الخميس، 23 نوفمبر 2023

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

 موقع ميدل إيست أونلاين

10-11-2023
بقلم: عماد أحمد العالم

سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حقيقة ما آلت إليه أوروبا التي لم تعد "ولو ظاهرا" أوروبا العدالة الاجتماعية، ومبادئ حقوق الإنسان المعلنة وحرية الرأي والتعبير والمساواة وقدسية الروح البشرية والإنسانية كما روج لها على مدار العقود الماضية الطويلة. فحرب غزة الكاشفة وكأنها قد أعادت أوروبا لحقيقة واقعها السياسي المؤمن بذاتيتها المتعالية على من سواها من البشر، التي تراهم دونها مكانة وإنسانية وقدسية بشرية إن تقاطعت وتضاربت أي من حقوقها مع المصالح الأوروبية في الحقبة ما بعد الاستعمارية، التي مارست قبلها وأثناءها الإبادة البنيوية بعد بسط سيطرتها وسيادتها على العالم الآخر بما فيه الأرض والبشر.
هي ذاتها أوروبا التي شهدت في حقب متعددة عزلها لليهود في غيتوهات مغلقة على أطراف المدن، وهي ذاتها من قامت العديد من دولها بطردهم من أراضيها وتشتيتهم وإقصائهم مجتمعيا، وصولا لارتكاب الهولوكوست الألماني بحقهم، بعد أن تمكنت النازية من تأطير ثقافة بيروقراطية الدولة المعطلة لأي شعور إنساني لدى المنتسبين لها حتى لا يشعروا بالذنب تجاه أيٍ من ممارساتهم القمعية والإبادية بحق اليهود والغجر والمعاقين الألمان، الذين كانت تراهم عبئاً غير مقبول وجوده وتواجده في دولة الرايخ.
هي أوروبا نفسها العاملة بتفاهة الشر كما وصّفتها المفكرة اليهودية الألمانية الأميركية، حنة آرنت، والتي جعلت من ممارسة الشر تفاهةً تسمح بالقتل بضمير مرتاح، بعد أن مكنتها قوتها الصناعية والعلمية من تبوأ مكانة عليا سهّلت عليها استعمار العالم واستنفاد ثرواته بعد أمن منحتها الحداثة وعصر النهضة والتنوير ثورةً فكرية فلسفية أطّرت في خضمها للقيم والمفاهيم والمعايير الإنسانية العدلية والحقوقية، التي لم تكن في نفس الوقت كافية لبناء وعي حقيقي قيمي تستند إليه منذ قرنين ويزيد يؤطِّر لقدسية الإنسانية بما فيها من قيم العدالة والمساواة، عدا تلك التي خطتها في دساتيرها لشعوبها لتتمتع بهامش واسع من السعة والرفاه بعد قرون الاقتتال البيني والحروب الأوروبية المستعرة لمصالح قومية وعرقية وسياسية ودينية وجيوسياسية جعلت الاقتتال والإبادة عقيدة أوروبية وأسلوب حياة، لم تتخلص من وقعه في قارتها، إلا ونقلته للعالم الآخر غير الغربي الذي عانى وما زال من تبعاته، وإن ادعت خلاف ذلك عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وتبنيها ظاهرا لسياسات حقوقية تم قوننتها في إطار الشرعية الدولية ومؤسساتها، التي بات جليا فشلها وعقمها وشللها التام تجاه اتخاذ أي موقف منصف سوا بيانات الشجب والإدانة والاستنكار.
ردة الفعل الأوروبية هذه المرة والتي تمثلت بالمستوى الرسمي على لسان وأفعال ومواقف رئيسة المفوضية الأوروبية، وقادة دول القارة الرئيسية، من منح تفويض مفتوح لارتكاب مجازر الإبادة بحق مدنيي غزة من مدنيين أغلبيتهم العظمى من النساء والأطفال وكبار السن دون أدنى محاذير، مع إنكارهم المتعمد ونفيهم لتلك التي طالت المدارس والمستشفيات؛ فاقت الخيال في تماهيها مع ما سمته الإجراء الانتقامي المبرر والمستحق رغم التقارير الدولية والإعلامية المحايدة والمستقلة التي تحدثت عنها بوضوح واتهمت القوات الإسرائيلية بارتكابها. هذا فضلاً عن الموقف الأوروبي الرافض لأي هدنة إنسانية، والغاض النظر عن قطع الماء والكهرباء، والتدمير الكامل والجزئي لما يعادل نصف المنازل في غزة بما فيها البنية التحتية والمؤسسات الخدمية والعامة، وسياسة التجويع الإسرائيلية بحق مواطني القطاع من المدنيين العزل، واعتبار ذلك تصرفاً إسرائيلياً مقبولاً، دعمته بغض نظرها عنه ورفضها المتواصل لاستنكاره وإدانته.
