الأحد، 20 نوفمبر 2016

إيران وجوادها الظريف

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في موقع هوربوست 20-11-2016

 


مع إعلان الملك سلمان إلغاء القرار السعودي السابق بفرض رسوم على تأشيرة الحج والعمرة والعودة للنظام المجاني المعمول به سابقاً، خطر ببالي مباشرةً ظريف إيران المدعو بجواد ظريف، والذي صرح من قبل وطالب بتدويل مهمة الإشراف على الحج!
ما رأي ذاك الظريف بهذا القرار، وأتحمل وزر ما أقولُ وأؤكدُ أنه ليس بالجواد الكريم، لا هو ولا دولته محور الشر والآثام والشيطان الأصغر الذي طالما تغنى بعدائه لأخيه الأكبر، الذي كان يلعنه في العلن وتدوس أقدامه علمه، فيما هو وبالسر يدعم اقتصاده ويُهرّب له الملايين، ويتفاوض معه لشهور وشهور حتى توصل لاتفاقية عظيمة تمثل أطر الصداقة والمحبة التي كان ينفيها عن نفسه، لكنها اتضحت أنها غايته التي اتخذ من شعار “الموت لأمريكا” حجةً لتحقيقها.
يا عديم الظرف والخلق، ألا ترى حج هذا العام الذي أشرف عليه السعوديين “من تسميهم بالوهابيين”، وكيف وبفضل الله سبحانه وتعالى نجح دون حوادث أو مشكلات ولا مظاهرات أو احتجاجات أو تزاحم أو دعس، كما تسبب به أبناء وطنك من مجندين في العام المنصرم كما كشفت التحقيقات!
أٓعٓلِمٓ “ابنُ ظريف” أم ما زال يتخفى خلف قناع تُقياه بأن دعوة مرشده لمقاطعة حج هذا العام قد أتت خيرا وبركة على الإسلام والمسلمين، فلا انفجارات حدثت ولا قلاقل ولا مآسي، وألم يدرك أنه وملالي قومه قد فُضحوا أمام العالم الإسلامي بعد أن تكشف من يقف وراء حوادث السنين الخوالي، التي لا ننكر أنها ولولا عناية الله عز وجل وتيسيره وحفظه ثم تفاني الحكومة السعودية وجهودها العظيمة؛ لتحول هذا الركن من ديننا لعام تبكيه العيون من كثرة ما يعتريه ويحدث به من مآسي متآمرٍ آثم وشيطان ملعون يسعى لتحقيق أجنداته عبر الإرهاب والإجرام الذي يستهدف حجاج بيت الله ومكة المكرمة!
آن للولي الفقيه ومعه البقية من الزمرة أن يعوا أن المملكة العربية السعودية، وبالأفعال لا الأقوال والصراخ والعويل والكذب والتبلي وبعد مشيئة المولى قد تفوقت عليكم، وتمكنت من إدارة صراعها معكم لتخرج منه منتصرة ظافرة تلهج لها القلوب بالدعاء، وترنو الأرواح لزيارتها في المرة المقبلة، وهي التي خرجت منها هذا العام وصورة كافة قطاعات الخدمة المدنية والعسكرية والتنظيمية لا تكاد تغيب عنها، بعد أن لوحت لها مودعة بابتسامة تعكس صورة رجل الأمن الذي لم يتواجد فقط لحفظ النظام، بل كان عونا وسندا وخادما لحُجاج بيت الله الحرام، وقدّم لوطنه ما عجزت عنه قنوات الإعلام والصحافة من صورة إيجابية للمملكة، وتعريف بها وما تقدمه للإسلام والمسلمين من حرصٍ على توفير أفضل الخدمات والتسهيلات دون مِنّة، بل رغبة صادقة لتكون خادمة للحرمين وراعية لهما.
مني “ولقدس سره” أمرٌ لا رجاء فيه، بأن يُقاطع مواسم الحج القادمة، مع تأكيدي يقيناً على ترحيب السعودية بكل إيراني يرغب بتأدية الفريضة، فالحديث هنا عن مجندي الحرس الثوري وعملاء مخابرات الملالي ممن جُندوا للتخريب، لا المدنيين المسالمين، فتجربة السنين الماضية وما حدث فيها يكشف محاولة حكومة طهران إفشال موسم الحج بأي وسيلة إجرامية لا تُراعي حرمة المكان وقدسية الشرعية، فلم يتحقق لها ما تمنته رغم حجم المؤامرة، فمن يرعاه الله جلّ جلاله لا غالب له، ولتخسأ يدُ كل غدّارٍ أثيم.


 المصدر: موقع هوربوست - http://horpost.com/articles/إيران-وجوادها-الظريف/

الاثنين، 7 نوفمبر 2016

اللطم الكروي والسبق العراقي!

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في موقع هوربوست 06-11-2016



اللطم الذي كنتُ أظنه فقط في حالة الحزن والعويل، تحوّل للممارسة الكروية العتيدة والمسجلة حصريا لعراق ما بعد حكم التبعية الإيرانية، التي وللمناسبة لم أرَ لاعبيها بأم عيني وهم يمارسون هذا الطقس الديني في أيٍ من غزواتهم الكروية لا فرحاً ولا حزناً، في حين فعلها أشبال المنتخب العراقي الصغار سناً بعد أن سجلوا هدفا في المرمى السعودي، الذي وعلى ما يبدو لم يروا فيه لحظتها فريق بلدٍ عربيٍ شقيق ومنافسٍ كروي، وإنما أنصارا ليزيد بن معاوية، ووضعوا خطتهم الهجومية على هذا الأساس.
هذا القول ليس من قبيل المبالغة؛ فصحف بغداد الإيرانية وقنواتها التلفزيونية نظمت حملةً محمومة للدعاء لمنتخب بلادها للفوز والتأهل لكأس العالم للشباب على حساب من سمتهم فريق الدواعش، بينما تم غسل أدمغة مراهقيهم الذين لم يبلغوا الحلم إلا حديثا، وإقناعهم بأن المسألة ليست كروية وإنما ثأرية؛ فهي الصراع بين الخير والشر، بين أنصار الحسين المقتول ظلماً وعدواناً من أتباع يزيد الغادر، لذا لا بد لهم من تحقيق النصر الذي يرمز للثأر لا الفوز بمباراة كرة قدم بين يافعين من بلدين عربيين شقيقين، أحدهما لم يدخر جهدا في دعم الآخر حين أمضى ثماني سنوات من عمره في حربه الضروس مع جاره الفارسي الُمغتصب لشط العرب!
رحم الله الجواهري، الذي قيل عنه أنه لم يلفظ يوما اسم وطنه العِراق بكسر العين، وكان ينطقه “العُراق”، وحين سُئل عن السبب، أفاد بأنه يستحي أن تُكسر عين العراق؛ الذي جُنّ جنونه وفقد أطرافه وأُصيب الآن بالشلل والتبعية والذُل لنفرٍ جاؤوا على متن الدبابات الأمريكية وبالاتفاق مع ملالي طهران، فحكموا البلاد وقتلوا العباد وشردوهم، وأشعلوا في ديار الرافدين فتنةً طائفيةً وحقدا بغيضاً بين شعب مختلف الطوائف عاش في سلام وتوافق مع بعضه لقرون طويلة، وتصاهر وتناسب، فلم يكن غريبا أن ترى السني متزوجا بشيعية وكذلك العكس، في حين عاش الصابئة المندائية والأيزيدية والكاكائية والكلدانيون المسيحيون مع بعضهم في توافق وتجانس!
حزينٌ أنا لك يا عراق! وما يحزنني أكثر أن تتحول لساحة خلفية لنظام فارسي طائفي بغيض، طالما احتقر سنتك وشيعتك وعمل على تكدير صفو تواؤمهم، وأشعرُ بالمرارة على استكانة شعبك الذي سلّم طوعاً رايته لرجال دين ضالين ومضلين أصدروا فتاوى الجنة والنار، وكرسوا التبعية المقدِسة والمنزِهة من الخطأ لمرجعيات عميلة متآمرة كرست استعباد شعبك وإذلاله وإفقاره، وأشعرُ بالحزن وأنتَ الغني بالنفط وبرجالك الذين أثروا العالم أجمع بفكرهم وعلمهم ونبوغهم، لكن الغالبية العظمى منهم الآن قد قُتلت أو فرّت للغرب الذي استقبلها ليستفيد من عبقريتها، بينما إن بقت في بلادها ذلّت أو تم التخلص منها!
حادثة اللطم الكروية التي أشرت اليها في البداية تُبصرنا بما سيؤول إليه العراق في ظل جيل ناشئ حاقد وطائفي ومُشبع بمشاعر المظلومية التي والله يشهد أن حبيبنا الحسين رضوان الله عليه براءٌ منها، ومما يفعله في سبيلها من يدعون أنهم أتباعه!!


المصدر: موقع هوربوست - http://horpost.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%B7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%88%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%A8%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A/

الأربعاء، 12 أكتوبر 2016

ذكريات من ملفي الأخضر!

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 12-10-2016



‏في خضم أيام تمضي بسرعة، نتناسى متفرقات جمعناها عبر السنين وخصوصا في بدايات مرحلة المراهقة والدراسة الجامعية، نحتفظ بها ونضعها في حقيبة منسية في أحد الزوايا، يتراكم عليها غبار الوقت المنصرم وتتعتق فيها الذكريات من دون أن نلتفت اليها أو نطلع عليها بين فينة وأخرى، حتى يحالفها حظ المنسي، فتقع صدفة بين الأيادي مرة أخرى، فيكون وكما يُسمى بإعادة الوصل بين حاضرٍ مختلفٍ تماماً عن ماضٍ ربما للبعض منا أكثر نقاء وصدقا وعفوية، بعيد عن تعقيدات زمنٍ مختلف نعيشه الآن، ولم ندرك فداحة ما غيّر فينا إلا بعد أن نلتفت للوراء، ونغوص في عبق السنين الراحلة، التي صقلت ما نحن عليه الآن، أو في أقل الأحوال كانت مرحلة عمرية لابد من المرور بها للوصول لهذا العمر الذي نحياه الآن!
 
اليوم كان مختلفا، ففي لحظة مراجعة لما يجب التخلص منه من مكتبتي، وقعت عيناي على ملفٍ أخضر مهترئ منسيٍ فيها، لطالما كان في مكانه ورغم ذلك لم يخطر ببالي فتحه مجدداً، مع علمي أني اضع فيه ذكرى السنوات، التي ظننت وأنا المخطأ بظني أني أذكر ما فيه فاتضح لي جهلي. عقدت العزم على التخلص من الهامشي داخله. فتحته ونثرت ما فيه وبدأت بوضع بعضه جانباً لرميه، إلا أن ما جمد مشاعري وقتها وزرع الابتسامة على محياي رسائل قديمة عمرها أكثر من خمسة وعشرين سنة، أحدها كان لمراسلات وصلتني من إذاعات غربية ناطقة باللغة العربية، كانت تشكل شغفي وأنا في المرحلة الثانوية. كنت أخلوا مع نفسي في حوش المنزل، ومعي الراديو الضخم الذي كان يعرف وقتها بالروسي، المُزين بديكور خشبي، وهيأة تُضفي عليه الطابع الأثري رغم كونه جديداً، إلا أنه يدوي يتحتم على مستخدمه أن يحرك بكرته بدقة شديدة حتى يلتقط الإشارات الضعيفة والمتوسطة لبث الإذاعات الغربية الناطقة بالعربي كصوت فرنسا وهولندا وروسيا وحتى اليابان وكوريا وبعض الدول التي لا أظن وجود من يكترث لسماعها ومتابعة برامجها في ظل سيطرة "البي بي سي" و"منتي كارلوا" وقتها على مسامع العرب، إلا أنها كانت بالنسبة الي هواية اقضي ساعات فراغي في البحث عنها ومتابعتها وبيدي ورقة وقلم، على أهبة الاستعداد لكتابة عنوان مراسلتهم الذي قد يطول وقت ذكرهم له حتى نهاية ساعات البث، لكنني وما إن أسمعه، أبدأ وكأنني مدخل بيانات سريع بكتابته من فوري، وعلامات السعادة بادية علي كوني قد ظفرت بإذاعة جديدة سأقوم من توي بمراسلتها والاستفسار منها عن برامجها ومواعيد بثها، التي سأختار منها بعد ذلك ما يلفت انتباهي، فيما أبدأ معهم سلسلة من الرسائل البريدية التي تظهر اهتمامي بهم، فتكون مكافأتهم لي هدايا وتذكارات كان أكثرها قيمة من إذاعة روسيا العالمية، التي ربما ظنت فيني شيوعيا صديقاً لها يأتي من دولة خليجية، قد يكون نواة حركة مناصرة لأفكارها، على عكس واقعي الطفولي المراهق الذي كان يرى بمحادثة العالم الآخر البعيد عني الاف الكيلومترات كنزاً لا يُقدر بثمن، فكيف بالحصول على تذكاراتٍ منه!
 
كان الدب الأحمر ثريا وقتها، ولم تكن البروسترايكا الجورباتشوفيه قد أتت فعلها بالبلاد، ولم يكن السكير يلتسين بمساعدة البنك الدولي قد بدأ في سياسة الإصلاح التي دمرت الاتحاد السوفييتي. أتذكر مرة أنهم أرسلوا لي بالبريد لوحة فنية لا أعرف مصيرها، فبعد أن اطلعت عليها أعين الكبار، سال لها اللعاب "فجمركتها أي استولت عليها" واختفت وبقيت أنعيها ليومي هذا الذي فتحت فيه ملف ذكرياتي الأخضر!
 
جيل أول السبعينيات أمثالي كان للمراسلة معهم شغف خاص جدا، شجعنا فيه مبادرات التواصل مع دول الشام ومصر والمغرب العربي. كنا نتبادل معهم العملات التي نكتب عليها الإهداء ونجمع طوابعهم البريدية كما يفعلون معنا، ونبني علاقات افتراضية كاملة وشفافة، لم يكن يضايقنا فيها إلا عين الرقيب العائلي، التي كانت تنظر لكل رسالة ترد إلى البريد بعين الشك خوفا من علاقات بريئة بالمراسلة مع إناثٍ لا نعرفهن على الجانب الآخر البعيد والمُثير بما نسمع عنه من قصص الانفتاح، فيقوم بفتحها وقراءتها ومن ثم قضاء أطيب أوقاته في التندر علينا بعد أن يحول اسم الولد لبنت، فيما غضب الشباب يتلوى داخلنا لانتهاك خصوصيتنا التي وللأمانة لم نكن نعرف مصطلحها في ذاك الزمن، فهو قول بدأ سوقه بالازدهار مع التنوير والإعلام وثقافة التفاهم وحقوق الطفل بدلاً من القمع الأسري الذي لا "للا" فيه، بل سمعاً وطاعة، بكل صدق خرّجت منا رجال يتحملون المسؤولية رغم ما يُقال عن خطأها!
 
الآن,، وبعد أن جددت العهود مع ملفي الأخضر، ورفضت التخلص من أيٍ من محتوياته، تذكرت ما فعلته بنا التكنولوجيا، وكيف فتحت لنا أبواباً وشرعتها، فلا بريد ورقي نستخدمه للمراسلة وإنما برامج للتواصل الاجتماعي تدخل المنازل بلا استئذان، ولا ملفات من جلد أو بلاستيك نجمع فيها ذكرياتنا، وإنما يكفيك ذاكرة صغيرة بحجم الإصبع تملؤها بما شئت وتضعها مع مفاتيحك لتطلع على محتوياتها أينما كنت!


المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=379767

الخميس، 29 سبتمبر 2016

رسالة للعقلاء فقط..الإنسانية ضد العنف

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 29-09-2016



يقولون ولا أنكر ما قالوا أو أنفيه، وإنما أدعوكم لعدم العيش على أطلاله، والمضي قدماً من دون لطم وعويل، وبخطى إصلاحية مجددة، لنكن الند الجدير بالرئاسة والزعامة:
 
فرنسا احتلت الجزائر ما يقارب القرن ونصف القرن، ولعقود استعمرت دول المغرب العربي الأخرى والأفريقية على السواء، وكذلك فعلت من قبل أسبانيا والبرتغال، حين اقتسمتا العالم وفق المرسوم البابوي "Inter Caetera" الذي أصدره البابا اليكساندر السادس عام 1493 لملك اسبانيا وملكتها، لينشأ السلطان المسيحي على العالم الجديد عبر دعوته إلى إخضاع السكان الأصليين وأراضيهم، وتقسيم الأراضي المكتشفة في وقته والتي لم تكتشف بعد إلى قسمين مشاطرة بين إسبانيا والبرتغال. قبلهم جميعاً وفي زمن سحيق يقدر بخمسمئة عام قبل الميلاد، شن الفرس حروبا ضارية ضد اسبرطة واليونانيين، خسروا على إثرها لكنها أسالت بحاراً من الدماء، كما حدث بعد ذلك في أوروبا في العصور الوسطى من مجازر عرقية وتوسعية ومذهبية راح ضحيتها الملايين، لكن العدد الأكبر كان في الحربين العالمية الأولى، والثانية، اللتان تجاوزت خسائرهما الـ50 مليون إنسان.
 
