الأربعاء، 20 يوليو 2016

تركيا ما بعد الإنقلاب الخامس

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في صحيفة العرب اليوم الإلكترونية 20-07-2016



هل سينطبق المثل الشائع “على الجاني تدور الدوائر” على من رعى الانقلاب الفاشل في تركيا ومن دعمه سواءً المعلوم منهم في الداخل التركي أو إقليمياً من جهات ودول علمت به من قبل وساهمت فيه ونسقت لتنفيذه, كما تشير إلى ذلك وباستمرار بعض التصريحات التركية الرسمية, أو تقارير تغمز وتلمز لذلك؟
 ربما تركيا الأمس الطامحة لعضويةٍ دائمة في الاتحاد الأوروبي والشريك الأساسي في حلف الناتو والمهددة فيهما إن طبقت حكم الإعدام بحق المدانين; لم تعد ولن تعود كما كانت من قبل, فالجرح هذه المرة غائر ولا يمكن الشفاء منه بسهولة, ليس لأن حكومة حزب العدالة والتنمية تشعر بالخذلان من حليفها الأمريكي الذي ظنت أنه تعامل معها بما لم يتعامل مع الحكومات المدنية قبلها, وإنما لأن فصول المؤامرة أكبر مما توقعت أو حتى خطر لها على بال, مقارنة بأربعة انقلابات عسكرية كان يفصل تقريباً بين كلٍ منها عشرون عاماً, وقام بها الجيش التركي, ربيب الأتاتوركية والمتذرع بها في كل مرةٍ أزاح بها الحكومات المدنية ليخلفها ويجثم بعدها على صدر شعبه ممارساً لديكتاتورية القتل والاعتقال ومدمراً للاقتصاد, ومبعدا وطنه عن بعده العربي والإسلامي عبر تتريك ممنهج وتغريبي لجميع مناحي الحياة والقوانين, وقمع لحرية الشعب وإجباره على القبول فقط بما يراه له العسكر, وهو الذي لم يكن يوماً فاتحة خيرٍ للبلد, بل دمره اقتصادياً وتنموياً ونشر الفساد به, إلى أن أتت رياح التغيير على يد عمدة اسطنبول الأسبق ورئيسها لاحقاً رجب طيب أردوغان, والذي عمل خلال توليه المنصب على جعلها المدينة النظيفة الدائنة والتي تغطي نفقاتها بنفسها, وتعطي الفائض لميزانية الدولة, حتى تآمر عليه العسكر ومتطرفو الأتاتوركية فيما بعد ليسجنوه عشرة أشهر بسبب استشهاده ببيت شعر في أحد خطبه!
جاء الانقلاب ليثير خلفه عاصفة من المواضيع لا تتعلق فقط بالأتراك وما جرى لهم ولا بحكومة العدالة والتنمية, وإنما إشكالات تمس الجميع وعلى الأخص من تطرق منهم للحادثة وكتب عنها وعلق, وانقسموا في مجملهم لفئتين لا حياد بينهما متمثلتين في من طار فرحاً بالخبر وبدء بالشماتة والتشفي, وبآخرين رافضين له ومعلنين عن دعمهم اللامحدود للتجربة التركية الديموقراطية وإعجابهم برئيسها أردوغان حداً ليظن فيه الغريب بأنهم ربما أتراك وليسوا عرباً من غير أهل القضية والأرض!