يرى العالم غير الأوروبي بما فيه طيف واسع يتزايد يوماً بعد يوم في الشارع الأوروبي نفسه، أن انحياز الدول الأوروبية على المستوى الرسمي للجانب الإسرائيلي قد قضى بشكل كامل على أي اعتبارات كان يجد القيم والمعايير الأخلاقية والقانونية الأوروبية تمثلها في السابق، وبأنها في حقيقتها ليست إلا نفاق انفضح زيفه مع الحرب الإبادية على غزة تحت نظر العالم وسمعه، والتي يمثل المدنيين الأبرياء العزل الغالبية العظمى من ضحاياها.
على الشعوب الأوروبية قبل العربية والإسلامية والشرقية وغير الغربية، أن تعي جيداً الآن أن ما قبل الحرب على غزة لن يكون كما بعدها، وبأن السياسة الرسمية الأوروبية الرسمية قد قضت على سمعة أوروبا التي اجتهدت على مدار عقود طويلة لتكريسها والدعاية لها، فلن تكترث شعوب العالم بعد الآن لأوهام الدعاية الأوروبية المتعلقة بحقوق الإنسان، وسعيها لتكريس قيم الديموقراطية والعدالة والمساواة، ولن يصدقوا أبداً أن أي تدخل أوروبي غربي أممي في أي مكان في العالم وخوض الحروب هو في سبيل حماية المدنيين والدفاع عنهم. كما أن الجميع لن يولوا اعتباراً لما سيعدوها أكاذيب أوروبا المتعلقة بسيادة القانون، بما فيها المؤسسات الدولية والأممية كمنظمة العفو الدولية والمحكمة الجنائية الدولية المناط بها مسؤولية محاسبة ومحاكمة مجرمي الحرب، والتي لم تجرؤ حتى يومنا هذا على محاسبة أي مسؤول إسرائيلي أو غربي طوال تاريخها منذ إنشائها وحتى يومنا هذا.
فقدت أوروبا مصداقيتها، ولن يصدق أحد أنها دول عدلية حقوقية أخلاقية تحترم الحقوق الإنسانية وتسعى للالتزام بها، بما فيها شعوبها التي ربما لن تعتبر لإسرائيل الحق مجدداً للدفاع عن نفسها بعد أن رأت صور المجازر المرتكبة بحق المدنيين العزل في غزة، ولن تتماهى مع المبدأ السابق المعتبر انتقاد تصرفات إسرائيل معاداة للسامية، والمستلهم قوته من تعاطف الشعوب الغربية سابقا مع الهولوكوست، التي ترى الحكومة الإسرائيلية ارتكبته بحق سكان غزة، وبهذا لن يشفع الهولوكوست مجددا ولن يبرر لفظائع العدوان الإسرائيلي على غزة.
صدمة المثقفين العرب بمن فيهم المؤمنين بالقيم الغربية، والمعتنقين للعلمانية والليبرالية والتنوير الغربي الحداثي، استدعت طرح التساؤلات عن حنين أوروبا لماضيها القديم، وإصابتها بنوستالجيا الماضي وحلم العودة لبناء ذاتيتها القائمة على الآخرية Othering كما وصفها إدوارد سعيد، والمبنية على نحن الأعلى، والآخر الأدنى العدو الأزلي الهامشي.
هذه الصدمة المنافية لقيم التنوير الأوروبية وحداثتها الما بعد تاريخية الْمُرسية لقيم كونية، لا تتعلق فقط بالمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان، وإنما تتعداها لقيم واتجاهات ثقافية اجتماعية سياسية ستلقي بظلالها على نظرة الجميع لأوروبا في حقبة ما بعد حرب غزة 2023، ولن يشفع لها الندوات والأقلام والدراسات والمساعدات وإعادة الإعمار ومحاولات التبرير العبثية، لتبرأة الموقف الرسمي الأوروبي من الدم الفلسطيني في غزة والذي سيكون علامة سوداء في تاريخها المعاصر، ستتجلى انعكاساته على التعامل معها على الأقل شعبيا، بما يحمله من تهديد كبير لمصالحها في الحاضر والمستقبل، وينبئ ببوادر صراع حضاري سيطول أمده، وستنال انعكاساته أوروبا اقتصاديا وسياسياً. ودون أن نستثني أيضاً مآلات المأزق السياسي الذي وضع السياسيون الأوروبيين أنفسهم فيه أمام شعوبهم، وما سيترتب على انحيازهم من مساءلة ومحاسبة مجتمعية لفرضهم قوانين وممارسات استثنائية لا دستورية على شعوبهم أثناء الأزمة، حدت من حقوقهم الأساسية في دولهم من قبيل حرية الرأي والتعبير والتظاهر، على غرار تصرفات وأفعال وأقوال وزيرة الداخلية البريطانية ورئيس حكومتها، ومثلها في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.