الأمثلة كثيرة لجنون البشر واحترافهم القتل، ولن تنتهي بزمان بعينه، بل هي سنة كونية يغذيها الاختلاف في العرق والدين والطمع والجشع وروح الاستعلاء شاء من شاء، أما من أبى فالانتقام منه هو ردة الفعل التي يسهل تسييرها هذه الأيام عبر رعاع متحمسة تظن أن دخول الجنة مرهون بقتل المدنيين الأبرياء، الذين لا ذنب لهم سوى أن سياسيي دولهم يتخذون مواقف ظالمة بحق دول أخرى. حينها يبادر المظلوم للانتقام، ولكن من برئ لا ذنب له إلا كونه يحمل جنسية تلك الدولة.
 
اللوثة الأزلية صعبة الاستئصال من تفكيرنا كعرب وكمسلمين هو ربطنا على الدوام مواقفنا بماضي الآخرين معنا، من دون أن نسعى لتغيير هذا الماضي لحاضر يماثلهم في القوة والتقدم. هو فكر محدود وقاصر يظن أن إسالة الدماء هو الحل لاستتابة الظالم، غير مدرك بأن ردة الفعل ربما اشد ضراوة وأكثر اجحافاً، فهو القوي في لعبة الأمم وصاحب الحظوة التي لا نمتلكها، فتجعل منه متقدما علينا فيما نحن خلفه بمسافة لا نفكر في طولها وإنما كيف كنا سابقاً وكيف نظلم حاليا، ولكن من دون أن نخطط لإزاحة هذا الظلم وتحويله لنصر وازدهار.
 
ما حدث وما زال بفلسطين، والعراق واليمن وسورية، جرائم لا تقبل النقاش، واستهداف العزل غير مقبول اخلاقيا ولا دينياً ولا إنسانياً، وحمى الانتقام يجب أن تترجم لأفعال تنتفض على الواقع المخزي بدل استحضار مجازر الماضي. أما الناقمون علينا بسبب استنكارنا لأي عمل إرهابي يستهدف المدنيين الأبرياء، فهم المصابون بفوبيا الغرب وكرهه، من دون أدنى محاولة للتصالح مع أنفسهم والتوصل معهم لاستراتيجية الندية وفق معايير النزاهة والتقدم والعلم والأخلاق.
 
الإنسانية يا أمتي لا تعرف الأحقاد في لحظات المصائب والكوارث، وإنما التعاضد والمساندة التي وحدها إلى جانب المثابرة بالعمل ستسهم في التقارب والتفاهم واحترام الحقوق.
 
للعلم فقط ومن باب التذكير، اميركا تضامنت مع بريطانيا في الحرب العالمية الثانية ودعمتها رغم أن الأولى استعمرتها وارتكبت مجازر بحقها حين طالبت بالاستقلال. كذلك فعلت فرنسا مع المانيا التي دعمت شقها الغربي عقب الحرب العالمية الثانية رغم ان هتلر احتل فرنسا وعاث بها فساداً. رفض شعب اسكتلندا حديثا في استفتاء شعبي دعوى الانفصال عن التاج البريطاني وآثر البقاء ضمنه، رغم ان البريطانيين ارتكبوا في السابق مجازر بحقهم وقمعوهم بوحشية حين طالبوا بحقوقهم.
 
لم تربط تلك الشعوب ما حدث في الماضي بمواقفها في تلك الأزمات وإنما بدأت صفحة جديدة في العلاقة الشعبية والرسمية، وكذلك ما يجب علينا فعله بدلا من تعديد ممارسات الغرب الوحشية حين كان هو القوي ونحن الضعفاء. هي ليست دعوة لنسيان الماضي الذي لا حاضر لمن فقده، وإنما لاستشعار دروسه وجعله حافزاً نحو حياة جديدة ندفن فيها عصور الظلمة ونبني وطنا عادلا يكرس للحرية ويراعي الديمقراطية وحقوق الإنسان.
 
لا بد أن نعي جيدا أن حملات العنصرية التي يتعرض لها العرب والمسلمون في الغرب هو أمر مثير للاشمئزاز أيضاً وضد الإنسانية التي تؤطرها قوانينهم، شأنها تدخل حكوماتهم في دولنا ونهبها لثرواتها وتغذيتها للتفكك والاضطرابات. جميعها أيا كان الطرف البادر منه تصرفات مرفوضة، يجب أن يعي قادة تلك الدول أنهم بسيرهم وفق هذا النهج يكرسون لوجود فصائل ناقمة تبتغي الثأر بأي وسيلةٍ أيا كان المُتضرر منها!
 
ستبقى الارض التي نحيا عليها ورغم القوانين الوضعية التي تسير الحياة بها عرضة لقانون الغاب الذي سينتج الظلم والقهر والعداء بين الأمم والشعوب، لكن الحكيم منها هو من يغير واقعه للأفضل الذي سيكفل له الاحترام كما الرهبة، فهلا وعينا ذلك جيدا وبدأنا ثورة على نمط تفكيرنا الذي كان له السبق دوما في رجعيتنا وتأخرنا ومواقفنا تجاه انفسنا قبل الآخرين.


المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=378296

الأحد، 25 سبتمبر 2016

مشاركة في تقرير مع الحياة بعنوان " «جاستا» يفتح أبواب مقاضاة أميركا..."

بقلم عماد أحمد العالم

تقرير تم نشره في جريدة الحياة 23-09-2016



قال المحلل والكاتب السياسي عماد العالم لـ«الحياة»، إن قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب، يعد خطوة من قبيل إقرار الولايات المتحدة، لتبعات خطرة على الأميركان أنفسهم من دول تضررت كثيراً من تدخلاتها وسياساتها العسكرية، مشيراً إلى أنه سيدفع لتنشيط مؤسسات المجتمع المدني وهيئاتها التشريعية إلى سن قوانين تسمح لعائلات الضحايا في بلدانها التي تضررت من الهجمات والعمليات العسكرية الأميركية فيها، برفع دعاوى تجريم وتعويض على الولايات المتحدة، الأمر الذي قد يسبب حرجاً ديبلوماسيا في حال عدم اعتراف الأخيرة، أو رفضها لهذه المحاكم.
وأكد العالم أن قائمة الدول المتضررة من الإرهاب الأميركي كثيرة، وقال: «لن تكون أفغانستان والعراق على رأس القائمة فحسب، بل ستسعى أيضاً دول أميركا اللاتينية التي عانت في القرن الماضي الانقلابات العسكرية الدموية التي رعاها جهاز المخابرات الأميركية، إلى الانتقام وفضح الدور الأميركي فيها، ففي تشيلي مثلاً وبرعاية من سي آي آيه، قام بينوشيه بانقلابه الذي أطاح بحكم الرئيس المنتخب ديموقراطياً سيلفادور الليندي، وارتكب مجازر دموية، وقمعاً غير مسبوق بحق المعارضة، مع تعطيلٍ كامل للحياة الديبلوماسية، وكذلك جرى الأمر في الأرجنتين والبرازيل والإكوادور وهاييتي وكوبا والسلفادور، وجميعها عانت من الحكم العسكري الانقلابي الذي نجح بدعم ومؤازرة أميركية، كما حدث بالتمام في إندونيسيا، حين انقلب سوهارتو على الزعيم سوكارنو، ليُخلف نتيجة لذلك نحو مليون قتيل وعشرات الآلاف من السجناء».
وأضاف: «هذه الجرائم الدموية التي تمت برعاية أميركية مكشوفة، لا تسقط بالتقادم، وفيها من جرائم الحرب ما يصعب حصره، وحال البدء في مقاضاتها ستدخل أميركا في دوامة قضائية عالمية ستزيد من كراهية الشعوب لها، وستصعب من ادعاءاتها المتكررة بحرصها على العدالة، فيما كانت سابقاً وما زالت راعياً رئيساً لديكتاتوريات منتهكة لحقوق الإنسان، وتجرم بحق شعوبها». وتابع: «أما العراق وأفغانستان وباكستان، فعلى رغم فداحة الضرر الذي حدث بهم إلا أن حكوماتهم الحالية التي تخشى التصادم مع الأميركان، وقد تعطل أية دعاوى ضدهم مشابهة، لكن هذا لا يمنع أن يحدث مستقبلاً إن قامت ثورات شعبية متوقعة تطيح بحكومات دولهم، التي ملت من تبعيتها، وعدم سعيها للمصلحة الوطنية وفسادها».
وأكد أن أميركا في خطر إن لم توازن بين مصالحها الداخلية والتزاماتها وعلاقاتها الدولية، وخسارة العلاقة الحسنة مع دولة بحجم المملكة العربية السعودية ستكون تبعاتها خطرة اقتصادياً على أميركا، وسينزع ذلك منها ورقة حليفٍ استراتيجي، ومن أكبر منتجي النفط في العالم، وستستعى بدورها إلى الرد بإجراءات احترازية سريعة لتسييل أموالها وسحبها قبل أن تتعرض للتجميد، كما يتوقع إن قبلت المحاكم الأميركية دعاوى التعويضات المزمع التقدم بها!
وتابع: «تتلاعب الهيئات التشريعية في الولايات المتحدة بالدول الأجنبية، وقد يكون ذلك عن قصد، نتيجة لسياسة الحكومة الأميركية الخفية، أو أنها تمارس أجندة ناتجة مباشرة عن رغبات لوبيات الضغط في الولايات المتحدة، أو لأهداف انتخابية.
كما تحدث عن ذلك في أكثر من كتاب النائب الأميركي السابق لـ20 عاماً متتالية بوب فندلي، الذي كشف أن الكونغرس ومجلس النواب الذي يحتفظ بالسلطة التشريعية، يتعمد على مدار أعوام سن قوانين تتعارض فعلياً مع المصلحة الدولية لحكومة بلاده، من دون الأخذ بالاعتبار ما قد ينتج عنها من ضرر للمصلحة القومية، في تصرف فج يهدف فقط لمطامع ضيقة على المدى القصير».
واستطرد: «هذا ينطبق الآن على القانون الذي أُقِرّ حديثاً، الذي سيسمح للمحاكم الأميركية بالنظر في دعاوى تعتزم عائلات ضحايا الـ11 من سبتمبر رفعها، طلباً للتعويضات من المملكة العربية السعودية، التي تسعى فئات سياسية أميركية إلى الزج بها في المسؤولية عن الهجمات، على رغم التقرير الذي صدر أخيراً، وأُعلنت بموجبه براءة المملكة من هذه الاتهامات». وأكد أن الغرض يمكن أن يكون الابتزاز المالي أو السياسي، وقد يكون استجابة للوبيات الضغط الإسرائيلية والإيرانية في أميركا، إلا أن المؤكد أن المملكة، التي تستثمر مئات البلايين في الولايات المتحدة، في شكل سندات وأرصدة أو استثمارات مباشرة، قد تتعرض لتجميدها حال موافقة قاض في محكمة ابتدائية في أصغر مدينة أميركية، إن ارتأى قبول الدعوى، وهو ما سيلحق ضرراً كبيراً بهذه الموارد السعودية، التي يصعب التكهن بالزمن التي ستبقى فيه مجمدة، أو حتى يُقتص منها لدفع التعويضات المزعومة.
وأشار إلى أن رفض وزارة الخارجية الأميركية هذا القرار واعتزام البيت الأبيض استخدام «الڤيتو» الرئاسي عليه، قد يُسهم في تعطيله موقتاً، لكن الكونغرس قادر بحسب الدستور على إعادة طرحه مرةً وأخرى، واعتماده بأقل نسبة تصويت، وهو ما سيجعله سارياً ويلغي «الڤيتو» الرئاسي، الذي لن يحول بعد ذلك دون تطبيقه!


المصدر: جريدة الحياة - http://www.alhayat.com/Articles/17524224

مشاركة في تقرير مع الحياة بعنوان " الاتحاد يتطلب أن نتجاوز الخلافات ......"

بقلم عماد أحمد العالم

تقرير تم نشره في جريدة الحياة 17-05-2016



على أعتاب الذكرى الـ35 لإنشاء مجلس التعاون الخليجي يبدو جلياً تزايد التحديات التي تهدد هذا المجلس، وتحفز الدول الأعضاء إلى بناء شراكة متكاملة، يجب أن يكون محصلاً لها الاتحاد السياسي والاقتصادي، في ظل أجواء دولية وشرق أوسطية غير مستقرة، بدأتها إيران في استفادتها من التدخل الأميركي في العراق بعد إطاحتها بحكم الرئيس السابق صدام حسين، وليس انتهاءً بدعمها «حزب الله» في لبنان، و«الحوثيين» في اليمن، وجهودها الحثيثة للإبقاء على النظام السوري، ووقوفها معه عسكرياً ومالياً وسياسياً في وجه ثورة شعبية طالبت بالتغيير.
وقال المحلل السياسي عماد العالم لـ«الحياة»: «إن تزايد حمى التسليح العسكري وتعزيز قدرات البحرية الإيرانية التي يدعمها النظام الراداري الجديد القادر على رصد الأهداف المعادية لمسافةٍ تمتد إلى ألف كيلومتر، يزيد من القلق الخليجي»، لافتاً إلى تزايد نفوذ «القاعدة» و«داعش» في اليمن، والأخير التي باتت خلاياه في الخليج تنفذ عمليات إرهابية، وتهدد بإثارة القلاقل وتعكير صفو النسيج الاجتماعي لدول الخليج عبر عملياتها ذات الطابع الطائفي.
وأوضح العالم أنه في ظل جميع هذه التحديات، «يقفز دوماً أمام صناع القرار الخليجي ضرورة توحيد المواقف المشتركة في السياسة الخارجية، والتي لن تتم إلا عبر توافقٍ تام في ما يخص إيران وبعض الجماعات، ومنها «الإخوان المسلمين» الذين تتباين المواقف معهم ما بين متقبلٍ لهم من جهة، وأخرى مصنفين فيها جماعةٍ إرهابية، جميعها تتطلب أن يكون الخليجيون قادرون على تجاوز خلافاتهم البينية وتحديد أولوياتهم وأهدافهم المشتركة والمخاطر المحيطة في الخليج والمنطقة عموماً».
ودعا دول الخليج إلى اتخاذ «قرارات وخيارات مؤلمة، كان ينبغي اتخاذ غالبيتها قبل زمن بعيد لكن ذلك لم يحدث، ومنها تفاقم المشكلات السكانية والاقتصادية في الداخل، وارتفاع نسبة البطالة في ظل سياسةٍ لم تثمر بعد عن نتائج حقيقية في تفعيل التوطين، يُضاف لها غياب الحوافز الاقتصادية الضرورية للنمو والتوظيف، والأهمية الحيوية للقطاع الخاص والحاجة إلى إحداث توازن دقيق بين النزعة المحافظة ومتطلبات القرن الـ21، الذي تعمد فيه الدول لبناء اقتصادٍ صناعي لا استهلاكي ومنفعي مدعوم من الموازنة العامة للدول، التي تأثرت كثيراً بانخفاض أسعار النفط والطلب العالمي عليه».

المصدر: جريدة الحياة - http://www.alhayat.com/Articles/15643668/العالم--الاتحاد-يتطلب-أن-نتجاوز-الخلافات-ونتخذ-قرارات-مؤلمة

الخميس، 8 سبتمبر 2016

دولة الأخلاق

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 08-09-2016



الأيام دول، وهذا الزمان على ما يبدو وحتى اللحظة ليس زماننا كمسلمين، أعلم بأن ما أقوله قد قاله قبلي كثير، ويبدو أنه من كثرة ما رددناه أصبح القول كئيباً رتيباً مملاً، إلا أن تكرار قولي لعله يوقظ ضميراً واحدا من بين أمة المليار، فيكون بما فعل قد خطا الخطوة الأولى نحو الإصلاح المنشود لعالم الأخلاق، الذي ذهب عنا فذهبنا ليس معه وإنما للنقيض منه!
 
