الأربعاء، 12 أكتوبر 2016

ذكريات من ملفي الأخضر!

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 12-10-2016



‏في خضم أيام تمضي بسرعة، نتناسى متفرقات جمعناها عبر السنين وخصوصا في بدايات مرحلة المراهقة والدراسة الجامعية، نحتفظ بها ونضعها في حقيبة منسية في أحد الزوايا، يتراكم عليها غبار الوقت المنصرم وتتعتق فيها الذكريات من دون أن نلتفت اليها أو نطلع عليها بين فينة وأخرى، حتى يحالفها حظ المنسي، فتقع صدفة بين الأيادي مرة أخرى، فيكون وكما يُسمى بإعادة الوصل بين حاضرٍ مختلفٍ تماماً عن ماضٍ ربما للبعض منا أكثر نقاء وصدقا وعفوية، بعيد عن تعقيدات زمنٍ مختلف نعيشه الآن، ولم ندرك فداحة ما غيّر فينا إلا بعد أن نلتفت للوراء، ونغوص في عبق السنين الراحلة، التي صقلت ما نحن عليه الآن، أو في أقل الأحوال كانت مرحلة عمرية لابد من المرور بها للوصول لهذا العمر الذي نحياه الآن!
 
اليوم كان مختلفا، ففي لحظة مراجعة لما يجب التخلص منه من مكتبتي، وقعت عيناي على ملفٍ أخضر مهترئ منسيٍ فيها، لطالما كان في مكانه ورغم ذلك لم يخطر ببالي فتحه مجدداً، مع علمي أني اضع فيه ذكرى السنوات، التي ظننت وأنا المخطأ بظني أني أذكر ما فيه فاتضح لي جهلي. عقدت العزم على التخلص من الهامشي داخله. فتحته ونثرت ما فيه وبدأت بوضع بعضه جانباً لرميه، إلا أن ما جمد مشاعري وقتها وزرع الابتسامة على محياي رسائل قديمة عمرها أكثر من خمسة وعشرين سنة، أحدها كان لمراسلات وصلتني من إذاعات غربية ناطقة باللغة العربية، كانت تشكل شغفي وأنا في المرحلة الثانوية. كنت أخلوا مع نفسي في حوش المنزل، ومعي الراديو الضخم الذي كان يعرف وقتها بالروسي، المُزين بديكور خشبي، وهيأة تُضفي عليه الطابع الأثري رغم كونه جديداً، إلا أنه يدوي يتحتم على مستخدمه أن يحرك بكرته بدقة شديدة حتى يلتقط الإشارات الضعيفة والمتوسطة لبث الإذاعات الغربية الناطقة بالعربي كصوت فرنسا وهولندا وروسيا وحتى اليابان وكوريا وبعض الدول التي لا أظن وجود من يكترث لسماعها ومتابعة برامجها في ظل سيطرة "البي بي سي" و"منتي كارلوا" وقتها على مسامع العرب، إلا أنها كانت بالنسبة الي هواية اقضي ساعات فراغي في البحث عنها ومتابعتها وبيدي ورقة وقلم، على أهبة الاستعداد لكتابة عنوان مراسلتهم الذي قد يطول وقت ذكرهم له حتى نهاية ساعات البث، لكنني وما إن أسمعه، أبدأ وكأنني مدخل بيانات سريع بكتابته من فوري، وعلامات السعادة بادية علي كوني قد ظفرت بإذاعة جديدة سأقوم من توي بمراسلتها والاستفسار منها عن برامجها ومواعيد بثها، التي سأختار منها بعد ذلك ما يلفت انتباهي، فيما أبدأ معهم سلسلة من الرسائل البريدية التي تظهر اهتمامي بهم، فتكون مكافأتهم لي هدايا وتذكارات كان أكثرها قيمة من إذاعة روسيا العالمية، التي ربما ظنت فيني شيوعيا صديقاً لها يأتي من دولة خليجية، قد يكون نواة حركة مناصرة لأفكارها، على عكس واقعي الطفولي المراهق الذي كان يرى بمحادثة العالم الآخر البعيد عني الاف الكيلومترات كنزاً لا يُقدر بثمن، فكيف بالحصول على تذكاراتٍ منه!
 
كان الدب الأحمر ثريا وقتها، ولم تكن البروسترايكا الجورباتشوفيه قد أتت فعلها بالبلاد، ولم يكن السكير يلتسين بمساعدة البنك الدولي قد بدأ في سياسة الإصلاح التي دمرت الاتحاد السوفييتي. أتذكر مرة أنهم أرسلوا لي بالبريد لوحة فنية لا أعرف مصيرها، فبعد أن اطلعت عليها أعين الكبار، سال لها اللعاب "فجمركتها أي استولت عليها" واختفت وبقيت أنعيها ليومي هذا الذي فتحت فيه ملف ذكرياتي الأخضر!
 
جيل أول السبعينيات أمثالي كان للمراسلة معهم شغف خاص جدا، شجعنا فيه مبادرات التواصل مع دول الشام ومصر والمغرب العربي. كنا نتبادل معهم العملات التي نكتب عليها الإهداء ونجمع طوابعهم البريدية كما يفعلون معنا، ونبني علاقات افتراضية كاملة وشفافة، لم يكن يضايقنا فيها إلا عين الرقيب العائلي، التي كانت تنظر لكل رسالة ترد إلى البريد بعين الشك خوفا من علاقات بريئة بالمراسلة مع إناثٍ لا نعرفهن على الجانب الآخر البعيد والمُثير بما نسمع عنه من قصص الانفتاح، فيقوم بفتحها وقراءتها ومن ثم قضاء أطيب أوقاته في التندر علينا بعد أن يحول اسم الولد لبنت، فيما غضب الشباب يتلوى داخلنا لانتهاك خصوصيتنا التي وللأمانة لم نكن نعرف مصطلحها في ذاك الزمن، فهو قول بدأ سوقه بالازدهار مع التنوير والإعلام وثقافة التفاهم وحقوق الطفل بدلاً من القمع الأسري الذي لا "للا" فيه، بل سمعاً وطاعة، بكل صدق خرّجت منا رجال يتحملون المسؤولية رغم ما يُقال عن خطأها!
 
الآن,، وبعد أن جددت العهود مع ملفي الأخضر، ورفضت التخلص من أيٍ من محتوياته، تذكرت ما فعلته بنا التكنولوجيا، وكيف فتحت لنا أبواباً وشرعتها، فلا بريد ورقي نستخدمه للمراسلة وإنما برامج للتواصل الاجتماعي تدخل المنازل بلا استئذان، ولا ملفات من جلد أو بلاستيك نجمع فيها ذكرياتنا، وإنما يكفيك ذاكرة صغيرة بحجم الإصبع تملؤها بما شئت وتضعها مع مفاتيحك لتطلع على محتوياتها أينما كنت!


المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=379767

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...