لنتفق أولاً وقبل الحديث على أن أي حركة عسكرية أياً كانت شعاراتها وما تدعوا له إن تدخلت في السياسة وانقلبت على حكومة مدنية منتخبة ديموقراطياً; غير مقبولة إطلاقاً ولا يجب الاعتراف بها ولا التبرير لها تحت أي ظرفٍ كان. لكن المُستغرب وقد ظهر جليا في الانقلاب الفاشل بتركيا أنه كشف فئة ممن صدعوا رؤوسنا من قبل عبر تنظيرهم ودعواتهم الليبرالية, فظهروا على واقع جلي لنا الآن بأنهم أكثر إقصائية وديكتاتورية من العسكر والانقلابين, فهم وعلى عكس ما يقولوا أكثر من يكرس مبدأ الاختلاف يفسد الود معهم, والذي سينتهي على الدوام باتهامك من قبلهم بالأخونة, مستغلين تجريم الحزب وتصنيفه في بعض الدول كإرهابي, ودون أن يكون لك أي ارتباطٍ به أو تأييد, حتى أن البعض تهكم على من اتهموه فقال لهم: أنا مسيحي, فيما تفاخر آخرون بإلحادهم وعلمانيتهم التي لم تنجهم من التهمة التي اخترعها منافقي الليبرالية ومدعيها لإقصاء كل من يخالفهم الرأي, وكأنهم أرادوا أن يكرسوا حقيقة مفادها أن كل من عارض الانقلاب هو إخوان وكل من تحدث بالخير عن أردوغان هو داعية له لأن يكون خليفة للمسلمين, متناسين أن من أفشل الانقلاب في تركيا هو شعبها العظيم الكاره أولا وأخيراً لحكم العسكر الذين عدوهم ربيباً للغرب لا يكترث إلا بمصالحه, ومكانه فقط يجب أن لا يتعدى الثكنات. لذا ثار وخرج للشوارع بمسلميه وعلمانيه, محافظه ومسيحيه وعلويه وبكافة أطياف عرقياته المتعددة. هم من وقفوا أما الدبابات وهم من جردوا الجنود من سلاحهم, وهم من جعلوا من أنفسهم اختيارياً وتطوعاً كدروع بشرية لحماية مقرات الحكومة والشرطة ولمنع الدبابات من التقدم إلا على أجساد العديد منهم التي مزقتها, فقضوا شهداء رفض حكم العسكر مجدداً في تركيا.
في البداية بدا أن الجيش سيطر على الأوضاع وأذاع بيانه الأول, إلا أن حديث الرئيس التركي مع أحد القنوات الخاصة عبر الهاتف ودعوته لشعبه للخروج قد غير معادلة تظافر لنجاحها بقاء قيادة الجيش الأول والشرطة والقوات الخاصة والاستخبارات بالولاء له, وكذلك رئاسة الأركان التي كانت سابقاً الراعي الأول للانقلابات, واستطاع أردوغان توطينها عبر جعلها تابعةً لرئاسة الوزراء, بقيادة أحد الشخصيات التي رغم اعتقالها من الانقلاب إلا أنها أسهمت في كشف خيوط المآمرة وتوحيد كلمة جزء من الجيش وقادته للبقاء مع الشرعية, حتى أن قائد الاستخبارات أمر أتباعه بالقتال حتى آخر واحدٍ منهم, أما الأحزاب الأربعة الرئيسية القومية والعلمانية فقد رفضت الانقلاب منذ اللحظة الأولى ودعت أتباعها للنزول للشارع وعقدت جلسة في البرلمان الذي استهدفته بالقصف مروحيات الانقلابين!
حين حكم العسكر تركيا كانت مدينة بما يعادل 80% من دخلها القومي لنادي باريس وصندوق النقد والبنك الدولي, وعملتها متدهورة ودخل الفرد فيها لا يتعدى 3500 دولار بالسنة والدعم الحكومي للزراعة لا يتجاوز النصف مليار دولا ونسبة الأمية عالية والتعليم والصحة متأخرة والصناعة في أدنى حالاتها, والحقوق المدنية والحريات هي الأسوأ, ولكم أن تعلموا أن الانقلاب سنة 1980 قد تسبب في إعدام المئات واعتقال أكثر من 650 الف معارض.
حين قادت حكومة العدالة عجلة البلاد, ركزت أكثر على الثلاثي الأساسي وهو الاقتصاد والصحة والتعليم, بل إنها خصصت أكبر ميزانية في الدولة لقطاع التعليم والبحث وإنشاء الجامعات والمدارس, فيما اهتمت أيضاً بدعم المزارعين وتوفير السكن والرعاية الصحية المجانية حتى الثامنة عشر من العمر, ليخلفها بعد ذلك التأمين الصحي الإجباري, لتتحول تلك الدولة الهامشية على الاقتصاد العالمي وفي غضون ثلاثة عشر سنة لواحدة من الدول الأقوى اقتصادياً على مستوى العالم والدائنة للعديد من الدول بعد أن دفعت بالكامل جميع القروض وفوائدها المتراكمة, وارتفعت بدخل الفرد لأكثر من عشرة الاف دولار في السنة, فيما قفز الناتج القومي الإجمالي بين عامي 2002- 2008 من 300 مليار دولار إلى 750 مليار دولار، بمعدل نمو بلغ 6.8 %, وسجل في العام 2014  قيمة إجمالية تبلغ 798 مليار و400 مليون دولار, فيما انخفضت البطالة لأقل من 10%, ونسبة تضخم لا تتجاوز السبعة بالمائة تطمح الحكومة لتقليصها إلى 5% بحلول العام 2018.