ذات يوم، استيقظ العالم الآخر الموازي لنا في الطريق والمتقدم علينا في أغلبه، فطبق ما نادى به الإسلام ودعت إليه تعاليمه من دون أن يحول دينه، فتقدم علينا ونبذ عصور ظلمته وبدأ ثورة أخلاقية إنسانية، نتج عنها قوانين وضعية تسير شتى شؤون الحياة ولم تدع صغيرة ولا كبيرة فيها إلا غطتها، فيما نحن مازلنا مشغولين "بالهياط" والمفاخرة بالأصل والفصل وبالقبيلي والحضيري والعبد والفلاح والصعيدي والمدني والقروي والمواطن والأجنبي.
 
ثقافة مجتمعاتنا محتاجة لغربلة وتصفية، فحين يكون هم المجتمع وسلوكه وحياته وقرارته وتفكيره في بضع شؤون كقوله مثلاً: هل غطاء الوجه حلال أم حرام؟، وما يثيره من خلافات ذات شجون، حيث قائل بالحرية الفردية وآخر متهم بأن من تكشف عن وجهها فإن لها زوجا ديوثا، فيما آخرون في دوامة سعارهم الجنسي، ونفر ليس بالقليل جل همه التصنيف، فذاك إخوان وسلفي وليبروجامي، ووهابي وليبرالي وسروري، ولا ننسى طبعا المتنطعون ومعهم من يستفتي هل يجوز النظر لعورة الفضائيين او الوضوء من المريخ؟، وفيهم من يفتي في علم لا يعيه ويقول إن الأرض مسطحة.
 
القائمة طويلة ولن يختلف حالنا إلا إذا نبذناها جميعها، من دون أن ننسى منها طبعا أتباع مذهب "أحب الصالحين ولست منهم"، وتحولهم لصالحين بدل التمسح بهم فقط، والدفاع عنهم، حينها فقط تأكدوا أننا سنكون كالنرويج، وفنلندا، والسويد، وكندا والنمسا وبقاع العالم التي نتمنى الهجرة اليها والعيش فيها آمنين سالمين مكرمين معززين!
 
لو عدنا لرشدنا كبشر قبل أن نكون حتى مسلمين، لوجدنا ديننا الحنيف الذي أهملناه وتجاهلناه وقصرنا فيه؛ هو أساس المنظومة الأخلاقية التي تحترم حقوق الإنسان وتراعي الجميع وتكفل العدالة والنظام وتؤطر للقانون وتكرس النزاهة والشفافبية.
 
في دول العالم التي تولي أهمية لمنظومة الأخلاق، يتعلمون السلوكيات أو ما يسمى:
 
(Good manners and Right conduct) من المراحل التعليمية الأدنى حتى الأعلى، ويدرسون تعليم القيم (Values Education)، بينما يركز تعليمهم الجامعي والأكاديمي على الأخلاق (Ethics)، بينما نحن العرب والمسلمون المتفاخرون بفلان وعلان نتجاهلها!
 
في شوارعنا، دوما ما تحيطك النظرات الغاضبة، فإن أسديت لأحدهم معروفاً أو أديت له خدمة أو أحسنت التصرف تجاه موقف ما، تجاهلك، بينما في دول الغرب "الكافر"، عامة ما يبادرك بالكلمات السحرية (magic words)، أي شكراً، ولو سمحت ومن فضلك وهلا تكرمت وأرجوك......


المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=376282

الخميس، 1 سبتمبر 2016

جريمة بحجة الشرف!

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 01-09-2016



اسمحوا لي اليوم أن أكتبها صراحة حين أصف القانون الوضعي المعمول به في عديد من الدول، الذي يبرئ قاتلاً بحجة صونه الشرف، بأنه عديم شرف وليس من الدين ولا الأخلاق من شيء، وأفضل وصفٍ له بعيدا عن النعت بالرجعية والتخلف هو "البربرية"، التي تُبرر لذكر في أسرة أو قريب أن يسفك دم أنثى تنتمي لنفس الأسرة، لأسباب "يروجوا" أنها تتعلق بارتكابها "عمل غير أخلاقي" كالزنا والعلاقات غير الشرعية والصداقة موضع الشكّ، من اجل الحفاظ على ما يسموه شرف العائلة عبر غسل العار! 
هذا القانون الذي يوفر السبيل للسفاح كي ينفذ بجلده، يطبق فقط وتتهدج به الصدور حين يكون من أخطأ أنثى، وقتها تتفجر حمية الذكر وكل من يمت لها بصلة قرابة، وبدعمٍ من مجتمعٍ مصاب بفوبيا المرأة والجنس، فيقوم جلاد العرف والعادات والتقاليد البالية بانتهاك روح الآدمية أياً كانت الطريقة، شنقا أو خنقا أو ضربا أو بالسكين والسلاح، لأنها وكما يتذرعون انتهكت شرف العائلة و "مرمغت" سمعتها بالتراب، لذا وجب الاقتصاص منها على يد أقرب الناس إليها من الذكور وحتى لو كان هذا الأخ أو القريب القاتل بالأمس ربيبها الذي كانت تطعمه وتربيه وتسعى لسلامته وراحته وتمسح عنه قذارته! 
حالنا كعرب في هذا الشأن القبيح كعديد من الشعوب الأخرى الإسلامية وغيرها، التي تتشارك جميعها رغم الفقر بالحميّة التي لا نراها منها حين تنتهك آدميتها وتستعبد؛ بل فقط حين ترتكب أنثى خطأً لا أحد معصوم منه، ولكن لأن جنسها ما يميزها عن الذكر ويجعلها دونه وفق العُرف الجاهلي، فجريمتها لن تغتفر ولن تُمحى من الذاكرة إلا بإلغاء وجودها الذي باستمراره سيكون وصمة العار الأزلية. بينما ذكور العائلة ومنهم المُدمن والفاجر والسكير والعربيد والمُغتصب والسارق والزاني؛ مهما فعل فذنبه مغفور والدعاء له واجب وتوبته مقبولة مقدماً، والخطأ مهما كان حجمه ليس بذنبه، بل إثم شيطانة اسمها فتاة أغوته فمارس معها الخطيئة بعد أن وعدها بزواج لاحق وعلاقةٍ شرعية.  
هي حتى وإن غرر بها مُدانة ومتهمة وسيطلق عليها الفاجرة الفاسقة ولن تجد من يترحم عليها ويدعو لها ويلتمس العذر أو حتى يقبل توبتها، فالذنب ذنبها وهي الضعيفة التي سمحت لذاك الوديع البريء أن يدنس عفتها، التي لا يُسأل عنها سواها، فإن فقدتها في لحظة طيش أو عاطفة فقدت معها حقها في الحياة، ويجب عليها أن تدفع روحها ثمنا لا يكفي. 
أستغرب من البلدان التي ما زالت محاكمها تبرئ القتلة وتخفف العقوبة عنهم فيما يُسمى بجرائم الشرف، التي يُمارس فيها المجرم قانون الغاب على صلة رحمه بدعمٍ ممن حوله ودونما شعورٍ بالإنسانية، فبدلاً من أن يُقتص منه، يتم تبرير فعلته ويُحتفل به رغم كونه سفاحا أحل دماً حرم الله سبحانه وتعالى قتلها إلا بالحق!
الأغرب من القانون ذاته هو استماتة الأغلبية من ممثلي الشعب وقادته وقانونيه وبرلمانيه ومثقفيه في الدفاع عنه ومنع إلغائه وقمع أي محاولةٍ تهدف للاقتصاص من مرتكبي هذه الهمجية والرجعية والإجرام غير المُبرر! 
إحصائياً، تشير تقديرات صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى ارتكاب 5000 جريمة قتل بحق النساء تحت ذريعة شرف العائلة في العالم بشكل عام، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا بشكل خاص، أي بمعدل أربع عشرة جريمة يوميا، علما بأن الرقم الحقيقي لابد أن يكون أكبر بكثير مما هو معلن، وسط غطاء وحماية من العائلة وتخاذل السلطات التي تحتل دولها النسبة الأكبر من هذه الجرائم، دون إشارات على محاولات جدية من حكوماتها لتعديل القانون المتواطئ مع القتلة، والذي يشجع عدم عقابهم على ممارسة القتل بذريعة الشرف!


المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=375451

الأربعاء، 24 أغسطس 2016

سيرة الحب.. من درويش إلى نزار

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 24-08-2016



ما أروع درويش حين علمنا مُبكراً درساً يجب ألا ننساه، حين نفى وأكد أن الحب ليس بالرواية الشرقية، التي بختامها يتزوج الأبطال، كما جرت العادة ودأب مخرجو الأفلام العربية وكتّابها على تصويره، فيما أفنى ومن جهةٍ أخرى فيه نزار عمره دون أن يجده بعد فقدانه لبلقيسه التي نال منها غدر المتحاربين، لكنه ومع ذلك خلد لنا ماءً فراتاً يروي ظمأنا لتلك الأنثى العبقة بجنون الهوى، التي نلهث خلفها على غير درايةٍ بطريق الظفر بها، ودونما أي أملٍ بأن نجدها، لكننا ومع ذلك انتشينا للتيهان في غياهب سكرها، الذي لا يُروى منه من ذاق رحيق قطرات تجمعت على شفاهها، وسقطت بعد أن تناغم فيها وتثاءب متوردا في صباح يومٍ يافٍ تتعانق فيه أمواج البحر مع غيوم سمائه، ونسمات هوائه التي أعلنت عن غجريتها وجنونها حين لامست خصلاتٍ من شعرها المجنون المنسدلة دون نظامٍ على كتفيها!
 
مع درويش مجددا، الذي تنبأ بحسه الإنساني بنا وبما سيؤول إليه حالنا حين قال لنا "بالأمس كنا نفتقد الحرية.. واليوم نفتقد المحبة.. لكنني خائفٌ من الغد لأننا سنفتقد الإنسانية!".
 
بالفعل فقد ضاعت منا وذهب معها أجمل ما يجعل منا بشرا نُحِّب ونُحَّب، وتحولنا لكائناتٍ غليظة جلفة أنانية، في لحظات قوتها تُمارس سطوتها وجبروتها، وفي أناتها وانكسارها تُبالغ في وداعتها وتذللها، وتُظهر حنانها، وتلهث خلف هوى الآخر وحبه، ممرغة جسدها في مبالغاتٍ تظن أنها لما تفعل ستجعل منها عاطفية رومانسية تكتسب ود نصفها الآخر الذي أهملته في جنون عظمتها لحظة تبسم الدنيا لها، لكنها الفانية التي أشاحت لها ظهرها، وتركتها ترجو غفراناً لن يكون لنفسٍ بشريةٍ أنانية ظنت نفسها قد ظفرت فيما خسرت وخابت ظنونها.
 
في جعبة هذين الشاعرين العربيين الراحلين قصصٌ تُروى سطراها بأشعارٍ جعلت كلاً منهما رمزاً تُميز به وعُرف، فغنى لهما من تغنى بأبياتهما وبقت البقية العظمى منها ترددها الألسن كلما حظرتها حادثة أو موقف، أو نمى لمخيلتها ما يثير شجنها فرددتها مراراً وتكراراً وكأنها تستمد منها الشغف والحنين والرغبة، التي ندرت رغم ادعائنا وجودها وتغير شكلها مع زحمة الحياة وما أكسبتنا إياه من غلاظةٍ وجلفة أبعدتنا عن أجمل ما يجب أن يكون فينا كبشرٍ خلقنا كذكر وأنثى.


المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=374771

الأربعاء، 10 أغسطس 2016

رومانتيكيون!!

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 10-08-2016



عجزت أن أفهم وأستوعب ما هي الرومانسية، ولماذا تشكل بطريقة غير مباشرة محور حياتنا؟ ولست مخطئاً إن وصفتها بأنها الشيء الأكثر استهلاكا لوقتنا، وإن نفينا ذلك عنا أو استهجنه البعض منا
 
كيف يكون ذلك؟ لنبحث معا ونراجع أحداث يومنا.. حين تنطلق بسيارتك، لابد لك أو ربما لغيرك أن تطرب لأغنية، فتنسجم وتعيش في جوٍ من أحلام يقظتك لما تسمعه وتردده، فيما شريط من ذكريات مجهولة يتراءى أمامك، لأحداث حصلت أو ربما تتخيل حدوثها أو تتمنى.
 
هل من الممكن أن نصف ما جرى للتو لك بالرومانسية، وألا تُعدُ تلك اللحظات التي انقطعت بها عن الدنيا شكلا من الشاعرية، أم هي ربما فقط مشاعر جميلة تلطف جفاء الروح وتبعد عنك رتابة ما حولك؟
 
حين نشاهد فيلما، أياً كان، وحتى لو كان مرعباً أو حربياً، ننتظر المقاطع التي تصدح بالعاطفة رغم قسوة الظروف المحيطة بها، ونتفاعل معها، ونشعر بوقعها على أنفسنا وكأنها حقيقة تحدث معنا، متناسين أن ما شاهدناه للتو وزلزل جبل الجليد الكامن بداخلنا هو تمثيل، أو بلغة أكثر صراحة "كذب جميل"، صنعناه بأيدينا ومن ثم صدقناه وتفاعلنا معه، ليصبح ما يحرك فينا الرياح الخاملة التي تتولد لتعصف بالجمود، فتحدث أثراً نحس به باللوعة التي نستمتع بها، رغم ما تحدثه من ـلم لنا، إلا أنها كمدمن العلقم الذي يكمن سبب حياته في إدمانه عليه رغم مرارته!
 
سألت صديقاً: هل أنت رومانسي؟ فأقسم أغلظ الأيمان أنه كذلك، ومن دلائله التي استدل بها، تلك الليلة المطابقة لعيد زواجه، حيث استأجر غرفةً في فندق دون علم زوجته، التي على حد وصفه كاد يغمى عليها حين دخلتها مغمضةً عينيها، وما إن أبصرت بها مجدداً حتى رأت طريقاً من الورد الأحمر المنتهي بزخاتٍ منه على سرير النوم!
 
روى لي آخر (والرجال سرُ بعضهم)، أنه من واقع خبراته وممارسته وجد أفضل سبيلٍ لها عبر الورد، فهو الذي يتحدث لغة القلوب وقادر على احتواء أعتاها وأكثرها صلابة، ويكفي أن تهديه لمن تُحب لتتملكه!
 
بالفعل هناك من يرى الرومانسية بدباديب وقلوب وهدايا فاخرة ووجبة عشاءٍ وسط أجواء رائعة، وهناك من يراها مودة ورحمة، فيما آخرون يجدون لذتها في الهمسات واللمسات وسط أضواء الشموع.
 
هي روح المحبة التي ولدت مع البشر منذ الأزل وليس لها عمر أو تاريخٌ تُعرفُ به، فحتى رجل الجليد والغابة والجاهلي عرفوها طريقاً للتلذذ بالحب، ومارسوها بطريقتهم الخاصة، وكذلك الأجداد ممن زرعوا الحقول ورعوا الغنم وجابوا الأرض على دابتهم طلباً للرزق وسعيا لتوفير مكارم الحياة، شعروا بها وربما تفننوا فيها أكثر من رومانسيي زمننا هذا، الذين اختلطت مفاهيم البعض حولها فربطوها بالغنى والثراء والمظاهر المبالغ فيها والهدايا الفاخرة ، فيما يفترض بنا أن نراها بالمزيج مما سبق وصفه، ولكن بتلقائيةٍ ودون اصطناع وبنفسٍ طيبة متعلقةٍ روحها بشريكها الآخر رغم كل ما قد يُعكرُ صفو الحياة بينهما.


المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=373372

الأحد، 7 أغسطس 2016

هل نكره السعودية؟؟

بقلم عماد أحمد العالم


سؤال بات من الملح علي أن أطرحه واتحدث عنه للعلن، بل أكتب عنه في ظل هوجاء مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت وسيلة الإعلام الأسرع تأثيراً والأكثر انتشاراً وسط شعبيتها بين الجميع، عامتهم ومثقفيهم، بسيطهم ومتكلفهم؛ هذا رغم كونها أيضا المصدر المؤرق للشائعات وذات المصداقية الأقل أوقاتاً، إلا أنها وللأمانة عكست ما فينا وابانت ما يعتمر في نفوسنا، وباتت كالصفحة البيضاء متناهية المسافة التي تستطيع أن تكتب فيها ما تشاء ووقتما شئت!
لم اتردد للحظة في فكرة المقالة, ولطالما أردت كتابتها, لكن ما أخرني عنها هو حرصي أن أنفي عنها صفة العاطفية, وأن تكون عملية مُصاغةً بصدق, وتكون مقبولةً لدى القارئ العربي والسعودي على وجه الخصوص, لأجلي فيها وأُجيب عن تساؤلاته المشروعة تجاه مشاعر غريبة يكنها الكثير من العرب أو بعضهم (ولن ارجح كفةً على الأخرى) تجاه المملكة وشعبها، فيها الإيجابي وهو المطلوب الذي لا يقلقني, وإنما السلبي الذي سيكون تركيزي وحديثي عنه.
يشعر السعوديون بأنهم أحياناً مغبوطون من أقرانهم العرب، ولكن كثيراً بأنهم محسودون ومتهمون في إنسانيتهم, ومطعونٌ في عروبتهم, ومشككٌ في مراعاتهم لحقوق الآخرين, ومنتقصةٌ مكانتهم من بعض الذين يرون فيهم بدواً رُحلاً, سكنوا القصور بعد نعمة النفط, وهجروا خيام الصحاري ليقيموا لها صروحا في بيوتهم، وتعلموا بعد أن كان الأغلبية منهم أميين لا يعرفون القراءة والكتابة.
تتكرر على مسامعهم جمل من قبيل "نحن من علمكم"، "ونحن من شيد طرقكم ومدارسكم ومستشفياتكم"، "ونحن من جعل بلادكم مأهولة تضج بالحياة بعد أن كانت قاحلة"، وغيرها الكثير التي أحدثت شرخاً في علاقة السعودي بشقيقه العربي, الذي بات يتشكك في أخوة الدم معه ويلعنه، فهي التي لم تقربهم لبعضهم كالمفترض, وإنما زرعت البغضاء والضغينة بينهم، حتى سادت مشاعر الحسد لا الغبطة, والنقمة لا المحبة, وتصيد الأخطاء والمسارعة في الملامة والتشفي; حداً وصلت فيه مُثخنةً للجراح ومهيجةً للمشاعر التي وإن أخفت حنقها في العلن وأسرته؛ إلا انه ما يلبث أن يطفوا على السطح ويظهر جلياً في كل ازمة تقع ولو لأتفه الأسباب. حينها تفصح الصدور عما بها ولا تخفي الأنفس كينونتها، فتشتعل حروب السباب والشتم والقذع، ويلتف أنصار كل فريقٍ حوله وأغلبهم للتشنيع لا التقريب وتهدئة النفوس!!
يقول المنطق أن المملكة دولةٌ حديثة نسبياً في عُرف تاريخ الدول، وذو مساحة شاسعة جدا أغلبها صحراوي، يُحسب لها لا عليها أنها استطاعت في ظرف عقودٍ قليلة وصلت لما وصلت اليه من تطور في جميع قطاعاتها التعليمية والصحية والإنشائية وحتى لو كان ذلك بسبب الطفرة النفطية، التي امتلكتها دول أخرى في العالم ذات تاريخ ضارب في القدم لكنها ما زالت فقيرة ومتأخرة، وليس بمعيبٍ لها أنها استفادت من الخبرات العربية والعالمية في إنشاء كيانها المرجو حتى تمكنت من تقليل نسب الأمية وتأهيل كوادرها الوطنية للاضطلاع بمهامها في مواصلة مسيرة التطور، فهذا حال الأمم التي تسعى للأفضل، ولكم في أوروبا التي كانت حتى قبيل الثورة الفرنسية تعيش في عصور الظلمة، لكنها أكبت على ابتعاث طلبتها للدول المسلمة آنذاك وعلى ترجمة العلوم بمختلف اتجاهاتها، حتى تمكنت بعد ذلك من تأسيس أوروبا الحديثة المتطورة والإنسانة ودولة القانون والحقوق والحريات والنظام، بعد أن كانت همجية ومتناحرة وضائعة ثرواتها في حروبها الدينية الداخلية ومطامعها التوسعية وحملاتها العسكرية. حين قامت واستوت على قدميها وطورت انظمتها، استعانت بأبنائها للاستمرار في النهضة، وكذلك الحال بالنسبة للسعودية، التي حين وحدها الملك عبدالعزيز كانت رقعا جغرافية واسعة وممتدة، المتمدن منها مناطق بعينها فيما الأغلبية العظمى تجمعات صغيرة لبدوٍ رحل تم توطينهم في الهجر والقرى، ومن ثم وبعد اكتشاف النفط استُثمر في الطفرة العمرانية والتعليمية التي نتج عنها ازدياد ثقافة التعليم وسط السعوديين ذكورهم وإناثهم، حتى تم الاكتفاء ذاتياً بمجالاتٍ بعينها ووصلت نسبة الأمية لأدنى مستوياتها، التي وإن قارناها بدول عربية عريقة كانت ترسل معلميها وتبتعثهم لها ستجدها أقل منها بكثير.
حين خرجت المانيا من الحرب العالمية الثانية مدمر ومنهارة، استعانت باليد العاملة من تركيا، التي اسهمت في بناء المانيا الحديثة، وكذلك فعلت المملكة، فهل يُقال مثلاً للألمان من قبل الأتراك "نحن من بنينا وطنكم وسكناكم", أم أن بعد الشكر والتقدير والامتنان لكل عمل ثمنه، وقد تقاضاه كل من قام به.
حين كانت الحياة التعليمية في السعودية ببدايتها، استقدمت المدرسين والمدرسات (وأنا أحد أبنائهم) للعمل في كافة الصروح التعليمية، وحين زاد الاقبال على الأقسام التربوية، أصبح أبناء البلد من يطلعون بهذه المهمة، التي تشهد اكتفاءً ذاتياً في الغالبية العظمى من تخصصاتها، وأظهروا فيها تميزا ملحوظاً رغم بعض الملاحظات التي يتم التحدث عنها، ولا يخلوا منها بلد في أي دول العالم، وإن كانت الآن تتعرض لحملاتٍ مكثفة لتطويرها عبر البرامج البحثية والمؤسساتية التي أنشأتها الدولة لهذا الغرض.
على مستوى المثقفين وحتى العامة من غير السعوديين، إن تحدث أحدهم عالياً ولام فريقه على موقفه من المملكة وأبدى حبه وتقديره لها، شُنت عليه حروب التخوين، واتُهم في ذمته، التي غالباً ما سيصفه البعض بأنها قد تم شراؤها واسترضاؤها، في طريقة مبتذلة عقيمة مللنا منها، ليس فقط لسخافتها ولكن لأن من يطلق هذا القول الأرعن يظن أن الهدف الأول للحكومة السعودية هو شراء الذمم والمديح لكي يُطرى عليها، وكأنها وشعبها في حاجة لذلك كي تخفي عاراً متدثراً بعيداً عن الأعين، ولديها من الفائض الذي يصعب تعداده لتنثره في الهواء كي تُبيض صفحتها، التي إن دققوا فيها سيجدونها بيضاء ناصعة مهما كان فيها من أخطاء، وقولهم "جلّ من لا يسهو"، فهي لا تدعي الكمال ولن تناله حتى، لكنها وفي مجملها مكونة من بشر يخطؤوا ويصيبوا، لهم مالهم وعليهم ما عليهم، لكن المقياس في النهاية والحكم عليهم تُرجحه الكفة اليُمنى التي أثقلت بميزانها اليسرى لما فيها من عمل خير وفعال حق ومواقف إنسانية ووطنية ودينية وشعب طيب عروبي صادق ذو نخوة وعزة، يُكرم الضيف والجار واللاجئ، وحكومة ساهمت على مدار عقود ودعمت ودفعت أكثر من ١٠٠ مليار ريال كمساعدات خارجية للدول وللأفراد، وقفت معها حين تخلى العالم عنها، وساندتها حين بخل الآخرون، ومدت يد العون دون حساب، ولم ترتجي حمداً ولا شكوراً من عبدٍ فيه الحامد والكثير من الجاحد، الذي نسي أن من لا يشكر العبد لا يشكر الله، ومن لا يقر للملكة بأفعالها الطيبة هو كالجاحد المنافق الذي لا يعي أن عمل الخير يقي مصارع السوء، وهو الذي يميز السعودية التي رغم كثرة الحاقدين ومكر الماكرين وغلبة الجمع على التصيد لها، إلا أنها وبفضل الله وتقديره محمية ومرعية ومرزوقة بخير من الله، تلتحفها دعوة إبراهيم عليه السلام لها بأن تكون بلدا آمناً مستقراً، ينعم جميع قاطنيها من مواطنيها ومن جميع الجنسيات والأعراق والأديان، ببركة ما رزقهم الله فيها، ويفيدون اهلهم وذويهم في دولهم عبر دعمهم مادياً، كما يسهمون في تخفيف الحمل عن دولهم بخفض نسب البطالة وبتحويل العملة الصعبة وبإنشاء المشاريع التجارية والسكنية.
من بعض ما يُفهم خطأً عن السعودية هو دعوات توطين الوظائف التي يتم استنكارها من غير السعوديين العاملين بها، والتي يجب أن يعي كل مقيم على أرض المملكة أن لا عنصرية في المُنصف منها البعيد عن المُبالغة، فهذه الأرض لهذا الشعب ومن حقه أن ينعم بخيراته ومقدراته، ومن باب أولى أن يجد أبناؤه عملاً لائقاً فيه، وما زاد منه فالأبواب مفتوحةٌ فيه لكل وافد، ومنهم الملايين المقيمين فيها بأسرهم، واستفادوا من عملهم فيها ببناء مستقبلهم في أوطانهم.
السياسة الخارجية للملكة أحد أكثر ما ينتقده البعض، ومنهم من باب العشم فيما آخرون من ضيق الأفق، محملينها فوق طاقتها ومتناسين انها ورغم مكانتها العالمية والإسلامية إلا أنها تبقى واحدة في مقابل عالمٍ بأجمعه حتى لو امتلكت النفط والنقد، ففي عالم اليوم الغلبة للتكتلات الأقوى التي يمثلها الغرب، فيما تصارع المملكة لكي تبقى متماسكة في وسط هوان عربي وتخاذل إسلامي وتشتت، يفقدها في كثير من الأحيان من تحقيق ما تتمناه، فاليد الواحدة عاجزة أحياناً على فرض مواقف تمثلها أيادي معادية متشابكة، وحدتها المصالح واختلفت فيها مع السعودية التي بإمساكها للعصى من الوسط؛ ظن العديد أنها تخاذلت فيما هي تحاول أن تحمي الصديق وتحيد العدو.
لكم مثلا أن تتخيلوا أن الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت خمسة وعشرون عاما وقُتل فيها وشُرد وأصيب ثلث الشعب اللبناني وعجز العالم المتخاذل عن إيقافها قد تم إنهاؤها بعد مشيئة الله باتفاق الطائف الذي رعاه الملك فهد رحمه الله، ولكم أن تستذكروا أن من وقف مع صدام حسين طوال حربه مع إيران هي السعودية، وأن من تحمل الفاتورة الاكبر في تحرير الكويت هي، كما أن من شكل الداعم الرئيسي الأكبر لمنظمة التحرير الفلسطينية مادياً وسياسياً ومعنويا هي المملكة، التي يحكمها الآن الملك سلمان بن عبدالعزيز والذي كان رئيسا للجنة السعودية لمساندة ومساعدة الشعب الفلسطيني طوال فترة حياته السياسية، وهو الذي ترك ابوابه مفتوحةً دوماً للفلسطينيين، وكان يسمي المقيم منهم في وطنه "هذولا عيالنا وأهلنا"، وكان دوما الراعي لاحتفالات ذكرى انطلاقة الثورة والانتفاضة بالعاصمة الرياض.
المواقف السعودية لا تقتصر على ما ذكرته, بل من الصعب حصرها, وإن كان منها ايضا دعمها للبحرين, التي أحاطت بها يد المكر الإيراني فأرادت خلق القلاقل بها, فوقفت لها المملكة بالمرصاد, وكان للجيش السعودي والحرس الوطني موقفه الذي لا يُنسى في القضاء على الفتنة وإعادة الاستقرار.
حين توفي الملك حسين بن طلال، سارعت السعودية لمد الأردن بودائع ملياريه لدعم اقتصاده تجنبا للانهيار, وكذلك فعلت دوماً مع المغرب ولبنان واليمن والسودان ومصر. أما الموقف السعودي الداعم لثورة الشعب السوري فكان منذ اللحظة الأولى واضحاً، وكذلك تدخلها في اليمن حفاظاً على الشرعية والوحدة، واستقبالها ملايين اليمنيين والسوريين والبورميين وفتحها لهم ابواب العمل والتعليم المجاني والعلاج الصحي.
للملكة فضلٌ علينا كفلسطينيين ولدنا على أراضيها وأنا منهم، وتعلمنا وعملنا وتزوجنا وكونا أُسراً وحظينا بحياةٍ كريمة لا ينكرها إلا ضال قد أعمى الباطل قلبه، لذا وشخصياً ومن باب الدقة والصراحة أيضاً، سأتحدث عن شعبي الفلسطيني (الذي رغم هواي السعودي الذي افتخر به حيث مسقط رأسي ومعيشتي) إلا أنني أنتمي له كهوية وعنه سأتحدث. منهم من هم للأسف قد فقدوا جادة الصواب في مشاعرهم تجاه المملكة وأبدوا بغضاً لها وغضباً يصعب تبريره. هو امر لا أُنكره وأُقرُ آسفاً وجوده، وكثيرا ما حدثني عنه أصدقاء سعوديون ابدوا امتعاضهم من مشاعر سلبيه يظهرها فلسطينيون تجاه السعودية على مستوى الأفراد والمواقف ايضاً، آخرها بدر من ثُلة من جماعة وأنصار حزب التحرير في الأقصى عقب وفاة الملك عبدالله رحمة الله عليه حين استنكروا من خطيب المسجد الأقصى الدُعاء له. حينها ثارت حمية الكثير، منهم من استهجن دون أن يُعمم ومنهم سعوديون أخذوا القاصي بالداني، وصبوا جام غضبهم على الفلسطينيين في لحظة غضب، لم ولن الومهم فيها، فما بدر جدير بالحنق ومُخجل ومُخزي وأشعر بالمرارة منه كلما تذكرته، ولا الوم شعباً فيه كُلِمَ بزعيمه, ووجد تشفيا من بعضٍ فيه بدل عزاء ومواساة. حينها كتبت مقالةً أبري فيها ذمتي وغالبية الفلسطينيين من ذاك الموقف السيء، ولست هنا كي أعيد ما كتبته حينها، ولكن لأؤكد لكم, وليكن أولكم أبناء الحي الذي ولدت فيه في السعودية ومنهم من شارك معي مقاعد الدراسة وآخرون الزمالة والصداقة، لمعلمي مدرستي الابتدائية والمتوسطة والثانوية ولا أنسى منهم من أسس قوام لغتي العربية وشجعني الأستاذ سعود المقبل، لصديقة والدتي نورة الزامل رحمها الله وسارة ناصر حفظها الله, وأم صقر التي وبخت ابنها الذي يعمل في المرور لأنه أوقفني وكاد يخالفني لقيادتي وانا في السابعة عشر من عمري بدون رخصة، لجيراننا الذين تعودت الاجتماع معهم كل سنة برفقة والدي وإخوتي عقب صلاة عيد الفطر، وتشاركنا افطارنا الأول في المسجد، للرجال ومنهم من هم في مقام أبي من شيبان الحي، وصديقات والدتي الحميمات الاتي يتناوبن فيما بينهن كل صباح وطوال الأسبوع على الاجتماع في ببت إحداهن وتحضير الفطور الذي كان القرصان أهم مكوناته. هن من دأبن على زيارة أمي حال علمهن بعودتي من السفر أثناء دراستي، محملات بدلال القهوة وترامس الشاي والتمر للترحيب بي، "بعماد" الذي طالما وصفنه "ولدنا"، لجامعة الرياض "الملك سعود" التي تخرج منها والدي معلما قضى في سلك التعليم أربعين سنةً،  ولكل المدارس التي درست فيها أُمي، هذا طبعا بالإضافة إلى أهلي وأحبتي من الشعب السعودي وقيادته الغالية؛ أؤكد لهم جميعا على بيعتي لقيادتها الرشيدة، وعلى ولائي المطلق لهم ولأرضهم ولترابهم ولشوارعهم ومدارسهم وحدائقهم ومزارعهم، لحضرهم وبدوهم، لهم ولمن يقطن مدنهم فرداً فرداً، لهم جميعا أقول أنتم منا كسعوديين، ونحن منكم كفلسطينيين، وسنبقى أبناءً لكم وإخوة واحبه، يسيؤنا ما يسوؤكم, ويفرحنا ما يغبطكم، عدوكم عدونا, وصديقكم صديقنا، من يضمر لكم الشر يُضمره لنا، ومن يبدي الخير نوده ونقربه منا، عدا ذلك، أدعوكم أن تتناسوا أخطاء البعض منا وتغضوا عنها النظر، ولتبقوا كما عهدناكم دوما شعباً طيب القلب، ابيض السريرة، شهماً محباً لعمل الخير وكعبة للمضيوم وملجأً لمن شُرد من وطنه، وحصنا منيعا للإسلام ودولةً تتوجه صلواتنا صوب الكعبة فيها، نحميها بأرواحنا، ونتشارك معكم في كل ما يقلقكم، ويسعدنا أن نكون سندكم في أزماتكم.
أتوقع أني اجبت على عنوان المقالة وليست ذراً للرماد, وإنما هو قولٌ اعتمر في صدري ووجدت أن من التخاذل إخفاؤه، بل الواجب إيضاحه وتبيانه وقوله للعلن، فهو وعملاً بنصح حبيبنا ومرشدنا محمد صلى الله عليه وسلم حين أمرننا بالتهادي، وهو الذي أهديه لشعبي السعودي ولقيادتي السعودية ولوطني التوأم مع فلسطين......المملكة العربية السعودية.

