السبت، 19 نوفمبر 2022

قطر وكأس العالم، بين الحوار الحضاري ودعوات التبشير

 19-11-2022
عماد أحمد العالم


مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وظهور الولايات المتحدة كمحور عالمي منافس للشيوعية والمعسكر الشرقي، ضمّ له دول أوروبا الغربية والبقية من دول العالم التي اختارت أن تكون الهامش للمحور؛ بدأت العولمة الثقافية الأمريكية تكتسب زخماً رسمياً، عززه مساعي الإدارة الأمريكية لكي يكون القرن أمريكياً، ليس سياسياً فقط، وإنما أُريد له لأن يكون ثقافياً واجتماعياً لتمكين الأول. ومع خلو الحضارة الأمريكية من قيمية ذات تأثير وعمق فني وأدبي وثقافي، بدأت رحلة فرض المنظومة الأمريكية الآنفة المعروفة بالثقافة الاستهلاكية، والكاوبوي والبرجر وهوليوود والجاز، للعالم على أنها الحداثة الإنسانية القادمة من الداخل الأمريكي للعالم الذي تحاول الشيوعية واليسار التهامه، فبدأ معها تصدير جديد للتحديث في كافة الحقول. في الفن تم تصدير السريالية كمنافس للفن التقليدي الطبيعي الرصين، فتولى متحف الفن الحديث بنيويورك هذه المهمة، وفي الموسيقى، انتدبت الأوركسترا الأمريكية لتقديم سمفونيتها في العواصم الأوروبية، التي كانت تقليدياً الحاضنة الأولى لها، بما فيها الاتحاد السوفيتي وروسيا قبله، وذلك برعايةٍ من منظمة مُسيسة أُنيط بها عولمة العالم صوب الثقافة الأمريكية، تم تسميتها بمنظمة الحرية العالمية، التي كانت في حقيقتها الذراع الخفي لوكالة الاستخبارات الأمريكية. ساهمت هذه المنظمة أيضاً بإصدار عشرات المجلات والصحف والنشرات، ومئات الكتب، استقطبت للكتابة فيها وتحريرها نخب العالم المؤمن بالحرية وقيمها، والمعادي للسوفييت والشيوعية.
بعيداً عن ذلك، وبعد أكثر من سبعة عقود لاحقة، تستضيف قطر، النسخة الأولى عربيا في تاريخ المنافسة الكروية لكأس العالم. ووسط الاستعدادات للحدث البارز، تتوالى الدعوات لأن تكون التجربة الأولى عربيا فرصة ومناسبة لا تفوت للدعوة للتعريف بالإسلام، وهو ما لا يُمكن إنكار قيمية القيام به لكل مؤمنٍ بعقيدته، ويرى الخلاص للبشرية بالإيمان بدينه. هذا النشاط الدعوي مُحبب، لا خلاف على القيام به طوعاً لا بالإكراه والفرض بالقوة في جميع الأماكن والأوقات، فديننا وقرآننا وهدي نبينا الكريم علمنا أن ندعو لسبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن. أما المغزى هنا، فهو مع تزايد الدعوات للتعريف بالإسلام أثناء المونديال، أجدُ من الملح الدعوة للتريث قليلاً والتحلي بمزيد من الحكمة والتعقل قبل الاندفاع الديني والتعجل بقطف الثمرات. فالحماس وإن كان دلالة محبة وإخلاص، هو ذو تأثير عكسي إن لم يتم توظيفه في السياق الصحيح. وبما أن العالم وللأسف الشديد قد تم تكريس تقسيمه لغرب وشمال متقدم، وجنوب وشرق نامي، بات من السائد فيه أن يكون قيم الأول هي الدارجة والمقبولة، والثاني يعاني من اتهامات التخلف والرجعية والإسلاموفوبيا والإرهاب والتشدد. هذا من جهة، ومن أخرى، إن افترضنا أن أي حضارة هي فعليا حصيلة مجموعة من الحقول والمبادئ والطبيعة التي تمثلها وتمنحها شكلها وكينونتها وجوهرها؛ تكون الحضارة الشرقية، بما فيها الإسلامية والعربية كأحد أهم مكوناتها، مشكلة فعليا من آدابها وتقاليدها وأديانها ومعتقداتها، وثقافاتها المتنوعة، وموروثها الإنساني ولغاتها.
