا لما نريده أن يكون الكتاب الجيد. ومع كثرة الترشيحات والآراء المنتشرة في كل مكان، من وسائل التواصل الاجتماعي، لأحاديث المثقفين والقرّاء والمؤثرين؛ تزداد خيباتنا مما نجدها كتبا خارج سياق المتعة. وتستمر الحالة لما لا نهاية إلى الوقت الذي ندرك فيه أن العلة ليست في الترشيحات ولا المؤثرين والمثقفين وتوصيات القُرّاء النهمين واسعي الاطلاع والمعرفة، بل هي فينا. فنحن منذ البداية من ربطنا بحثنا عن هوية محددة ترتبط فقط فيما ندعوه وفق مقاييسنا بالكتاب الجيد، ولكن وفق ذائقة الآخرين! في اعتقادي، أن المشكلة الأساسية الأخرى فضلا عما سبق، تكمن في توصيف “الكتاب الجيد”. فحصر القراءة فقط بالكتاب الجيد تجعل منا قُرّاء اتكاليين على المؤلفين المتميزين، الذين يحملون عنا عناء السوء فيما يكتبون، فيقدمون لنا مادة سهلة الهضم، لا نكلف أنفسنا أثناء قراءتها اكتشاف عورها. بخلاف التجربة التي يمكن أن تمنحنا إياها الروايات والكتب السيئة، التي تمنحنا فرصة عظيمة لتفعيل ملكاتنا الأدبية والنقدية في السبيل لتكوين شخصية القارئ الناقد، الذي يمنحه السوء مجالا واسعا لاكتشاف الخلل، وفي نفس الوقت، تحديد ما يعنيه له مفهوم الرواية والكتاب الجيد. بدون الكتاب السيء، نبقى دوما رهينة تحكم المؤلفين وعبقريتهم ونبوغهم وجمال كلماتهم وحبكتهم وسردهم. وبالتالي، لا نستطيع أن نكتشف بأنفسنا ماذا يعني الحسن والسوء، فبدون الكتاب السيء لا معنى أبدا للكتاب الجيد، والعكس صحيح أيضا. فالضدين الجيد والسيء هما جوهر القراءة. أما الاقتصار على قراءة الكتب الجيدة دون السيئة، هو ما يضعنا دوما في بحث عبثي عما هو جيد وفق رؤى الآخرين الذين سبقونا في القراءة، وهو ما يعرضنا للارتهان للجيد والسيء وفق معاييرهم، لا وفق ذائقتنا. ينبغي علينا الاستمرار في قراءة الكتب السيئة دون أن تكون هي الطاغية، ولكن للحد الذي يخدم أدمغتنا ويعمل على تنشيط ملكاتنا النقدية لاكتشاف أسباب السوء فيها، ومن ثم لاستكشاف أسباب أخرى لروعة الكتب الجيدة، عدا تلك التي يتحدث عنها الجميع.

المصدر: مجلة اليمامة

الساعة الخامسة والعشرون لــــ « قسطنطين جيورجيو » .. الرواية التي فضحت الحضارة الغربية

مجلة اليمامة 18-09-2025 عماد العالم رواية الساعة الخامسة والعشرون، للكاتب الروماني قسطنطين جيورجيو، رواية واقعية تشرح جميع الحروب ومآسيها، و...