الخميس، 28 يوليو 2016

حُلْمٌ آثر الهوى أن يطيله!

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 28-07-2016


الحزن في صمت كلماته وفي سكونه وتوهانه وانفصاله عن الواقع الذي يكون حاضرا فيه بجسده الذي على ظاهره الحسن، هو ممزق ومشتت ومُبعثر في داخله، الذي أضنته أفكاره وجننته وساوسه، وتلاعبت به يمنة ويسرا دون أن يكون قادرا على السيطرة عليها، فهو كربان المركب الذي أيقن بفطنته ودرايته أن الأمواج التي تضرب بمركبه لا قدرة له على مقاومتها ولا المناورة معها، فأرخى العنان لها لتلطمه كما شاءت، وهو في كل موجة غضبٍ منها يقول إنها القاضية، فيما يتجاوزها منتظراً أخرى ربما تكون كذلك، لكنه في نهاية المطاف يجد جسده قد نجا ومعه مركبه بعد أن هدأت العاصفة وسكن البحر الغاضب، الذي استسلم لجبروته موقناً بهزيمته التي جعلته لا يبالي بما قد يؤول إليه مصيره، الذي أيقن أنه النهاية، فيما كانت نتيجته بداية جديدة له لم يرسم بعد ملامحها ولم يخطط لها، لتبدأ تلك الدراما التي يسمونا بالحياة تلعب لعبتها معه مجدداً، وترمي به في غياهبها دون أن يكون له رأي أو شأن بها، تاركا لها المجال لتقرر مصيره الذي لم تكن يوماً تكترث به.
 
هل من الممكن أن تكون تلك الكآبة التي تدمر غيره من البشر هي سر نجاته أو ربما حتى سعادته، التي لا يعرف معناها إلا بحصوله على لحظات من اللامبالاة المستقطعة بين ساعتي حزنٍ وبكاء؟!
 
لقد فقد البوصلة وأصبح كائناً بشريا لا يعرف معنى الحياة، فهي بالنسبة له تلك الروح التي تبقيه يتنفس فقط، أما ما حوله فلم يعد سوى كواكب خافتة في ليلٍ شديد الظلمة، لا فائدة ترجى منها لإنارة طريقه الموحش من كل الجهات.
 
مشكلته التي قد تكون ميزة له أن لا أحد يعرف ما يعتمر في ذاك العقل الضبابي، ففيما يراه البعض بائساً لا رجاء منه، يجده آخرون الخيميائي المتصوف الذي عرف سر الحياة وكشف أسرارها المخيفة، حيث كل كلمة ينطق بها لها مغزى، وكل حركة لها دلالة، في حديثه حكم وفي سكوته تأمل وصلوات يبتهل بها!
 
تناقضاته شديدة الغرابة، فحينما يسكن كل ما حوله بعد تمنيه ذلك؛ تشتعل الرغبة بداخله لتلك الفوضى والضوضاء التي طالما بعثرت تركيزه وأرقته، حتى إن حصلت انقلب على عقبيه كالفار من خطر اكتشف فجأة أنه مُحدق به، وعاد مجدداً يتمنى لحظة هدوء مطلق تروي ظمأه لسكينة تمنى فقدها، لكنها حين ابتعدت عنه لهث خلفها كَعَطِشٍ تراءى له طيف ماءٍ يعلم بأنه سراب لكنه يصر على اللحاق به رغم ما يفصله عنه من مسافة لامتناهية تجعل من الوصول إليه حُلُماً آثر الهوى أن يطيله!


المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=372372

الأربعاء، 20 يوليو 2016

تركيا ما بعد الإنقلاب الخامس

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في صحيفة العرب اليوم الإلكترونية 20-07-2016



هل سينطبق المثل الشائع “على الجاني تدور الدوائر” على من رعى الانقلاب الفاشل في تركيا ومن دعمه سواءً المعلوم منهم في الداخل التركي أو إقليمياً من جهات ودول علمت به من قبل وساهمت فيه ونسقت لتنفيذه, كما تشير إلى ذلك وباستمرار بعض التصريحات التركية الرسمية, أو تقارير تغمز وتلمز لذلك؟
 ربما تركيا الأمس الطامحة لعضويةٍ دائمة في الاتحاد الأوروبي والشريك الأساسي في حلف الناتو والمهددة فيهما إن طبقت حكم الإعدام بحق المدانين; لم تعد ولن تعود كما كانت من قبل, فالجرح هذه المرة غائر ولا يمكن الشفاء منه بسهولة, ليس لأن حكومة حزب العدالة والتنمية تشعر بالخذلان من حليفها الأمريكي الذي ظنت أنه تعامل معها بما لم يتعامل مع الحكومات المدنية قبلها, وإنما لأن فصول المؤامرة أكبر مما توقعت أو حتى خطر لها على بال, مقارنة بأربعة انقلابات عسكرية كان يفصل تقريباً بين كلٍ منها عشرون عاماً, وقام بها الجيش التركي, ربيب الأتاتوركية والمتذرع بها في كل مرةٍ أزاح بها الحكومات المدنية ليخلفها ويجثم بعدها على صدر شعبه ممارساً لديكتاتورية القتل والاعتقال ومدمراً للاقتصاد, ومبعدا وطنه عن بعده العربي والإسلامي عبر تتريك ممنهج وتغريبي لجميع مناحي الحياة والقوانين, وقمع لحرية الشعب وإجباره على القبول فقط بما يراه له العسكر, وهو الذي لم يكن يوماً فاتحة خيرٍ للبلد, بل دمره اقتصادياً وتنموياً ونشر الفساد به, إلى أن أتت رياح التغيير على يد عمدة اسطنبول الأسبق ورئيسها لاحقاً رجب طيب أردوغان, والذي عمل خلال توليه المنصب على جعلها المدينة النظيفة الدائنة والتي تغطي نفقاتها بنفسها, وتعطي الفائض لميزانية الدولة, حتى تآمر عليه العسكر ومتطرفو الأتاتوركية فيما بعد ليسجنوه عشرة أشهر بسبب استشهاده ببيت شعر في أحد خطبه!
جاء الانقلاب ليثير خلفه عاصفة من المواضيع لا تتعلق فقط بالأتراك وما جرى لهم ولا بحكومة العدالة والتنمية, وإنما إشكالات تمس الجميع وعلى الأخص من تطرق منهم للحادثة وكتب عنها وعلق, وانقسموا في مجملهم لفئتين لا حياد بينهما متمثلتين في من طار فرحاً بالخبر وبدء بالشماتة والتشفي, وبآخرين رافضين له ومعلنين عن دعمهم اللامحدود للتجربة التركية الديموقراطية وإعجابهم برئيسها أردوغان حداً ليظن فيه الغريب بأنهم ربما أتراك وليسوا عرباً من غير أهل القضية والأرض!
لنتفق أولاً وقبل الحديث على أن أي حركة عسكرية أياً كانت شعاراتها وما تدعوا له إن تدخلت في السياسة وانقلبت على حكومة مدنية منتخبة ديموقراطياً; غير مقبولة إطلاقاً ولا يجب الاعتراف بها ولا التبرير لها تحت أي ظرفٍ كان. لكن المُستغرب وقد ظهر جليا في الانقلاب الفاشل بتركيا أنه كشف فئة ممن صدعوا رؤوسنا من قبل عبر تنظيرهم ودعواتهم الليبرالية, فظهروا على واقع جلي لنا الآن بأنهم أكثر إقصائية وديكتاتورية من العسكر والانقلابين, فهم وعلى عكس ما يقولوا أكثر من يكرس مبدأ الاختلاف يفسد الود معهم, والذي سينتهي على الدوام باتهامك من قبلهم بالأخونة, مستغلين تجريم الحزب وتصنيفه في بعض الدول كإرهابي, ودون أن يكون لك أي ارتباطٍ به أو تأييد, حتى أن البعض تهكم على من اتهموه فقال لهم: أنا مسيحي, فيما تفاخر آخرون بإلحادهم وعلمانيتهم التي لم تنجهم من التهمة التي اخترعها منافقي الليبرالية ومدعيها لإقصاء كل من يخالفهم الرأي, وكأنهم أرادوا أن يكرسوا حقيقة مفادها أن كل من عارض الانقلاب هو إخوان وكل من تحدث بالخير عن أردوغان هو داعية له لأن يكون خليفة للمسلمين, متناسين أن من أفشل الانقلاب في تركيا هو شعبها العظيم الكاره أولا وأخيراً لحكم العسكر الذين عدوهم ربيباً للغرب لا يكترث إلا بمصالحه, ومكانه فقط يجب أن لا يتعدى الثكنات. لذا ثار وخرج للشوارع بمسلميه وعلمانيه, محافظه ومسيحيه وعلويه وبكافة أطياف عرقياته المتعددة. هم من وقفوا أما الدبابات وهم من جردوا الجنود من سلاحهم, وهم من جعلوا من أنفسهم اختيارياً وتطوعاً كدروع بشرية لحماية مقرات الحكومة والشرطة ولمنع الدبابات من التقدم إلا على أجساد العديد منهم التي مزقتها, فقضوا شهداء رفض حكم العسكر مجدداً في تركيا.
في البداية بدا أن الجيش سيطر على الأوضاع وأذاع بيانه الأول, إلا أن حديث الرئيس التركي مع أحد القنوات الخاصة عبر الهاتف ودعوته لشعبه للخروج قد غير معادلة تظافر لنجاحها بقاء قيادة الجيش الأول والشرطة والقوات الخاصة والاستخبارات بالولاء له, وكذلك رئاسة الأركان التي كانت سابقاً الراعي الأول للانقلابات, واستطاع أردوغان توطينها عبر جعلها تابعةً لرئاسة الوزراء, بقيادة أحد الشخصيات التي رغم اعتقالها من الانقلاب إلا أنها أسهمت في كشف خيوط المآمرة وتوحيد كلمة جزء من الجيش وقادته للبقاء مع الشرعية, حتى أن قائد الاستخبارات أمر أتباعه بالقتال حتى آخر واحدٍ منهم, أما الأحزاب الأربعة الرئيسية القومية والعلمانية فقد رفضت الانقلاب منذ اللحظة الأولى ودعت أتباعها للنزول للشارع وعقدت جلسة في البرلمان الذي استهدفته بالقصف مروحيات الانقلابين!
حين حكم العسكر تركيا كانت مدينة بما يعادل 80% من دخلها القومي لنادي باريس وصندوق النقد والبنك الدولي, وعملتها متدهورة ودخل الفرد فيها لا يتعدى 3500 دولار بالسنة والدعم الحكومي للزراعة لا يتجاوز النصف مليار دولا ونسبة الأمية عالية والتعليم والصحة متأخرة والصناعة في أدنى حالاتها, والحقوق المدنية والحريات هي الأسوأ, ولكم أن تعلموا أن الانقلاب سنة 1980 قد تسبب في إعدام المئات واعتقال أكثر من 650 الف معارض.
حين قادت حكومة العدالة عجلة البلاد, ركزت أكثر على الثلاثي الأساسي وهو الاقتصاد والصحة والتعليم, بل إنها خصصت أكبر ميزانية في الدولة لقطاع التعليم والبحث وإنشاء الجامعات والمدارس, فيما اهتمت أيضاً بدعم المزارعين وتوفير السكن والرعاية الصحية المجانية حتى الثامنة عشر من العمر, ليخلفها بعد ذلك التأمين الصحي الإجباري, لتتحول تلك الدولة الهامشية على الاقتصاد العالمي وفي غضون ثلاثة عشر سنة لواحدة من الدول الأقوى اقتصادياً على مستوى العالم والدائنة للعديد من الدول بعد أن دفعت بالكامل جميع القروض وفوائدها المتراكمة, وارتفعت بدخل الفرد لأكثر من عشرة الاف دولار في السنة, فيما قفز الناتج القومي الإجمالي بين عامي 2002- 2008 من 300 مليار دولار إلى 750 مليار دولار، بمعدل نمو بلغ 6.8 %, وسجل في العام 2014  قيمة إجمالية تبلغ 798 مليار و400 مليون دولار, فيما انخفضت البطالة لأقل من 10%, ونسبة تضخم لا تتجاوز السبعة بالمائة تطمح الحكومة لتقليصها إلى 5% بحلول العام 2018.
انتصر الأتراك لرفاههم واقتصادهم وحريتهم ولم ينتفضوا فقط لأردوغان  ولحزب العدالة والتنمية, انتفضوا للحفاظ على مكتسباتهم التي حولتهم لأحد أقوى سبعة عشر اقتصاداً بالعالم, ولجواز سفرهم الذي مكنهم من دخول ثمانين دولةً دون سمة دخول, ولنظافة مدنهم وسياحتهم وصناعتهم وإعلامهم, لحريتهم التي ذاقوا نعيمها ولن يستبدلوها بعد اليوم أبداً بالذل والهوان الذي ينتج عن اعتلاء عسكري لرئاسة الدولة ووزاراتها ومحافظاتها, ويلبس عباءة قضاتها ليكون الخصم والقاضي والجلاد في دولة القمع والبطش الوحشي حيث لا عدالة وإنما فساد وخيانة!
متابعتي للإعلام الغربي أثناء الانقلاب وعقب محاولات إفشاله وفشله بعد ذلك, وتصريحات وزارة الخارجية الأمريكية وبعض الدول الأوروبية وحلف الناتو والمفوضية الأوروبية, أكدت لي أن الانقلاب الفاشل لم يكن كما اُريد له أن يُصور بالانتفاضة وإنما كان مؤامرة كبيرة مكتملة الأركان كان منفذوها فقط من بعض القيادات الخائنة في الجيش, أي أركان الدولة العميقة التي تمتد جذورها إلى جميع المؤسسات والهيئات المدنية والسياسية والعسكرية والقضائية والعدلية, تجاوز ما تم اعتقالهم لحد اللحظة السبعة الاف, فيما القادم من الأيام ينذر بازدياد العدد, في لعبة على المكشوف باتت الآن وكما يراها سياسيو تركيا ضرورة للقضاء على الدولة الموازية وتطهير جميع مؤسساتها من اتباع فتح الله غولن, الذي نسب له المسؤولين الأتراك التخطيط للانقلاب والتآمر مع قوى غربية وعالمية واقليمية لتبديل نظام الحكم الذي لا يتوافق مع أجندتها ويرى في تركيا رغم علمانيتها الصارمة; القوة الإسلامية التي تهدد وجوده ونفوذه وتفرض طرفها في المعادلة كند لا تابع وعميل كما تريد وتشاء.
في التاريخ لنا عبره, من ماضيه البعيد لقريبه, ومنه نعلم أن العسكر لم يحكموا بلداً إلا وأفسدوه وقتلوا الشعب واستعبدوه وقمعوه, فيما دمروا الاقتصاد وأشاعوا الفساد المالي وتسببوا في مديونيةٍ عاليةٍ, واستجابوا صاغرين لمطالب المؤسسات المالية الدولية التي تفرض شروطاً ظالمة لمنح قروضٍ ضئيلة مقارنةً بما تسترجعه, لتغرق البلاد في نسب تضخم عالية جداً وازدياد للفقر وتقليص للدعم الحكومي وخصخصة للشركات الوطنية بأبخس ثمن لصالح الشركات متعددة الجنسيات الدولية, التي تتواجد عقب كل انقلاب لحصد الأرباح, كما جرى القرن الماضي في تشيلي والبرازيل والسلفادور والأرجنتين والعديد من دول القارة السمراء والآسيوية بما فيها العربية منها.
إصلاح الجيش وتطهير مؤسساته من التبعية للغرب ومن عقيدة المصلحة والسطوة مطلب لقيام دولة مدنية حديثة ديموقراطية, تلعب قوى الأمن فيها دور الراعي للديموقراطية وللحريات الفردية, وهذا من حق الحكومة التركية المصدومة من ضخامة ما تسميه بالخيانة المتمثلة بتمدد الدولة العميقة في البلاد لكنه يجب أن يكون ووفق نظام عدلي غير مسيس ونزيه ولا يتبع للحكومة التركية وغير انتقامي ومتسرع, وإنما يجري وفق الدليل وبدون التعذيب وانتهاك الحريات ومع الشفافية واطلاع الصحافة ومؤسسات المجتمع المدني على مجريات التحقيق, مع الحفاظ على مفهوم دولة القانون وحقوق المعتقلين وتمثيلهم.
لا بد أن تدرك الحكومة التركية أيضاً أن جيشها ورغم تورط عناصر منه في العملية الانقلابية هو جيشها الوطني ولا بد من الحفاظ على كرامته دون امتهان حتى مع المخطئين منه مع عقابهم بمحاكمات حره ونزيه; حتى لا يحدث جرح يصعب التئامه وحاله من الحقد العسكري الفردي على القيادة السياسية والشعب ككل, مما قد يتسبب في حراك انتقامي يدعو للانقلاب مستقبلاً, إن نجح سيرتكب مجازر بحق شعبه ويعود ببلاده لعصور الظلمة والديكتاتورية.
لعب جهاز الشرطة التركي وقوات مكافحة الشغب وعناصر المخابرات حصان طروادة في التصدي للجيش إلى جانب الشعب, وقام باعتقال عناصر الجيش المتمردة وقياداتها في حادثة ربما هي الأغرب في تاريخ الصراعات, حيث شكلت قوات الأمن كياناً موازياً للجيش الوطني المعروف بكونه الأقوى والأكثر عتاداً وتسليحاً, لكن حكومة العدالة والتنمية قد نجحت وطوال عقد من حكمها في توزيع مراكز القوى مما أفقد تفرد الجيش في الساحة الداخلية وجعل من سيطرته المطلقة عليها في أي محاولة انقلابية محفوفة بمقاومة من قوى أمنية أخرى ولاؤها المطلق للحكومة وليس للقيادات العسكرية, هذا رغم ايقاف المئات من قوات الأمن لمشاركتها او لتغاضيها عن الانقلاب ورفضها لأوامر وزارة الداخلية بالتصدي له; إلا أن العدد لا يُقارن بحجم المعتقلين من السلك العسكري والقضائي, الذي تغلغلت فيه جماعة فتح الله غولن مشكلة حكومة الظل الطامحة للإطاحة بحزب العدالة والتنمية والتي كانت تنوي حسب التصريحات الرسمية في تركيا اعتقال وتصفية عشرات الالاف من منسوبي الحزب في خطوة منها لاجتثاثه بالكامل من المشهد السياسي التركي حال تمكنها من الحكم.
يبقى أن نشير إلى أن الشعب التركي بمختلف أطيافه هومن أفشل الانقلاب ومعهم الأحزاب السياسية المعارضة والمؤيدة التي اتخذت قرارها التاريخي بعدم التضحية بالديموقراطية في سبيل الانتقام من الحزب الحاكم, واستطاعوا جميعهم وبأساليب غير تقليدية القضاء على انقلاب محكم ومُعد له بتآمر ربما تكشف الأيام القادمة أن وراءه نفس قوى الظلام التي ترعى سفاراتها في الدول عادة الاضطرابات والانقلابات على الحكومات الشعبية المدنية المنتخبة ديموقراطياً.
نفس الشعب هو من سيُستفتى بشكل نظام الحكم في تركيا وهل يؤيد بقاءه برلمانياً أو رئاسياً, وهل سيتقبل شكلاً من الدولة الدينية أو يبقى علمانياً, وهو الشعب ذاته بكافة أطيافه من سيطيح بحكم رجب طيب أردوغان وحزبه إن وجد منه حياداً على المبادئ, ولن يغفر له سنوات إنجازه إن حاد عن إرادة الأمة التي باتت وعلى الأقل حتى الآن هي من تحدد مجرى الأحداث في تركيا.