وبناء على ذلك، يعتبر الدين، ولنقل الإسلامي في هذه الحالة، وهو المهم بالنسبة لنا؛ جزء من الكل الممثل للحضارة الشرقية العربية، وأحد أهم عوامل ثرائها. ومع ذلك، لا ينبغي أن يكون فقط هو محور التبشير الموجه لضيوف قطر من مشجعي كأس العالم المفترضين، ومعهم الوفود الإعلامية والصحفية، ولا عنوانه الرئيسي. بل الأجدى أن يكون ضمن مجمل الباقة التي تمثل الشرق العربي تحديدا منه، كحضارة عادة ما يُساء فهمها ويلفها الغموض، وتقابل بالاستهجان والاستنكار. وحتى يُفهم ما أريد قوله بالشكل الصحيح، أرى التوقف عن شعارات الدعوة الإسلامية الحماسية التي تتلقفها الجموع لاستقطاب غير معتنقيه صوبه، والتركيز في المجمل على الغرض الأعم، مع تبنيه لأن يكون عرض حاصل لا هدف موجه وظاهر وعلني. أي أن تكون المناسبة الكروية محور الاهتمام الرئيسي، الذي يتم من خلاله إدارة المنافسات باحترافية وسط أجواء أمن واستقرار، يتخللها بطبيعة الحال سياحة ثقافية للزائر في دوحة الخليج، لا بُد أن يسترعيه فيها تبديد غموض ومخاوف وإجابات عن تساؤلات ومظاهر ومشاهدات، هي من يجب أن يتم استغلالها فعلياً كعرض وصدفة في حالة الفراغ الكروي، ووسط موجات النقد والاستهداف الممنهج للإساءة لقطر على وجه التحديد؛ لتكون مناسبة لسياحة في الثقافة الشرقية العربية، ولتبديد المغالطات، وإجلاء الشكوك، وبث الرسائل، وتصحيح الرؤى، والتعريف اللائق بنا كشعوب تشترك مع المختلف عنها في الجنس البشري بالتنوع الحضاري، فضلاً عن اشتراكها الأهم في قاعدة أساسية تشكل في حقيقتها جوهر الحقيقة المطلقة بأننا بشر من لحم ودم، اختلافنا إثراء لنا، لا سبباً معتاداً للتفرقة والضغينة والعداء.
هذه المنافسة الكروية، لا أراها أبدا السبيل الآني اللحظي لنشر الدين الإسلامي، فهو هدف على سمو مقاصده، ينبغي أن يكون في إطاره الأشمل، المنطلق من كسر حاجز الخوف والرهبة والشك تجاه العالم العربي الشرقي، ومنح العقول الزائرة فرصة التأمل والتفكر والمراجعة الذاتية في قناعاتها السابقة، لتنطلق بعد المغادرة لدولها بعد انتهاء الزيارة، للتساؤل والبحث والتقصي في مفهومها المتراكم عن العرب والمسلمين. هي رحلتهم المعرفية التي سيغذيها ويستفزها مشاهداتهم ومرئياتهم عبر الاحتكاك المباشر، وهي التي ستقودهم لإنصاف هذا العرق العربي والدين الإسلامي، ومن ستمهد الطريق لهم بدولهم، بين أسرهم وفي مجتمعهم وبيئة عملهم ولهوهم، للنقاش الجاد وتبادل الأفكار، الذي حتما سيكون تبعاته إن تم استخلاص الحقيقة، في حده الأدنى، لإنصافنا كعرب ومسلمين، أو لاعتناق الدين الإسلامي بعد دراسته ومناقشته والاقتناع التام به عن إصرار ودراسة مستفيضة.
