الأربعاء، 27 يناير 2016

مطاوعة الواتس

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 27-01-2016

 
 
مقطع مؤثر جداً وعليك الاستماع إليه وحيداً، ولا مانع أن تطفئ جميع الأنوار وتقفل باب الغرفة عليك، أو تذهب إلى صحراء الربع الخالي، أو أقرب مكان مهجور وموحش، ويفضل أن يكون خرابة أو أطلالا لمنازل من طين تسكنها الجن والشياطين والبعبع والغول "وأبو رجل مسلوخة"!
 
باختصار السطر الأول هو ما وصلني عبر "واتسابايه"، والباقي من خيالي وأنا أتقمص شخصية المخرج "هيتشكوك" ملك أفلام الرعب، محاولاً أن أضفي مؤثرات تخيلية لما حاول مرسل الرسالة عبر برنامج "الواتس أب" أن يمارسه بالدعوة الدينية، عله كما اعتقد ينال الأجر والثواب من ورائها، لكنه وأشك في الأساس أنه قد استمع إليها؛ قد أرسلها كالعادة دون أن يعلم أن فيلم الرعب الذي مهد له قد تم مسحه دون الاستماع إليه، مع حظر مرسله حتى لا يمارس علينا كآبته التي يظنها من أصول الدعوة، والدين براء منها ومن ممارستها بهذه الطريقة الوحشية، التي تبث رسائل الخوف والرعب في النفس، بدلا من أن تمنح الترغيب المطلوب، الذي لا ينفي أبداً الترهيب، ولكن بإطاره الصحيح، وعلى لسان من يمتلك ملكة الدعوة الدينية دون مغالاة، وإنما يوازن بين الترغيب والترهيب.
 
مقاطع فيديو يصلك منها العشرات يومياً، العامل المشترك فيها تلك الخلفية الدرامية، والمؤثرات الصوتية البشرية البغيضة المحبطة التي تم دمجها من صنع المشاهد، وأغلبها تحمل النغمة "ها ها ها ها" أو "هم هم هم هم"، بصوتٍ موغل في الكآبة والحزن، أفضل ما يمكن تشبيهه باللطم ولكن بطريقةٍ شرعية، يظن من ابتدعها أنه بما فعل لا يرتكب إثم وضع الموسيقى في المقطع!
 
لانزال نعيش في ظل سيطرة كهنوت موغلٍ في التشدد الديني، قائم على زرع الخوف الشديد في النفس البشرية المحبة للحياة، ظاناً منه أن أفضل طريقة لهداية البشر هي عبر إرعابهم، بل زرع القناعة في أنفسهم بأنهم سيكونون من أهل النار المعذبين، إن لم ينصتوا لهم، ويتبعوا دون نقاش ما يرونه ممارسةً دينية، هي في العديد منها تتعدى الاجتهاد الشخصي والزهد والتدين؛ ليصبح غلوا وتطرفا وابتداعا لما ليس في الدين، هو الضلال بعينه وليس الحق، فسمو الهدف لا يعني دناءة الوسيلة وتطرفها، وإلا ساد الظلم والقمع والخرافات، ظناً من مرتكبيها أن حسن النية وشرف المقصد وسموه، تبرر الوسيلة أياً كانت!
 
وكأننا إن أقررنا بذلك نعيد سيرة ميكافلي ونعمل بها ونقتدي.. لا، فالغاية لا تشفع لسوء الوسيلة، ولا نحن بحاجة لروبين هود الذي كان يسرق من الأغنياء ليعطي الفقراء، لأننا لو سمحنا بذلك لسادت شريعة الغاب.
 
الدعوة فن وأسلوب ومقدرة ودراية وعلم وعمل، هي أمر مطلوب بيننا كمسلمين، ونحتاج فيه لمن يذكرنا إن نسينا وتغافلنا، فيرشدنا بود ومحبة وحسنى دون أن يفرض علينا رأيه، بل ينصح ويترك الهداية للهادي سبحانه، فكل ما عليه عمله هو التبليغ دون فرض ذلك بالقوة، ودون التشكيك في النوايا والبحث في الخفايا، فقد نُهينا عن ذلك، وطُلب منا إحسان الظن وعدم التدخل في سرائر الآخرين.
 