الأربعاء، 30 أغسطس 2023

أوبنهايمر، كيف تقتل بضمير مرتاح!

 موقع ميدل إيست أونلاين
27-08-2023
بقلم: عماد أحمد العالم
 

كعادة أي فيلم يسبقه دعاية كبيرة تصوره كفيلم العام المرشح لنيل جوائز أو لتحقيق أعلى إيرادات شباك التذاكر؛ يستمر مسلسل تتفيه الشر الأمريكي، الذي عادةً ما ترعاه هوليوود وصناعة السينما بالولايات المتحدة، التي رغم كونها والحديث هنا عن هوليوود، ليبرالية شديدة التطرف بما تسبغه على نفسها من حرية التعبير والرأي والاعتناق والفكر؛ إلا أنها الْمُحلل والمسوغ والمفكر المبرر لجميع الشرور الأمريكية عبر التاريخ الحديث، عبر تلاعبها بالحقائق وتزوير التاريخ لتكون قراءته فقط وفق وجهة النظر الأمريكية ورغبتها لما تريد أن تكون الأحداث عليه. كيف حصلت ولم حدثت والأسباب التي استدعت حدوثها.
بالطبع، عدم تعميم ما سبق لا ينفي أن الغالبية العظمى من منتوج السينما الأمريكية ينطبق عليه التوصيف السابق، عدا القلة القليلة جدا من أعمال سينمائية منصفة غردت خارج السرب، وإن كانت في واقع الحال الشذوذ الذي يثبت القاعدة.
ما استدعى هذه المقدمة، تعقيب سأحاول أن يكون مختلفاً بشأن فيلم أوبنهايمر، الذي لم يخرج الجدل بشأنه بين ممجد وناقد، ولكلٍ بالطبع حججه التي عادةً لا تخرج من إطار من يراه تحفة فنية شدته بتصويره وحواراته وموسيقاه التصويرية، وسيناريو الفيلم وأحداثه، والابداع بأداء أبطاله وحواراتهم، وبين من لم يخرج عن تابو التشكيك بأي عمل فني أمريكي ورفض ما جاء فيه بالمطلق.
أما الزاوية التي سأعلق من خلالها فستكون سيراً على ركب فيلسوفة "الشر" ومنظرته الأبرز حنة آرنت، وتقديمها لما سمته تفاهة الشر أو banality of evil في سعيها لتفسير ارتكاب جرائم ومجازر من قبل بشر طبيعيين لن نتوقع قبل ارتكابهم للجرم فعلهم له، ولا عدم شعورهم بتأنيب ضمير نتيجة اقترافهم له.
الفكرة واحدة، وإن استطعنا استغلالها وإسقاطها على الدعاية الأمريكية بشقها الرسمي والخاص، السياسي والأدبي والفني؛ سنجدها نهج دأبت الولايات المتحدة انتهاجه لتبرير أفعالها.
سياسياً مثلاً، كان برنارد لويس ومارتن كريمر وغيرهم من المستشرقين الأمريكيين، أو كما يحلو لهم التسمية كمتخصصين مناطقيين أو بالدراسات الشرق الأوسطية؛ المحللين والمبررين والمسوغين علمياً وفكرياً وقانونياً للكثير من السياسات والتصرفات الخارجية الأمريكية بما فيها حروبها وغزواتها وتدخلها بسياسات الدول الأجنبية، ورعاية أجهزتها للأنظمة الشمولية والديكتاتورية.
هذا من جانب، ومن آخر، كانت هوليوود التي لا تخفي عداءها للنهج المحافظ بما فيه الحزب الجمهوري والرؤساء الأمريكيين؛ اللاعب الأبرز شعبيا على المستوى المحلي والعالمي في توجيه الرأي العام تجاه القضايا الأمريكية، وتصويرها على الدوام بما يخدم أهدافها وسياساتها، وبما يبرر نهج "كيف تقتل بضمير مرتاح" دون أن تُلام، بل تشجيعك والتبرير لك.