انتصر الأتراك لرفاههم واقتصادهم وحريتهم ولم ينتفضوا فقط لأردوغان  ولحزب العدالة والتنمية, انتفضوا للحفاظ على مكتسباتهم التي حولتهم لأحد أقوى سبعة عشر اقتصاداً بالعالم, ولجواز سفرهم الذي مكنهم من دخول ثمانين دولةً دون سمة دخول, ولنظافة مدنهم وسياحتهم وصناعتهم وإعلامهم, لحريتهم التي ذاقوا نعيمها ولن يستبدلوها بعد اليوم أبداً بالذل والهوان الذي ينتج عن اعتلاء عسكري لرئاسة الدولة ووزاراتها ومحافظاتها, ويلبس عباءة قضاتها ليكون الخصم والقاضي والجلاد في دولة القمع والبطش الوحشي حيث لا عدالة وإنما فساد وخيانة!
متابعتي للإعلام الغربي أثناء الانقلاب وعقب محاولات إفشاله وفشله بعد ذلك, وتصريحات وزارة الخارجية الأمريكية وبعض الدول الأوروبية وحلف الناتو والمفوضية الأوروبية, أكدت لي أن الانقلاب الفاشل لم يكن كما اُريد له أن يُصور بالانتفاضة وإنما كان مؤامرة كبيرة مكتملة الأركان كان منفذوها فقط من بعض القيادات الخائنة في الجيش, أي أركان الدولة العميقة التي تمتد جذورها إلى جميع المؤسسات والهيئات المدنية والسياسية والعسكرية والقضائية والعدلية, تجاوز ما تم اعتقالهم لحد اللحظة السبعة الاف, فيما القادم من الأيام ينذر بازدياد العدد, في لعبة على المكشوف باتت الآن وكما يراها سياسيو تركيا ضرورة للقضاء على الدولة الموازية وتطهير جميع مؤسساتها من اتباع فتح الله غولن, الذي نسب له المسؤولين الأتراك التخطيط للانقلاب والتآمر مع قوى غربية وعالمية واقليمية لتبديل نظام الحكم الذي لا يتوافق مع أجندتها ويرى في تركيا رغم علمانيتها الصارمة; القوة الإسلامية التي تهدد وجوده ونفوذه وتفرض طرفها في المعادلة كند لا تابع وعميل كما تريد وتشاء.
في التاريخ لنا عبره, من ماضيه البعيد لقريبه, ومنه نعلم أن العسكر لم يحكموا بلداً إلا وأفسدوه وقتلوا الشعب واستعبدوه وقمعوه, فيما دمروا الاقتصاد وأشاعوا الفساد المالي وتسببوا في مديونيةٍ عاليةٍ, واستجابوا صاغرين لمطالب المؤسسات المالية الدولية التي تفرض شروطاً ظالمة لمنح قروضٍ ضئيلة مقارنةً بما تسترجعه, لتغرق البلاد في نسب تضخم عالية جداً وازدياد للفقر وتقليص للدعم الحكومي وخصخصة للشركات الوطنية بأبخس ثمن لصالح الشركات متعددة الجنسيات الدولية, التي تتواجد عقب كل انقلاب لحصد الأرباح, كما جرى القرن الماضي في تشيلي والبرازيل والسلفادور والأرجنتين والعديد من دول القارة السمراء والآسيوية بما فيها العربية منها.