مرة أخرى ومع الواتساب ومن قبله كان البريد الإلكتروني؛ تجددت ظاهرة محبي الصلاح ودُعاة "انشر تؤجر"، وأستحلفك بالله أن تنشرها، ليمطرونا في كل دقيقةٍ وساعة برسائل وعظية طويلة، وأدعية كُتب عنها أنها مخصصة لأمر بعينه، وأحاديث يتم تداولها دون التأكد من صحتها، وقصص مخيفة لعصاة "كما يصفونهم"، وذكر ما تعرضوا له، وجميعها تصب في دائرة واحدة بدايتها لا تختلف عن نهايتها في المقصد، وهو الرسائل ذات الصبغة الدينية، التي يتم تناقلها بحسن نية وطمعاً في الأجر لناقل الخير وأحياناً بسذاجة، وأخرى خوفاً من الوقوع في الإثم إن تم تجاهلها، فيتم إعادة نشرها من باب السلامة، ودون توثق من صحتها ومدى فائدة نشرها!
مثل هذه الرسائل تصلك على مدار العام، ولكن شأنها كأسعار تذاكر الطيران خلال الإجازات، تمر بمواسم ينشط ناشرها "ذكرا كان أو أنثى" في تداولها، كأيام الجمع ورمضان والموالد والمواسم الدينية، أغلبها مكررة وطويلة وتفتقد ما يجذب القارئ لها بسبب ضحالة أسلوبها ونهجها، وافتقارها للتوثيق المطلوب، الذي يجنبنا أن نبتدع في الدين ما ليس فيه، وفي بعضها تكفير وتضليل وتفسيق وزندقة لكل مخالف في الرأي، بأمر مختلف فيه أو محل إجماع، وكأنهم قد منحوا لأنفسهم مكانةً هي فقط للحكم العدل سبحانه وتعالى، ستسمع في بعضها وتقرأ من يخرج أشخاصاً من الملة، وآخرين قد حكموا على المخالفين (أي العصاة) بأنهم لن يدخلوا الجنة ولن يشموا ريحها!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=342745

الأحد، 24 يناير 2016

"كفار" زمننا هذا!

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 19-01-2016

 
 
الكفر والشرك بالله مصطلح نؤمن به كمسلمين موحدين لمن لم يؤمن بالشهادة المرتبطة بوحدانية الله، والاعتقاد بكون المصطفى عبده ورسوله، يعني ذلك أن أي معتقد لا يقوم على الشهادة وفق الإسلام فهو باطل ولن يقبل من أصحابه، هذا هو تعريف الكفر والشرك على المستوى الديني، لكن إنسانياً وبعيدا عن وضع أنفسنا محل الخالق جلّ في علاه، فمعتنقو الديانات والملل الأخرى المختلفة عنا هم بشر مثلنا، طلب منا أن نتعامل معهم بالحسنى، وألا نسب آلهتهم، وبأن نتعايش معهم جيرانا كانوا أو مواطنين في دولهم وفق الضوابط الشرعية، بعيداً عن التشدد الذي خرج به البعض، ومنهم من أفتى مثلاً بحرمة السياحة أو زيارة بلدانهم لغير الضرورة.
 
قبل فترة بسيطة، انتشر عبر "يوتيوب" ما يسمى "أنشودة" أطلقها أحدهم، وصورها هو وأبناؤه في أحد بلاد "الكفار"، ودعا فيها سيادته للصبر والقبول بأجواء الصحراء المغبرة الحارة، والرضى بها بدلاً من زيارة دولٍ كافرة فيها كل ما يسر العين من الماء والخضرة والنظام الحسن، ونسي ذاك المنشد أنها أيضاً بلدٌ من جملة بلدان أخرى لا تنتمي لنا ديناً وعرقاً، لكنها مسلمة أكثر منا بأنظمتها وعدالتها وإنسانيتها، وفيها من تعاليم شرعنا الحنيف ما لا نطبقه، رغم أنها أنظمة مدنية وعلمانية، إلا أنها استقت السماحة والاعتدال من الإسلام، الذي بتنا ننتمي له كمسلمين بالاسم فقط.
 