صحيفة العرب اليوم الالكترونية - http://www.3orooba.com/?p=2520

الخميس، 14 يوليو 2016

فنّ الفتوى!

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 13-07-2016

 


بدايةً، أؤكد احترامي للعلماء ورجال الدين الذين أجلهم، فهم قدوتنا ومرشدونا في أمور ديننا الإسلامي الحنيف وتعاليم شريعته، وما أذكره هنا ليس من باب الانتقاص منهم ولا من علمهم وبعض فتاواهم وتحجيمهم؛ وإنما محاولة لوضع الأمور بنصابها الصحيح، ونصيحة لابد من مناصحتها لبعضهم ممن يُستفتى من العامة في أمورٍ علميةٍ بحتة، ويصر أن يُجيب عليها مع جهله بها، ولكن وفق تصوره الديني الشخصي البحت، الذي يكون في الغالب غير موفق، ويُحدث ضجة تتعدانا ليتطرق لها العالم، ليس على سبيل ما تطرحه من أفكار جديدة؛ وإنما على سبيل السخرية والتندر!

لقد بات من الضرورة أن نعمل بمبدأ التخصص ونطبقه ونجعله ركيزة من ركائز الفتوى، حيث لا تتم إلا بعد استشارة المتخصصين، كل حسب مجاله، بحيث نصل إلى النتيجة التي بمقتضاها يتجنب غير المطلع من العلماء الشرعيين والدعاة على العلوم الدنيوية؛ أن يفتي فيها ويتركها لأهل الاختصاص، أو على الأقل تتم استشارتهم والتباحث معهم قبل الإجابة.
 
يجب أن نصل لمرحلة يكون فيها التخصص هو الأساس، فالعلم الشرعي ليس كالعلم الدنيوي، ولا علاقة له ببعض التخصصات العلمية كالفيزياء والفلك والرياضيات والصحة العامة، فيما الجهل به من رجال الدين لا يُلغي كونهم في المقام الأول من يؤخذ رأيهم من منظورٍ شرعي بجميع نواحي الحياة، وإنما يُحدث تكاملاً ويؤسس لهيئةٍ شرعيةٍ ومجمعٍ فقهي يطلع فقط بالفتوى، ويضُم في جنباته مختصين في جميع العلوم وعلى رأسها الدينية، ويستقطب وباستمرار الباحثين، ويبتعث المناسب منهم لأهم الجامعات ليواكبوا التطورات ويكونوا مطلعين على كل جديد.
 
لو أخذنا مثلاً ‏المقطع الذي يتم تداوله لأحد العلماء وهو ينفي فيه كروية الأرض، ويستدل على ذلك بآية أخطأ في الاستدلال بها لتأييد قوله؛ لأدركنا خطورة هذا الوضع وتبعاته السلبية علينا كمسلمين وليس فقط كيف ينظر الآخرون لنا، وهو الذي سينتج عنه تبني دُعاة لما سمعوه عن شيخهم وترويجهم لنفس فتواه، ما سيسهم في نشر قوله، ليحدث التصادم البشري بينهم وبين من يُفترض أن نكون جميعا منهم "العقلانيون"، الذين سيرفضون بالطبع ذاك المنطق الذي يُخالف العقل بحجة أن من أفتى به هو شيخ ليس له من العلوم الحديثة أيُ إدراك!
 
أحاديث ودردشات وأقوال وردت في عديد من البرامج الحوارية من دون اكتراثٍ لخطورتها وأثرها السيئ، حاول قائلوها عبرها إثبات وجهة نظرهم في أمرٍ ما، أذكر منها على سبيل المثال استشهاد أحدهم بدراسة من اختلاقه تقول إن قيادة المرأة للسيارة تؤثر على المبايض، لتتلقف قوله إحدى مقدمات برامج "التوك شو" الأميركية وتترجمها للإنجليزية وسط ضحكات الجمهور واستهزائها، يعني وببساطة تنطع البعض وتشددهم فيما اختُلف فيه جعلنا "مضحكة" للآخرين، وثبّت ما لديهم في نفوسهم من فكرة أننا إما بدو نعيش في الخيم ونركب الجمال أو دواعش مهتمون بالسبي وبالجواري!


المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=371775

الثلاثاء، 12 يوليو 2016

ترجمة تقرير النيويورك تايمز بعنوان: داعية أخلاقي سعودي........

ترجمة تقرير النيويورك تايمز بعنوان: داعية أخلاقي سعودي يدعو لإسلامٍ أكثر وسطية, فيتعرض لتهديداتٍ بالقتل.

ترجمة: عماد أحمد العالم 

12-07-2016

 


قضى أحمد الغامدي أغلب سنوات شبابه في العمل وسط الدعاة الملتحين في السعودية, حيث كان عضواً دائماً يعمل مع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (والتي تُسمى في الغرب بالشرطة الدينية), حيث كانت مهام عمله وفي الأساس تتمثل في حماية المملكة المسلمة من التغريب والعلمانية والحرص على التأكد من ممارسة التعاليم الإسلامية.
تلك المهام التي يُعدُ بعضها من صميم عمل الشرطة, كملاحقة مهربي ومروجي المخدرات والمشروبات الكحولية, في دولةٍ تمنع وتحرم تعاطي الكحول. لكن رجال الهيئة "كما يسميهم السعوديون" يقضوا معظم وقتهم في الحفاظ على المعايير العامة المتزمتة التي عزلت المملكة العربية السعودية ليس فقط عن الغرب وإنما معظم دول العالم الإسلامي.
أحد الجرائم الرئيسية وتُسمى الاختلاط, وتعني التجمع والالتقاء غير المسموح به بين الرجال والنساء, والذي حذر منه رجال الدين, ونبهوا إلى تبعاته التي تؤدي للزنا وخراب البيوت وولادة أطفال غير شرعيين, لتكون المحصلة انهياراً مجتمعياً.
كان السيد الغامدي ولسنواتٍ طويلة مُلتزماً ومُطبقاً لتلك المعايير التي يُدعى اليها, حتى أنه تولى رئاسة فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منطقة مكة المكرمة, المكان الأكثر قدسية إسلامياً. حتى بدأت صحوته التي تسببت في طرحه لتساؤلاتٍ بشأن الأنظمة الدارجة, فعاد مُجدداً لدراسة القرآن الكريم وأحاديث النبي محمد وصحابته, الذين يُعدوا الحذوة لممارسي الدين الإسلامي وتعاليمه.
ما اكتشفه كان بالنسبة اليه صادماً ومُحذراً, حيث وجد خلطاً كبيراً بين الجيل الأول للمسلمين, الذي وعلى ما يبدو لم يلتفت اليه أحد, لذا بدأ بإثارتها والتحدث عنها عبر المشاركة في مقابلاتٍ تلفزيونية ومقالاتٍ, أشار فيها إلى أن العديد مما كان يُعدُ في السعودية كممارساتٍ مستنبطةٍ من الدين; ما هي إلا موروثاتٍ ثقافية وعادات تم خلطها ولصقها بالإيمان والعقيدة. مما تطرق اليه أن لا حاجة لإغلاق المحلات وقت الصلاة, وأن لا مانع شرعي يمنع المرأة من قيادة السيارة في المملكة, كما أشار إلى أن عهد النبي محمد شهد ركوب النساء للجمال وتجولهم بها, وهو ما رأى أنه أكثر استفزازيةً من مشهد نساءٍ منقبات يقُدن مركبات ذات دفعٍ رباعي. حتى أنه أكد على حق المرأة في تغطيتها لوجهها إن أرادت ذلك كما هو الحال مع تغطيتها لجسدها, وليؤكد على وجهة نظره وقناعته; ظهر إلى جوار زوجته جواهر في مقابلةٍ تلفزيونية مُبتسماً فيما هي كاشفة لوجهها ومستخدمة للمكياج.
هذا الظهور كان بمثابة القنبلة للوسط المحافظ في المملكة, حيث رأوا فيه تهديداً للانضباط المجتمعي, الذي جعل من المشايخ فقط القيمين على الصواب والمعرفين بالخطأ في جميع مناحي الحياة; ليهدد كمحصلة صلاحياتهم التي تمتعوا بها.
رفض زملاء السيد الغامدي في العمل التحدث اليه, كما غمرته الاتصالات الهاتفية ومنها ما توعده بالقتل عبر مجهولين غردوا بها في برنامج تويتر. حتى أن شيوخ بارزين ظهروا إعلامياً منددين به وداعينه بالجاهل المبتدئ الذي يجب محاكمته ومعاقبته وحتى تعذيبه.
المُجدد غير المتوقع:
كان أول لقاءٍ لي بالسيد الغامدي البالغ من العمر 51 عاماً, والذي عمل سابقاً كفردٍ في الشرطة الدينية; هذه السنة في شقته بمدينة جدة, المدينة الساحلية المُطلة على البحر الأحمر, وجلسنا في غرفة صُممت لتكون شبيهةُ بخيمة بدو, مُزينةً جدرانها بنسيجٍ (أو طلاء) بورجوندي وثريات ذهبيةٍ معلقةٍ في السقف, وسجادةٍ مفروشةٍ على الأرض كان السيد الغامدي يسجد عليها أثناء أدائه للصلوات أثناء حديثي معه.
تحدث الغامدي معي, كيف أثر الشيوخ والفتاوي والتطبيق الدقيق للدين على كل شيء وكيف حددت حياته. لكن ذلك العالم (عالمه) قد جمد حياته.
قليلٌ من الرجوع إلى ماضيه وخلفيته كان يُمكن أن يتنبأ له بأن يكون مصلحاً ومجدداً دينياً. حين كان طالباً في الجامعة وموظفاً لدى مصلحة الجمارك بميناء جدة, استفتى شيخاً في عمله فأفتى له بحرمة تحصيل الرسوم الجمركية فاستقال من عمله.
بعد تخرجه من الجامعة, درس الدين في وقت فراغه وعمل في وظيفة حكومية تتطلب منه التعامل مع حساباتٍ دولية والسفر لدول غير إسلامية.
يقول السيد الغامدي " في تلك الأيام أصدر رجال دين فتاوى تُحرم السفر للبلاد غير الإسلامية إلا وفقط للضرورة القصوى", لذا استقال من وظيفته. بعد ذلك قام بتدريس الاقتصاد بمدرسة تقنية بالمملكة العربية السعودية, ولم يُعجب بالمادة كونها فقط تتحدث عن الرأسمالية والاشتراكية, لذا أضاف اليها دروساً في التمويل الإسلامي, مما أزعج طلبته بذريعة ضخامة المنهج, ليستقيل على إثر ذلك من هذه الوظيفة, ويلتحق بالوظيفة التي رأى فيها ووجد أنها تتماشى مع قناعته الدينية; كعضو في هيئة الأمر بالمعروف بمدينة جدة, والتي انتقل منها لتقلد عدة مناصب ومهام في الهيئة بفرع مكة, حيث تم الكشف عن حالات زناً والقبض على سحرة من المُحتمل أن يُعدموا إن تمت إدانتهم. برزت تحفظاته فيما بعد على طريقة عمل زملاء له في الهيئة وحماستهم الدينية ومبالغتهم في ردة الفعل التي كانت تؤدي لاقتحام المنازل وسوء معاملة المعتقلين. يقول الغامدي: " لنفترض أن أحداً ما احتسى الخمر, فهذا لا يعني أنه اعتدى على الدين, وهذا لا يُبرر ردة الفعل المبالغ بها تجاه الناس".
في حالاتٍ بعينها, أُنيط بالغامدي مراجعة بعض القضايا, حاول ومن خلال منصبه الإبلاغ عن الانتهاكات, وإجبار بعض الأعضاء على إعادة بعض ما صادروه بطريةٍ غير نظامية. ويتذكر إحدى القضايا التي ورد فيها بلاغ للهيئة من جيرانٍ يشتكون فيها جارهم العازب والكبير في السن والذي لا يصلي الجماعة في المسجد ويستقبل في منزله امرأتين في نهاية الأسبوع, تبين فيما بعد الإغارة على منزله أنهما ابنتاه.
يضيف الغامدي " المعاملة غير الإنسانية للناس تسببت في جفولهم من الدين"