إصلاح الجيش وتطهير مؤسساته من التبعية للغرب ومن عقيدة المصلحة والسطوة مطلب لقيام دولة مدنية حديثة ديموقراطية, تلعب قوى الأمن فيها دور الراعي للديموقراطية وللحريات الفردية, وهذا من حق الحكومة التركية المصدومة من ضخامة ما تسميه بالخيانة المتمثلة بتمدد الدولة العميقة في البلاد لكنه يجب أن يكون ووفق نظام عدلي غير مسيس ونزيه ولا يتبع للحكومة التركية وغير انتقامي ومتسرع, وإنما يجري وفق الدليل وبدون التعذيب وانتهاك الحريات ومع الشفافية واطلاع الصحافة ومؤسسات المجتمع المدني على مجريات التحقيق, مع الحفاظ على مفهوم دولة القانون وحقوق المعتقلين وتمثيلهم.
لا بد أن تدرك الحكومة التركية أيضاً أن جيشها ورغم تورط عناصر منه في العملية الانقلابية هو جيشها الوطني ولا بد من الحفاظ على كرامته دون امتهان حتى مع المخطئين منه مع عقابهم بمحاكمات حره ونزيه; حتى لا يحدث جرح يصعب التئامه وحاله من الحقد العسكري الفردي على القيادة السياسية والشعب ككل, مما قد يتسبب في حراك انتقامي يدعو للانقلاب مستقبلاً, إن نجح سيرتكب مجازر بحق شعبه ويعود ببلاده لعصور الظلمة والديكتاتورية.
لعب جهاز الشرطة التركي وقوات مكافحة الشغب وعناصر المخابرات حصان طروادة في التصدي للجيش إلى جانب الشعب, وقام باعتقال عناصر الجيش المتمردة وقياداتها في حادثة ربما هي الأغرب في تاريخ الصراعات, حيث شكلت قوات الأمن كياناً موازياً للجيش الوطني المعروف بكونه الأقوى والأكثر عتاداً وتسليحاً, لكن حكومة العدالة والتنمية قد نجحت وطوال عقد من حكمها في توزيع مراكز القوى مما أفقد تفرد الجيش في الساحة الداخلية وجعل من سيطرته المطلقة عليها في أي محاولة انقلابية محفوفة بمقاومة من قوى أمنية أخرى ولاؤها المطلق للحكومة وليس للقيادات العسكرية, هذا رغم ايقاف المئات من قوات الأمن لمشاركتها او لتغاضيها عن الانقلاب ورفضها لأوامر وزارة الداخلية بالتصدي له; إلا أن العدد لا يُقارن بحجم المعتقلين من السلك العسكري والقضائي, الذي تغلغلت فيه جماعة فتح الله غولن مشكلة حكومة الظل الطامحة للإطاحة بحزب العدالة والتنمية والتي كانت تنوي حسب التصريحات الرسمية في تركيا اعتقال وتصفية عشرات الالاف من منسوبي الحزب في خطوة منها لاجتثاثه بالكامل من المشهد السياسي التركي حال تمكنها من الحكم.
يبقى أن نشير إلى أن الشعب التركي بمختلف أطيافه هومن أفشل الانقلاب ومعهم الأحزاب السياسية المعارضة والمؤيدة التي اتخذت قرارها التاريخي بعدم التضحية بالديموقراطية في سبيل الانتقام من الحزب الحاكم, واستطاعوا جميعهم وبأساليب غير تقليدية القضاء على انقلاب محكم ومُعد له بتآمر ربما تكشف الأيام القادمة أن وراءه نفس قوى الظلام التي ترعى سفاراتها في الدول عادة الاضطرابات والانقلابات على الحكومات الشعبية المدنية المنتخبة ديموقراطياً.
نفس الشعب هو من سيُستفتى بشكل نظام الحكم في تركيا وهل يؤيد بقاءه برلمانياً أو رئاسياً, وهل سيتقبل شكلاً من الدولة الدينية أو يبقى علمانياً, وهو الشعب ذاته بكافة أطيافه من سيطيح بحكم رجب طيب أردوغان وحزبه إن وجد منه حياداً على المبادئ, ولن يغفر له سنوات إنجازه إن حاد عن إرادة الأمة التي باتت وعلى الأقل حتى الآن هي من تحدد مجرى الأحداث في تركيا.



صحيفة العرب اليوم الالكترونية - http://www.3orooba.com/?p=2520

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...