في تقارير منظمة الشفافية العالمية، ستجد عزيزي القارئ أننا في ذيل القائمة من حيث النزاهة، وذلك يعني أننا أمم وشعوب تعيش في دولها المسلمة والعربية التي يستشري فيها الفساد والرشوة والسرقات والبيروقراطية، في غيابٍ للعدالة والمحاسبة والقضاء المستقل النزيه، ومؤسسات المجتمع المدني طليقة اليد، التي تدقق في كل شاردة وواردة لتضمن أن المال العام والمشاريع الحكومية والإدارات والوزارات والمؤسسات الخدمية تؤدي عملها، وفق ما هو مطلوبٌ منها ومفترض، ودون تقصيرٍ ناتجٍ عن فسادٍ شخصي يصب في منفعةٍ لفرد بما لا يستحقه، في نفس التقرير، ستجد من نسميهم بالكفار نعتاً، ومن الغرب على وجه التحديد، هم فقط على رأس القائمة من حيث الشفافية، أي الأمانة والمصداقية والوضوح والإخلاص، والحرص على مال الدولة وعدالتها، دون تفريق وعنصرية ومحاززة ومحاباة، إنما العمل بشرف وخلق دون تكاسل وإسراف، وبأمنٍ وأمانٍ نفتقده في دولنا، لدرجة أن مسؤوليهم ليس لهم مواكب حماية، ولا حراسات خاصة، وإنما شأنهم كبقية أفراد شعبهم من حيث المظهر والمعيشة، لا فرق بينهم سواء كانوا وزراء وأصحاب سعادةٍ ومعالي، أو موظف بريد بسيطٍ مهمته توزيع الرسائل على المنازل، وفي مشهدٍ أعادوا فيه سيرة الفاروق عمر حين عدل فأمن فنام تحت ظل شجرة، وفي ثوبه عدد من الرقع، ومن دون أي حراسة، يده اليسرى تحت رأسه وسادة، ويده اليمنى على عينه تحميه من حرارة الشمس.
 
كم من عمرٍ بتنا نرى وبكثرة في الدول اللادينية الشفافة، وكم من ثريٍ بينهم تصرف كعثمان بن عفان حين جهز جيش العسرة كاملاً من حر ماله؛ وتبرع بملياراته للأعمال الخيرية، ولم يبق له إلا ما يكفيه في حياته.
 
كم من المشاهير خلع ثوب الترف والنعمة، وارتحل لمناطق النزاعات واللاجئين والحروب كالممثلة الأميركية أنجلينا جولي، وتعاطف معهم وآزرهم وأطلق حملاتٍ عالمية لمساندتهم والتعريف بقضيتهم.
 
هم جميعا من فئةٍ واحدةٍ، ما يميزها عنا أنهم ليسوا مثلنا كمعتنقين للإسلام، لكنهم بتصرفاتهم يمثلون روحه وسموه الغائب عنا، هذا هو ما يجعل دولهم قبلة للمهاجرين منا، الهاربين من جحيم دولنا لعدالة أنظمتهم، وحقوقيتهم وإنسانيتهم التي كرست حق الأرض والصحة والتعليم والعبادة لكلٍ حسب اعتقاده، والقول وفق ما يدور في خاطره وهواه، ودون أن يخشى من رجال للأمن ينصتون لصوت أنفاسه وزفيره، وكل ما ينطق به لسانه ليقودوه بعدها لغياهب الجب، التي من يدخلها مفقود، ومن يخرج منها مولود!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=341915

السبت، 16 يناير 2016

«عطوان».. لا تقحمنا في آرائك المغلوطة

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في صحيفة مكة المكرمة 14-01-2016

 

 