البداية المبكرة كانت في العام ١٩٤٩ ميلادية عقب تقسيم برلين وبداية الحرب الباردة برعاية ثقافية وفنية من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، مروراً بحرب فيتنام والعقود التي أعقبتها وشهدت حركة سينمائية أمريكية نشطة لتصوير بسالة أمريكا وحقوقيتها ووحشية الشعب الآسيوي، الذي لم يختلف في إجرامه كما صورته هوليوود، عن الهنود الحمر، والإيطاليين عرابي عصابات المافيا، والمكسيكيين الهمج المغتصبين، والسود القتلة، وتجار المخدرات الكولومبيين، والعرب والمسلمين الإرهابيين، والروس المتوحشين، والصينيين الدنيئين.
القائمة طويلة ولا يمكن حصرها هنا، وإن خرجت دراسات وأبحاث جادة تحدثت عنها وكيفية صناعة العدو على الطريقة الأمريكية وتشويه سمعته واختزاله بصورة نمطية معينة تبرر لأي إجراء سابق أو حاضر ومستقبلي بشأنه.
في فيلم أوبنهايمر أو عراب القنبلة النووية الأمريكية، كان لا بد حتى عقود من الجريمة الأبشع عبر التاريخ، من الاستمرار في تأكيد أن مجزرة هيروشيما وناغازاكي النووية، شر أخلاقي لا مفر منه؛ بل هو خير نتائجه على فظاعتها أسدت البشرية معروفاً بإنهائها الحرب العالمية الثانية، بواسطة أمة أخلاقية لها ما يسوغ فعلتها تجاه إجرام الإمبراطورية اليابانية، وكحركة استباقية كيلا يفكر الاتحاد السوفيتي أو أي من قوى الشر في العالم اتخاذ خطوة مماثلة.
هذا هو جوهر ومغزى الفيلم باختصار عبر استغلال السيرة الذاتية لبطل الفيلم لتسويق هذه الفكرة الشريرة كأحد أهم عمل خير قدمته أمريكا للعالم أجمع وشعوبه بمختلف أطيافه!
استهداف المدينتان اليابانيتين قد يبدو شراً لناظره، لكنه شر تافه يحمل شق خير وآخر مأساوي يمكن التغاضي عنه مقابل تفاهة شره.
هذا من جهة مفهوم تفاهة الشر لدى حنة آرنت، أما إن استخدمنا تفسير زيجمونت باومان للهولوكوست واستخدمناه على الحدث، فسيفيدنا لتبيان عدم شعور المنظومة الأمريكية كاملة تجاه الفعل بالذنب، بما فيه من أصدر أمر إلقاء القنبلة النووية، والطيار الذي سار بها، والمهندسين والعلماء الذين صنعوها، وحتى حارس المستودع وعامل النظافة والمطعم الذين كانوا جزء من فريق العمل. جميعهم كانوا جزء من المنظومة البيروقراطية للدولة الأمريكية، أقسموا على الولاء لقيمها الخاصة المفروضة عليهم بغض النظر عن مرجعياتهم الأخلاقية الإنسانية، والتزموا بتنفيذ الأوامر بناء على ذلك، ولكن دون أن يشعر أي منهم بأن عملهم في هذه المنظومة تسبب بعملية القتل المباشر لربع المليون من اليابانيين الذين قضوا بسبب القنبلة. فهم لم يشتركوا بشكل مباشر في فعل القتل نفسه الذي تكفلت به القنبلة، ومهمتهم اقتصرت على جزئيات بعينها كثيرة ومتعددة جدا في الجريمة لدرجة تاهت معها المسؤولية المباشرة عنها.