المسألة ليست بالكم الحماسي، وإنما بالكيف والحكمة. وبالتأكيد، لا يمكن الانجراف فيها خلف الشعارات والدعوات العشوائية المندفعة لنصرة الدين والدعوة له على حساب الأسس القوية المتينة لتأسيس أرضية مشتركة مع الآخر طويلة الأمد. هي أن توصلنا لها، ستكون ثمرة الجهد الدؤوب لتحقيق الغاية والمراد، الذي لا يجب أن تكون فقط اكتساب مزيد من الأتباع للدين الإسلامي، بل لتصحيح البوصلة نحو وعي شعبي غربي وأممي مدرك للصورة المزيفة التمثيلية التي يجري تداولها، وتصحيحها، وهو ما إن يتحقق ستكون مكتسباته ذات أهمية أكبر بكثير من حماسة لحوادث فردية.
في قطر، وحسب ما أعتقد، ما من داعي لأن تكون أكشاك الدعوة الدينية في كل الأماكن بشكلٍ يظهر منه محاولة إضفاء صبغة دينية على الحدث الرياضي، ولا حتى انتشار جموع الدعاة بين الجماهير بمظاهر واضحة، ولا إبراز الأمر إعلاميا ورسميا كغاية وهدف معلن. هو إن حدث، لن يخدم إلا عواطف ومشاعر قصيرة المدى، وقد يكون لها نتائج عكسية. فيما الأجدى، والأسمى ألا تظهر له أي طبيعة معلنة، مع تماهي حثيث بأجواء المونديال العامة يظهر فيها حرص الدولة المنظمة على أن يكون سابقة في حسن التنظيم والنتائج، يصاحبه جهد ثقافي ملاحظ وملموس للتعريف بالثقافة المحلية، والعربية الإسلامية الثرية، التي ستقود حال التعرف عليها للمهتم بالتساؤل وطرح ما يدور بداخله عن مفاهيم مختزلة سابقة، من المفترض لحظتها أن يتم الإجابة عليها بتجرد تام وموضوعية متجردة وعقلانية لا تحمل صفة دينية إسلامية، وإنما إنسانية وأخلاقية وقانونية يفهمها الآخر الذي تغلب على طيف واسع منه الصفة المادية. كما لا يجب أبدا في حوار الثقافة أن تكون الأديان محل مقارنات سلبية لئلا يكون الطرف الآخر من الحوار في موقف المدافع، بل ينبغي السمو عن الموقف بمخاطبة العقل وفق المنطق والسمة الأخلاقية والقيمية. باتباع هذا النهج نكون دعاة حضارة وثقافة، ديننا جزء أساسي منها. وفي نفس الوقت، لا أصحاب أيديولوجيا ومرجعية دينية مختلفة نسعى لتحقيق انتصار ديني من خلالها، هو في حقيقته لا اعتراض عليه، وإنما الهدف الأعم هو السعي لأهداف شاملة وبعيدة المدى تعم فائدتها الجميع على المستوى الشعبي والرسمي.
المثلُ ينطبق على كل صاحب قضية محل نزاع دولي، من المفترض ألا يكون التسامح الرسمي والشعبي معه، والتعاطف، وسيلة لاستغلال الحدث للتعريف بقضيته بشكل واضح، بل كما السابق، عرضياً، حتى لا تنال الدولة المستضيفة نصيباً وافراً من الاتهامات بتسييس الحدث واستغلاله. المهم في استضافة قطر لكأس العالم، ليس النجاح الوحيد في هذا العرس الكروي، وإنما الديمومة والاستمرار بفضل البنية التحتية المميزة التي أقامتها، والمرافق المنشأة؛ لتكون قطر إثراً لذلك، من الآن فصاعداً، أحد أهم وأبرز عواصم الرياضة العالمية، في إنجازاتٍ لها، نفتخر بها جميعاً، لكن دون استغلالها بوصفها ما دون ذلك، أو تجييرها لتتسم بصفة إقليمية أو دينية أو عرقية. ولكي يتحقق هذا، الجميع شركاء بالمسؤولية، فهذا ما يتطلبه أن يُعطى كل ذي حقٍ حقه المستحق، وألا يُستغل كرم العبارات كذريعة لنزع الإنجاز من قطر ومنحه صفة تتعدى كونه في الحقيقة إنجاز قطري صرف وغير مسبوق عربياً وإسلامياً وشرقياً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...