تولى الغامدي رئاسة هيئة مكة المكرمة في العام 2005 عقب وفاة رئيسها, واضطلع حينها بإدارة الهيئة التي تتعدى فروعها التسعين في المنطقة ذات الأهمية الدينية, وبذل قصارى جهده مع عميق قلقه من أن تحود الهيئة عن أهدافها.
في خلواته, كان يطلع على أحاديث النبي محمد ليستشف ويعرف الحلال والحرام, وكان يدون مرئياته. يقول الغامدي " تعودنا على سماع كلمة حرام من العلماء ولكن دون سماع الدليل منهم". مع إدراكه لخطورة رأيه هذا, التزم الصمت وترك جانباً ملاحظاته وآرائه التي لم تلبث فيما بعد أن خرجت للعلن.
في الوقت الذي اعتكف فيه للتفكير والتقييم أعلن الملك عبد الله عن قرار إنشاء جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا, التي صدم خبر إنشائها المؤسسة الدينية بالمملكة كونها مختلطة ولا تفرض زياً موحداً على الطالبات, وفي نموذج مشابه لنمط أرامكو السعودية.
- - السطور التالية لم يتم ترجمتها لعدم اقتناعي بصدق محتواها عن المملكة وقادتها ولذا من واجبي كمحب للسعودية أن لا أُسهم في ترجمتها وأرى أنها لا تخدم الغرض وهو الحديث عن قصة وتجربة الشيخ الغامدي– "المترجم"
تابع الغامدي ردود فعل الغاضبين من إنشاء الجامعة التي كان مؤيداً لها, فنشر رأيه بمقالتين طويلتين بجريدة عكاظ في سنة 2009, حيث كانت المواجهة الأولى بين الغامدي والمؤسسة الدينية, التي واجه أفراداً منها في لقاءاتٍ تلفزيونية, حيث تعرض للشتم والإهانة من قبل الطرف الآخر الذي استشهد بأحاديث وروايات لتأكيد أقواله, في نفس الوقت, تعرض للنبذ من زملائه في الهيئة, التي اضطر لاحقاً للتقاعد المبكر منها وسط قبول وترحيب من خصومه.
بعد تركه وظيفته الرسمية, عرض رأيه بالممارسات الأخرى الجدلية المتعلقة بغطاء المرأة لوجهها وصلاة الجماعة وإغلاق المحلات وقت الصلاة وقيادة المرأة للسيارة. لتخلف آراؤه بعد ذلك جدلاً واسعاً.
سألته امرأة عبر تويتر عن جواز كشف الوجه ووضع المكياج فأفادها بأن لا مانع في ذلك, ليتعرض بعد ذلك لهجوم.
شارك الغامدي في العام 2014 في برنامجٍ تلفزيوني عرض تقريراً عنه وظهرت فيه زوجته كاشفة الوجه ومؤكدةً على دعمها له, لينتج عن التقرير نقد لاذع من المؤسسة الدينية, وهاجم العديد مؤهلاته العلمية وشككوا في كونه شيخ ورجل دين (دون أن يكون هناك معيار لذلك) ولكونه لم يحصل على إجازةٍ شرعية, كما أشاروا إلى أن شهادة الدكتوراه التي حصل عليها هي من جامعة "امباسدور", التي تمنح الشهادات بناءً على الخبرة العملية السابقة.
- - لم تتم ترجمة السطور اللاحقة التي تطرق فيها الكاتب لوجهة نظر عالم الدين الشيخ اللحيدان - - "المترجم"
في حين كان هجوم رجال الدين على الغامدي مؤلماً, إلا أن الأشد وقعاً كان من قبل قبيلته التي أصدرت بياناً تبرأت فيه منه ووصفته بالمزعج المشوش. تعرض لسيل من الاتصالات الهاتفية ليل نهار مستنكرة له, ولُطخ جدار منزله برسمٍ, في حين تجمع أشخاص عند باب بيته وطالبوا بالاختلاط بعائلته المكونة من تسعة أبناء, ليتم استدعاء الشرطة إثر ذلك من أحد أبنائه.
كان الغامدي خطيباً تدفع له الدولة أجر ذلك, إلى أن تم الشكوى عليه من بعض المصلين وفقد وظيفته.
لم يخرق الغامدي أي قانون, ولم يُحاكم قط, لكنه وبسب تكوينة المجتمع السعودي المغلقة, توالت عليه الضغوطات العائلية, وطالب أقارب خطيبة ابنه الأكبر بإلغاء الزواج وعدم رغبتهم بتزاوج عائلتهم بعائلته, حتى أن اخته تطلقت من زوجها بعد أن خيرها بينه وبين أخيها "السيد الغامدي", فاختارت أخاها فطلقها زوجها. سخر طالب زميلٌ لابنه عمار البالغ خمسة عشر عاماً واستنكر ظهور أمه في التلفزيون ووصفه بعديم الأخلاق, فرد عليه عمار بأن لكمه.


----------------------------------

تنويه من المترجم (رأيي الشخصي):
عناوين النص التي لم تتم ترجمتها:
صعوبة التقبل, ما هي الوهابية, موجه من الفتاوى, مكان لا تستطيع التحدث به, وصعوبة التغيير
لم يتم ترجمة النصوص الخاصة بهذه العناوين الذي يتحدث الكاتب فيها عن تجربته في السعودية ولقائه بشخصياتٍ دينية واعتبارية وصحفية ليس منها شخص الشيخ أحمد الغامدي (الذي يعنيني فقط ما ورد بشأنه في التقرير), مع اختلافي مع الكاتب في العديد مما أورده من فهم خاطئ لطبيعة العملية السياسية والاجتماعية في المملكة وقصور في فهمه للعلاقة الودية بين الشعب السعودي وحكامه, كما انحيازه لنظرية الشيطنة التي يتبناها الإعلام الغربي والتي لا تريد أن تتعمق في المجتمع السعودي لتدرك كينونته وخصوصيته, التي يرغب بها أفرادٌ من شعبها, كما أن بعض الآراء للكاتب مستقاة من عدم إدراكه بأن المملكة تعمل بالشريعة الإسلامية وتستقي قوانينها منها, لذا لا اعتراض على ذلك من أغلب شعبها الذي ارتضى قادته وحكومته, التي تحظى بتأييده واحترامه وتقديره ومحبته, بمن فيهم شخصي.
الشيخ أحمد الغامدي باحث ديني ودارس ورجل علم له اجتهاداته التي أجد نفسي مؤيدا له في جزءٍ منها ومعارضاً في أُخرى, ولاهتمامي الشخصي بضرورة تجديد الخطاب الديني وتحديثه وإطلاق الحرية الفكرية بما لا يتعارض مع ديننا الإسلامي وشرعه الحنيف, وجدت أنه من المفيد ترجمة المناسب "حسب رأيي" من هذا التقرير الصحفي الذي ورد بتاريخ 11-07-2016 لأحد أهم الصحف العالمية بالإنجليزية (النيويورك تايمز) وأكثرها انتشاراً وتأثيرا على صناع القرار والعامة على حدٍ سواء, مع حذف ما وجدته تحيزا من الكاتب أو سوء فهم للمجتمع السعودي الحبيب والقريب لقلبي قيادة وشعباً, فلم أخض فيه ولم أترجمه من هذا المنطلق, مع التأكيد على احترامي وإجلالي لرجال الدين والمؤسسة الدينية بالمملكة والمشايخ, الذين وردت مصطلحاتهم بالترجمة من قبل كاتب المقال الأصلي, أياً كان قصده ورأيه من وراء ذكرها والحديث عنها والاستشهاد بها.
كما التمس عذر السادة القراء عن أي خطأٍ محتمل في الترجمة, فجلَ من لا يسهو وأتمنى إفادتي به إن أمكن لتعديله, أما من أراد الرجوع لنص التقرير الأصلي بالإنجليزية فعليه الرجوع إلى الرابط التالي والاطلاع عليه مباشرةً:



http://www.nytimes.com/2016/07/11/world/middleeast/saudi-arabia-islam-wahhabism-religious-police.html?hp&action=click&pgtype=Homepage&clickSource=story-heading&module=photo-spot-region&region=top-news&WT.nav=top-news&_r=0

 

الأربعاء، 29 يونيو 2016

إلى السيد عدنان إبراهيم مع التحية

بقلم: عماد أحمد العالم

29-06-2016



لم أُعنون مقالتي هذه " بالصارم المبين ولا السيف الممدود في الرد على عدنان ابراهيم وتفنيد آرائه" ولا "تجميع الردود العلمية الجليّة على شبهات "عدنان إبراهيم" الخفيّة"، فمثل هذه العناوين لم تعد تصلح لزمننا هذا، ولم تعد ذات وقعٍ على عقل المتلقي ليس لأنها ركيكة,  ولكن لأن لكل زمانٍ لغته وبما يتماشى معه، هذا بالإضافة إلى أن الحوار يجب أن يكون وفق منهج المتلقي، وهو الذي لا أُنكر له اطلاعه ومعرفته وبلاغته وإجادته لطريقة الطرح التي اجتذبت العديد، ليس فقط لفصاحته ولكن لتطرقه لما كان في بعضٍ منه من المسلمات التي أُمر للأخذ بها كما هي والعمل دون نقاش، مع تغييبٍ للاختلاف فيها، حتى جاء عدنان ابراهيم كغيره وأعاد طرحها، وهو بما فعل لم يكن الأول ولن يكون الأخير، طالما الاجتهاد في الأحكام الشرعية قائم والإسلام على قدسيته وعظمته وكماله لم يمنع العقل من التفكير ولم يحجر عليه وإن كان حدد المسموح والممنوع والمكروه والمحبذ (وهنا يكمن أحد أسباب الخلاف)!

ابن رشد على سبيل المثال أثيرت عليه في زمنه علامات الاستفهام التي أدت لإحراق كتبه وتضليله، فهذا العالم مزج ما بين الفلسفة التي اتقنها وجعلها وسيلة للشرح والتطرق لبعض الأمور التي رأوا أنها تتعارض مع الدين، ففُسق وزُندق، وكذلك انتُقد ابن سينا والجاحظ والفارابي والعديد غيرهم، بسبب إبدائهم آراءً تتقاطع مع الدين، لكن الحال مع عدنان ابراهيم مختلف نوعاً ما، فهو ليس بالعالم المتخصص بأحد المجالات الطبية او الرياضية أو الفيزيائية، وإنما لنقل باحث بذل مجهودا لا بأس فيه في قراءة الكتب التي وفرت له وفرة في المعلومات بشأن مواضيع بعينها، شهدت اختلافاً بين العلماء وأثارت فضوله، فاعتنق من الرأي ما هو أقرب إلى نفسه، أو ربما أدعى لإثارة الجدل "أياً كان غرضه"، وتحدث بها في العلن، لتلامس على الفور هوى فئةٍ من العرب والمسلمين بمختلف اتجاهاتها، لتلقى قبولاً لديها وحماساً إما مرجعه أنه تحدث في المحظورات والمسلمات التي تربوا عليها والتزموا بها على الأقل ظاهرياً أو مجبرين رغم عدم اقتناعهم بها، واستشعارهم أنها محل خلافٍ ببن الأئمة والعلماء؛ فيما نزل وقع حديثه على الجانب الآخر مُزعجاً لما استخلصوا منه إما بثاً للفتنة أو تطاولاً على الدين ورموزه او ضلالاً وفساداً وإشاعةً للزندقة والأفكار الهدامة!
ما يثيره الرجل دعاني للبحث عنه والاستماع الى محاضراته ولقاءاته العديدة التي في أغلبها ركّز على مواضيع بعينها وتحدث عنها ونظر، واستشهد بما قرأه من مصادر مختلفة مع شرحٍ له مُسهب لوجهة نظره. بعض المواضيع التي تطرق لها هي قنبلة دائمة الانفجار بعلم الجميع وما زالت تُستخدم لزرع الشقاق بين طوائف المسلمين، كحديثه عن معاوية ويزيد، وقذفه للأخير تارة وحتى التلميح بأنه ربما ابن حرام، واتهامات لأبيه صفق لها الشيعة مثلاً لأنها تتطابق مع ما يكنونه من كره للرجلين، فيما طائفة أخرى من المسلمين تتمثل بأهل السنة ترا في معاوية صحابياً جليلاً وأحد كتبت الوحي لا يجوز الإساءة اليه أو الذم فيه، حتى يزيد ورغم ما قيل عنه إلا أن هناك من يُمجده ويروي مآثره.
مجرد تطرق عدنان ابراهيم لهذا الموضوع وتبنيه وجهة نظر تتطابق مع غير طائفته ومجاهرته الرأي أوجد حالة من النقمة عليه  لحديثه في شأنٍ له اكثر من الف وأربعمائة سنة وما زال سبباً في الفرقة والنزاع، الحديث عنه لن يُقدم أو يؤخر، وغير مفيد أبداً، بل ما لاحظته أنه كلما حاول البعض إخماد الفتنة، خرج علينا من يشعلها مجدداً بطرح رأيه في الحسين ويزيد ومعاوية وعلي، كما فعل قبله حسن المالكي وغيره ممن يطلقون على أنفسهم باحثين في التاريخ!
حين يتحدث عدنان ابراهيم عن الموسيقى وبكل أمانة أراه لم يأت بالجديد، فشخصياً أراها أمراً خلافياً أُختلف فيه، وأميل حتى لحلال غير الماجن منها "والله اعلم"، وسبقه حتى الشيخ عادل الكلباني الذي ارتأى حلال الغناء، فتعرض لعاصفة من النقد والتهكم، كانت شأن الاثنين من فئة معينة ترى في الغناء والمعازف حراما حُرمةً مُطلقةً لا شك فيها ولا نقاش وأيا كانت وطنية أو إنسانية أو عاطفية، وتعتبر عقابها عظيماً، ومارست الدعوة المستمرة  لبيان شديد جُرمها وركزت عليها وفي تحريمها ردحا من الزمن، وكانت من الموضوعات الأساسية التي ترتكز عليها دعوة البعض حتى صورت بأنها من عظائم الذنوب، فيما وكل ما فعله "ابراهيم" هو القول أنها حلال وبل غذاء للروح وأحد متع الحياة التي لا بد من التمتع بها، فتلقفها محبوها وعبر وسائل إعلامية لها ثقلها، فروجوا لقوله وكأنه قدم ما لم يجرؤ أحدٌ قبله قوله أو أوضح حقيقةً غائبة، فانتفض التيار المُحرم لها وبدأ النقاش والجدل، وانشغل متابعو السوشيال ميديا بالحديث وتضخيمه، فتارةً يصفه أحدهم بالعلامة المُحدث المعتدل، فيما آخر لا يتردد بإطلاق لقب "زنديق" عليه ودون حتى أن يعرف معناه، فيما آخرون قد أنشأوا "هاشتاج" للدفاع عنه وعرض مقاطع وحوارات له، قابلها آخرون ببيانات طويلة وصفحات تشرح ضلاله وفساده وشيطانيته، وبالطبع هلم جراً إلى معركة من التلاسن والتكفير والسب والمدح لم ولن تنهي بعد، مع أن ما قاله يردده العديد ولكن دون أن يُلتفت اليهم، لكنه نجح من جعل نفسه خلافياً وقادر على إثارة العواصف عقب حديثه في شأن مُكرر ومعروف وخلافي، أو ربما وجد من يدعمه ويبرزه ويستفيد منه في التنفيس عما في نفسه وقوله دون أن يضطر لقول ذلك بنفسه إما لضعف صوته أو خوفه!
مما لاحظته على السيد عدنان هو تضخم الأنا عنده، وشطحات له غير قابله للتصديق كقوله في أحدها أنه وبعمر الحادية عشر أفحم الماركسيين وأخافهم، فيما أسلم العديد على يده وهو مراهق، وكان عُرضة للقتل والاغتيال، وتحدث الجن من قبل معه وطلبوا منه أن يدعو لهم، والقلم الذي تكسر في الحج وعاد لما كان والرسالة التي وصلته من الله عز وجل "تحاشى وتعالى" بأن ماله حلال، هذا عدا عن حادثة المصباح والمال الذي وجد تحت قدمه والعديد من "الخراريف" التي يتحدث عنها ليظهر للناس كراماته التي يريدها أن تجعله من الأولياء والعلماء، الذين لا ارى في شخصه مرشحاً ليكون أحدهم، فلا يكفي أن تكون قارئا ممتازاً ومحدثا لبقاً لتكون عالما، فتلك صفة لا تُدرك إلا بتقديم الجديد الذي لم يُعرف قبله فقدمه واكتشفه، أما التنظير بأمور معروفة لكنها تكتسب أهمية بسبب ما تثيره من شقاق، فلا تحتاج لعلم بمقدار وجود الشخص المناسب وبالوسائل المتاحة الداعمة لإثارتها وخلق جدل لا ينتهي بطرحها.
مع الزوبعة المتعمدة لبرنامج "صحوة" الذي يقدمه أحمد العرفج عبر قناة روتانا ويستضيف فيه عدنان ابراهيم، تتكرر يوميا المجادلات المُختلقة وردود الفعل، التي كان آخرها من هيئة كبار العلماء في السعودية وحذرت فيه من ضلالاته وسبه لبعض الصحابة ونبهت لتضخم "الأنا" عنده وطالبت المختصين بكشفها، في تعليقٍ تمنيت الا يصدر عنها، كيلا نُعطيه أكبر من حجمه، رغم حق الهيئة بذلك كونها أحد أهم المرجعيات الإسلامية التي يتطلع لها ليس فقط السعوديون وإنما مسلمو العالم، فربما بما قالت ارتأت درأ فتنة أو بيان ضلالة، وقد يفعل الأزهر كذلك، لكني من قومٍ يرون أننا أحياناً من نشعل الفتيل عبر تكبير الصغير وجعل الحمقى مشاهير، مع إقراري بأن الأستاذ عدنان ليس بالصغير ولا الأحمق، وإنما دارس وباحث في العلم الشرعي صوّر له هوى نفسه أموراً وجمل له آراءً بشأن مواضيع بعضها جدلي وفيها اختلاف وأخرى لها تبعات طائفية، فتحدث عنها بأسلوبه المنمق دون أي جدوى أو فائدةٍ من طرحها، ودون تقديم الجديد فيها، فلا هو صحح حديثا ورد عن الرسول وتتبع سنده وأبان قوته من ضعفه، ولا هو أتى بالجديد بشأن فتاوى متباينة ولا هو أكد بالحق والصواب مظلومية الحسين وفساد يزيد وطغيان معاوية مثلاً كما تطرق لذلك أكثر من مرة، كما أنه لم يقدم الحل للتطرف عدا عن تكرير تلك الأسطوانة المكررة لاتهام السلفية والوهابية بأنهم نبع التطرف والإرهاب والدعشنة، مخصصا حديثه بطائفةٍ بعينها دون أخرى ترتكب من المجازر ما هو أسوأ من داعش كالحشد الشعبي العراقي والمليشيات الشيعية الطائفية المدعومة من طهران والتي تنشط في العراق وسوريا، وهو بتجاهله يمنح ايران صك البراءة التي قال فيه سابقاً بأنها ومنذ 150سنة لم تشن حربا على العرب ولم تعتدي عليهم وكأنها قوة سلام؛ عوضاً عن تغاضيه لتشكيلها محور الارتكاز للديكتاتورية في سوريا والنظام الطائفي بالعراق والإرهابي الحوثي باليمن، هذا فضلا عن احتلالها منذ العام ١٩٢٥ للأحواز  العربية، وما تلاها من جرائمها المعروفة ووقوفها على سبيل المثال لا الحصر خلف تفجيرات الحرم المكي، واحتلالها للجزر الإماراتية ودعمها لمليشيات الموت في العراق وسوريا ولبنان وووووو!
لا أنكر المعجزات ولا الكرامات، لكني أُشكك أن البعض منها قد تم اختلاقه وتهويله، لكني ودون شك موقن أن كرامات قدوة عدنان ابراهيم كما شخصه هي من محض اختلاقه، فيصعب على التصديق أن الحلقة الأسبوعية للشيخ عبدالقادر الجيلاني التي أشار اليها في أحد أحاديثه؛ تجاوز حضورها المائة الف شخص، كان الجيلاني فيها يُحدثُ الجمهور وهو يجلس في الهواء مرتفعا ومتكلما وسط بكاء الحضور واندهاشهم لهذه المعجزة الحية أمامهم.
أيغال "ابراهيم" في إضفاء القدسية على شخصه مبالغة وصلت لحد "الهبل" الذي ينطلي فقط على "الدراويش والسذج" المؤمنين بالخرافات لا الكرامات، وهي نقطة سوداء في سجله وسيل من الكذبات لا يُمكن تصديقه، رغم أنه وكما يقول من دُعاة تحكيم العقل ومحاربة الكهنوت والتقديس للشخصيات، في تناقض لا اقول بالفاخر، بل عذرا بالسطحي منه وهو يناقض ما يُنظِّر اليه!
السيد عدنان ابراهيم:
الوسطية لا تعني ابدا التشكيك في المسلمات ولا اقول الخلافيات، كما أنها لا تعني اتباع اهواء النفس في تفسير الأحكام، ولا تجعل من نفسها سلاحاً بيد دعوة أو طائفة أو فئة على حساب أُخرى؛ إنما هي تجسيد حقيقي لطبيعة الدين الإسلامي والأمة الإسلامية التي جُعلت وسطاً، أي لا مُفرطة ولا مُتشددة، وحقيقةً لا أرى في عدنان ابراهيم ومن مثله ممثلاً لها، بل أجده خارجاً عنها قد ضل طريقه بعد أن فقد بوصلة الصح والخطأ فيما عليه قوله والبحث فيه وتجنبه، شأنه كمتنطعين متشددين أساءوا للدين بجلافتهم وتصلبهم واتباعهم مبدأ التحريم الدائم والتخويف والترهيب بدلا من موازنته مع الترغيب. جميعهم أعداء للوسطية ومبتدعون كان لهم وما زال أثر لا يُمكن انكاره في حالة الضياع الفكري والتشتت الايديولوجي الذي يُعاني منه جزء لا بأس به، ارتأى أن يكون تابعا لأحد المتضادين دون أن يُحكم عقله ووفق ما أحله له دينه!