لم يتطرق فيلم أوبنهايمر لتبعات القنبلة النووية وأثرها المدمر على اليابانيين على مدار عقود جسدياً ونفسياً، إلا بشيء من الاستخفاف المقصود لتأكيد تفاهة الشر، ولا عرض صوراً من الدمار الشامل الذي تسببت به حتى لا تُكشف حجم المأساة بالتأكيد. هذا فضلاً عن جمل مقصودة بحواراته المملة الطويلة، حيث أكد بأحدها مسؤول أمريكي استبعاد مدينة يابانية كأحد الخيارات الاثنا عشر كهدف لكونها تحمل بعداً ثقافياً، والمهم للمسؤول، لأنها كانت حيث قضى شهر العسل برفقة زوجته!
ثلاث ساعات عبثية مملة سيقضيها من سيتابع الفيلم، متوسط الإخراج والموسيقى التصويرية والحبكة السينمائية، والسيناريو غير المقنع بتاتاً إلا بنجاحه بتوظيف سيرة ذاتية لأبو القنبلة النووية الأمريكية ومدير مشروع مانهاتن؛ لتكريس حقائق وطمس أخرى، وممارسة مزيد من الخداع والتضليل عبر خلق أيقونة أمريكية أو إعادة إحيائها ومن ثم تمرير الرسائل من خلالها، التي يجب أن تنجح، وقد حدث ذلك دوماً عبر هوليوود، ومع الغالبية العظمى التي تأثرت مسبقاً بالضجة الكبيرة للفيلم قبل عرضه، وبآراء النقاد الإيجابية بشأنه، فكان الجميع وكالعادة دمى عرائس يتم تحريك حبالها.
تقييمي بفشل الفيلم على جميع الأصعدة لا يعني إنكاري بنجاحه فيما أراه فشلاً، فقد حرف بوصلة المشاهد من النقمة تجاه أوبنهايمر المتحمس جداً لصنع القنبلة النووية والسعيد بنجاحها في القضاء على الخصم الياباني بداية، دون أن يخفي أمنية لم تتحقق باستخدامها على الألمان المهزومين في الحرب كانتقام لبني قومه من اليهود ضحايا المعسكرات النازية. وهو ما عبر عنه في عدة مشاهد، ليتوه المشاهد بين وطنية أوبنهايمر ورغبة الانتقام لديه من النازيين. لكن هذه الرغبة والسعادة سرعان ما تم طمسها بالترويج لأخلاقية أوبنهايمر الرافض للقنبلة الهيدروجينية والنشط ضد استخدام أسلحة الدمار الشامل، والمروج لاتفاقيات أممية للحد من تصنيع واستخدام الأسلحة النووية، يتخللها مشهد مقت الرئيس الأمريكي ترومان له عقب مقابلته واستماعه إليه، والطلب بألاّ يدخل هذا البكاء كما وصفه، مكتبه مرة أخرى.
أوبنهايمر الذي قتل مئات آلاف اليابانيين بضمير مرتاح في البداية، تم تحريف نقمة المشاهد تجاهه، بتصوير عداء رئيسه السابق له ومكره الذي توجهه بتشويه سمعته وحرمانه من تجديد تصريحه الأمني.
عند هذه المرحلة، يتم التلاعب بالمشاعر الإنسانية والعاطفة، التي ترفض الظلم والمكر، فتتناسى أخطاء المجرم لمجرد تعرضه للخيانة، وتتحول النقمة والكره تجاهه لتعاطف نجح صانع السيناريو بتحقيقه مع مشاهدين تعاطفوا مع بطل أمريكي American hero تم تقديره أخيراً بعد عقود من ظلم تعرض له رغم ما قدمه للوطن وشعبه!أوبنهايمر وإن كان الفيلم يلخص السيرة الذاتية لروبرت أوبنهايمر كهدف معلن؛ إلا أنه دون شك كرس ورسخ مفهوم تفاهة الشر الأمريكي مهما كانت شناعته وتأثيره على الآخرين، وأكد المؤكد من حيث "كيف تقتل أمريكا بضمير مرتاح"!


المصدر: ميدل إيست أونلاين - أوبنهايمر، كيف تقتل بضمير مرتاح! | عماد أحمد العالم | MEO (middle-east-online.com)

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...