سياحتنا غير

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 22-06-2016



تخيلوا لو أن واحدة من دولنا العربية المحافظة والعامرة بالماء والخضرة والوجه الحسن والأجواء اللطيفة والقوانين المنظمة لشتى شؤون الحياة اشتهرت عالميا وأصبحت وجهة سياحية مستقطبة للسياحة من جميع دول العالم، وخصوصاً البلدان الغنية منها والمتطورة، أي العالم الأول كما يُسمى. المهم (ومازلنا نتخيل)، لو أن جموع السياح التي غزت ذاك البلد مارست الفوضى وعاثت خراباً وهمجية ولوثت الأخضر، فحولته إلى يابس ومارست هواية الشوي "الهشّ والنّش" في الحدائق العامة المخصصة للنزهة العائلية والممنوع إشعال النيران فيها، بل زادت على ذلك وقنصت بطاً بريئاً يسبح في البحيرة مرتاح البال وآمن وذبحته وعملت منه مندي أو مظبي أو متشبوس، أياً كان، وقامت بعد ذلك وصورت فعلتها الشنيعة وجاهرت بها بوسائل التواصل "السوشيال ميديا"، فيما آخرون منهم وباسم الحرية الفردية التي يتمتعون بها في دولهم؛ نزلوا على الشواطئ شبه عراة رجالاً أو بالبكيني نساءً، ولم يكتفوا بذلك، بل أشعلوا نيراناً وتجمعوا حولها ورقصوا وهم يدورون مقلدين الهنود الحمر، فيما قناني الشراب والخمور مرمية في كل مكان، وصوت موسيقى غريبة تصدع بالمكان دون مراعاةٍ لحرمة المستجمين والعائلات والأطفال ولا قوانين الدولة التي لا تسمح بالتعري في الأماكن العامة ولا تدخين الشيشة والنرجيلة ولا المسكرات.. تخيلوا ماذا سيحدث لهم؟ وهل سنعذرهم لارتكابهم الموبقات ولانتهاكهم القوانين وسنسجنهم ونقدمهم للمحاكمة، فيما عُذر دفاعهم عنهم وقتها إن حصل سيكون أنهم من الغرب مثلاً وهذا نمط حياتهم وليس من حق أحد تغييره، أو في مرافعة أخرى يُظهر فيها مدى عنصرية العرب والمسلمين الذين لا يتقبلون الآخر "الكافر" ويفسرون أي تصرف لأفراده من هذا المنطلق؟!
 
لنرجع الآن للواقع ونتوقف عن التخيل، ولنستعد وعينا وإدراكنا ونعيد الأمور لنصابها، أي لنعترف أن الغرب الذي تخيلناه في الموقف أعلاه وللأمانة قد تربى على احترام القوانين، وكتبعية لذلك حين يسافر للخارج "الأغلبية" تمتثل لقوانين البلد التي تنوي زيارته والسياحة به، فهي مثلا إما تلبس "عباية" أو تضع منديلاً على الرأس في الدول التي تجرّم خروج المرأة من دونهما، كما أنهم وبالتأكيد لن يمارسوا العري على الشواطئ ولن يشربوا الخمور في العلن، ولن يقوموا باصطياد الحيوانات والطيور في الحدائق والمحميات الطبيعية، ولن يرقصوا المكارينا ولا السالسا أمام المارة، بل وبكل بساطة سيلتزمون بقانون البلد المضيف، الذي أوضحته لهم إما وزارة خارجيتهم أو سفارة بلدهم فيه قبل حضورهم إليه، وأطلعتهم على المسموح به والمنهي عنه، والنتيجة ولنقل التزام ما لا يقل عن ٩٥ بالمئة‏ منهم، في نسبة لو قارناها بأفواج العرب السائحة لانعدمت إلى ما دون الربع أو يزيد، والشاهد ما يخرج من قوانين وتصريحات وكتابات وتقارير تلفزيونية من تلك الدول السياحية تستهجن ما يفعله السياح من ربعنا في أراضيهم، وانتهاكهم لأبجديات الأخلاق والحرية العامة والممتلكات، التي حولها "الربع" لمجالس لنفث سموم شيشتهم وشوائهم في هوائهم الطلق، منتهكين مثلا حُرمة ومكانة برج إيفيل لدى الفرنسيين أو الهايدبارك عند الإنجليز. لكنهم، وما إن يُمنعوا أو يُعاقبوا ويغرموا وتنتشر قصتهم إلا ويبدأ المنظرون باتهام الغرب بالعنصرية وبالعداء للعرب والمسلمين، متناسين أنهم حتى لو كانوا كذلك فمعهم حق بعد ما رأوا من أُمة المليار ما لا يقبله عقله ومنطقهم وقوانينهم الوضعية التي تربوا عليها من صغرهم، وسيصيبهم بالصدمة أن يرو الغريب ينتهكها بحجة السياحة في بلدانهم!
 
ملاحظة: أقر أني لست بتغريبي ولا أستشهد بالغرب إلا من باب إيضاح ما وصل إليه عالمنا العربي والإسلامي، ولا أرى فيهم مخلوقات فوق العادة أو من جنس آخر مختلف عنا، بل فيهم الصالح والطالح، فالمسألة بالنسبة إلي لا علاقة لها بالدين والعرق واللون، وإنما بالأخلاق والقوانين.


المصدر: جريدة الكويتية -  http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=371260

الثلاثاء، 14 يونيو 2016

كوكتيل الحب والظلم

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 15-06-2016



على مدار اليومين الماضيين شاهدت فلمين هنديين، بالطبع هما من مجموعة من العشرات من الأفلام الهندية التي شاهدتها، كمثيلاتها الامريكية والعربية وقلما تركت أيٌ منها انطباعا دائما أو أثراً في نفسي، وإنما كما يقولون لتمضية الوقت أو للضحك والتندر، وهو شعور عادةً ما أشعر به وبالأكيد الكثير غيري لنقل من عرب إن تابعوا فلماً هندياً، حيث نستخدم المصطلح للإشارة إلى كم الخيال والإسفاف والمبالغة فيها، سواءً من حيث القصة المكررة التي قوامها الطيب والشرير والغني والفقير وقصة الحب التي بطلاها شاب وفتاة أحدهما ثري والآخر غلبان.
 
النهاية في ٩٩،٩٪‏ (كنتائج الانتخابات العربية سابقاً) انتصار الخير على الشر ولم شمل الحبيبين وندم المعارضين السلميين وفناء المتجبرين، وتوته توته انتهت الحدوته!
 
يخرج جمهور المتابعين من صالات السينما في الهند فرحين بعد المشاهدة وهم غير نادمين على ما انفقوه ثمناً لثلاث ساعات من الرقص والغناء التي تتخللها نفس الأحداث والأكشن والدموع ومشاهد سفك الدماء والإيغال في الانتقام والتشفي، يتوجه كل منهم لحال سبيله وفي نيتهم نصح صديق او قريب لمشاهدة الفيلم أو حتى تكرار التجربة إن لامست في نفس المتلقي رغباته الداخلية، التي لا بد أن يكون بعضها واقعيا في بلد المليار، فمما عرفته عن هذا البلد الذي يعد أكبر ديموقراطية في العالم ولا يتدخل جيشه بالسياسة؛ أنه أيضاً وكر للفساد والرشاوى والإجرام والطبقية وانتشار رجال العصابات والاتجار بالبشر وبكل ما هو غير مشروع ومحرم، يقوم عليها رجال ذو نفوذ في المجتمع كما رجال عصابات يفرضون الاتاوات على الناس ولا يعترفون إلا بسلطة القوة والتجبر، وهو أمر شائع جدا في ذاك الركن من آسيا وسمة لمجتمعاتها، لذا ما يصنع من أفلام وإن كنا نراها مبالغة إلا أنها بالفعل حقيقة ولذلك تعبر عنها السينما علها تكون وسيلة لتفريغ الكبت في النفوس من انتشار قانون الغاب، الذي لا يستطيع قانون الدولة أن يلغيه، ليس لضعف قوى الأمن أو لقلة عددها، وإنما لأن تلك التصرفات تبررها أحيانا العادات والتقاليد والدين، الذي يوجد منه بالهند الكثير ليتجاوز الآلاف، والذي يبيح ما لا يقره عقل أو منطق، لكن رجاله والقائمون عليه قد سمحوا به وحبذوه، لذا فليس من المستغرب أن تجد أن وأد البنات وهن أحياء ما زال منتشرا بالهند وكذلك شنقهن وتعليقهن على أغصان الشجر، ورش وجوههن بماء النار، لأسبابٍ في الأغلب لا تبتعد عن "الشرف" الذي ربما لا يعدو أن يكون أن فتاة أحبت رجلا أو هربت معه وتزوجته. من هنا تقوم قيامة الأهل وتُرتكب المجازر في ظل صمت رجال القانون إن لم يكن ضلوع بعضهم فيه، فهم من نفس الخلفية ويعتنقون الدين ذاته، لذا تجدهم متعاطفين مع القتلة والمجرمين ومبررين لبعض أفعالهم!
 
لو كان افلاطون على قيد الحياة وشاهد بعض ما انتجه الهنود من افلام رومانسية لتوجه من فوره إلى ساحةٍ عامةٍ وتنازل عن "حبه الأفلاطوني" ولأقر للهند أنها تقدمت عليه ولسمى حبه "بالهندي" الذي يتجسد فيه اللوعة والحرمان والقهر والمنع والإصرار والوفاء وكل المشاعر الإنسانية التي نحلم بها ولا نستطيع تطبيقها في واقعنا. هو حب يمثل لإصحابه محور الكون وغايته وسعادته الأبدية، التي حولت مراهقي هذا الشعب "لحبيبة" غاية الكل منهم أن يُحِّب ويَنْحَّبْ وينال مناه في النهاية كما يشاهد في الأفلام التي تحقق له تلك الغاية في خياله وإن استحالت في واقعه.
 
إذن "كوكتيل الحب والظلم" هو جزء من واقع تلك الدولة وليسا خرافة مُختلفة، بل هو مرآة تعكس ما في مجتمعه الذي يقطنه الملايين من الفقراء الذي يعانون من القهر ويطمحون للحب عله يعوض ما في نفوسهم وهو بالمجان، وهم في ذلك اكثر صدقا منا نحن معشر العرب وحتى من الأمريكان، الذين لا نلومهم ولا نستغرب ما تنتجه لنا "هولويدهم"، رغم كمية الكذب والشطح والنطح فيها، من "رامبو" المبيد لجحافل جيوش الأعداء في فيتنام "لمجايفر" الذي يمتلك حلا لكل معضلة، لحرب الكواكب والنجوم، لأسطورة الجيش الأمريكي الذي لا يُقهر، وهي إن دققنا فيها سنرى أن "بوليود" أمام خرافات "هوليود" كالقزم الصغير أمام العملاق فارع الطول، لكن ذلك غربي أمريكي نصدقه ونصفق لإبداعه، وذاك هندي اسمر البشرة آسيوي نضحك عليه ونتندر!
 
مع كل ما ذكرته ومع ذلك أنصحكم كل فترة وأخرى أن تتابعوا فيلما هنديا عله يوقظ إنسانيتكم ويغمركم بقليل من الرومانسية والمشاعر تعوضكم عما تفتقدونه في حياتكم من جمود بالأحاسيس وقبول بالأمر الواقع على بشاعته وغبنه!


المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=370974

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...