 نعاني كـفلسطينيين من مواقف سياسيينا الذين غالبا ما تسببوا لنا بأذى على الأقل على المستوى النفسي والاجتماعي، لكن الضرر الأكبر بات يتسبب به أفراد على ضآلتهم، إلا أنهم سهام مسمومة توغل في الجراح، وتسبب آلاما يصعب الشفاء منها ونسيانها.
أحد الذين أتحدث عنهم هنا هو «عبدالباري عطوان» الذي امتهن النقد للسعودية في كل شأن، فهو الذي اشتهر بسبب أزمة الخليج الأولى، حين وقف مع العراق في احتلال الكويت، وما زال يثير اللغط في كل موقف يتحدث فيه عن شأن سعودي وخليجي. كمية النقد الهدام المنطلقة من عباراته لا تعبر عن قسوة مطلقها وإنما تثير الاشمئزاز من طريقة تفكير هذا القومي الذي بنى علاقاته مع أنظمة عربية ديكتاتورية كانت الداعم لصحيفته عبر إعلانات مدفوعة الثمن. موقفه من الربيع العربي والثورات في ليبيا واليمن وسوريا هو ما كشفه للعامة، وأزال الغمامة عمن كان يرى فيه متحدثا بلسان الشعوب الناقمة على الظلم والاضطهاد.
حين ثار الليبيون على القذافي، أزبد «عطوان» وخون ووقف ضدهم واستنكر التدخل الفرنسي الذي استدرك بنغازي قبل سقوطها على يد مرتزقة العقيد، ووقف موقفا شائنا مؤيدا له، وتناسى أن القذافي حين غضب من السلطة يوما ما أوعز لأجهزته القمعية أن ترحل فورا الفلسطينيين المقيمين ونقلتهم بباصات ورمتهم على الحدود الليبية في الصحراء بعد أن منحوا كلا منهم عشرين دينارا ليبيا «وكروز سجاير»!
في اليمن، ما فتئ يروج للحوثيين وصالح ويعادي «الحزم» السعودي، ويثني على من يسميهم المقاومة الوطنية، الذين هم على أرض الواقع انقلابيون عملاء لإيران وجواسيس على دول الجوار العربي.
في لبنان، يمجد «عبدالباري» حزب الله وحسن نصر الله ودعاة من يسمون أنفسهم بالمقاومة مع أنهم وتحت مرآه قد نقلوا عتادهم وجنودهم وصوبوا أسلحتهم صوب الشعب السوري، الذي طالما آواهم ووقف إلى جانبهم في حربهم الأهلية وما تلاها من مغامرات حزب الله الاستعراضية، التي ثبت لنا الآن أنها وإن كانت حقيقة وقتها نالت بسببها تأييدنا؛ إلا أنها تبخرت بعد أن اتضح أن الغاية لم تكن محاربة الصهاينة كما يدعي الحزب بمقدار تحقيق كيان شيعي عسكري في لبنان والمنطقة ويشكل ذراعا لإيران تمارس فيه ومن خلاله مطامعها الدنيئة في المنطقة العربية.
في سوريا، التي ‏تسبب النظام فيها بمقتل300 ألف سني، وتهجير705ملايين سني آخر لم نر أو نسمع له تلك المواقف الواضحة المستنكرة التي يفترض أن تصدر عن كل عربي ومسلم بل إنسان حر وأبي لا يقبل الضيم ولا الظلم.
شجاعة «عطوان» تظهر فقط حين يكون الحديث عن المملكة، بمواقف عدائية من الجلي أن تستنبط منها كرهه الشخصي الذي انعكس على مواقفه التي بات الأحدث منها وقوفه مع إيران في الأزمة الأخيرة مع المملكة حين قطعت الرياض علاقاتها الدبلوماسية مع طهران، بعد استهداف رعاع من مواطنيها للسفارة السعودية بطهران بحماية الأمن وتخطيط منه. تلك التصرفات لم تكن عشوائية غاضبة لتنفيذ حد الله بالمواطن السعودي المدان نمر النمر، إنما تكرار لسلوك تعود عليه الجناح الغوغائي بجمهورية المعممين الذي من سوابقه احتلاله للسفارة الأمريكية واحتجاز 52 رهينة 444 يوما عقب ما سمي بالثورة الإسلامية.
في عام 1987 - و»عبدالباري» يدرك ذلك - حدث هجوم على السفارتين السعودية والكويتية بالعاصمة الإيرانية، وتكرر المشهد في عام 2011 حين استهدفت السفارة البريطانية وتم العبث بمحتوياتها، إذن هو تاريخ حافل بانتهاك القانون الدولي، وطبع وممارسة ممنهجة، لا هبة شعبية معترضة على موقف ما أو حدث!
منطق غريب من السهل تفنيده لذوي الألباب والعقول، ولا أعتقد أني بحاجة لقول المزيد بشأنه، لكن ما أراه الآن أولوية لي هو الطلب من «عطوان» الابتعاد عن إقحامنا كفلسطينيين في آرائه المغلوطة، والتوقف عن إفساد الود بيننا وأهلنا في السعودية، فرأيه لا يمثلنا بل يغضبنا ونحن ضده، ومع المملكة قيادة وشعبا في مواقفها، وفيما يصيبها وعلى أتم الاستعداد للتضحية في سبيلها طالما ارتضيناها وطنا نقيم فيه، ولها منا كل الشكر على ما قدمته وما زالت في سبيل احتوائنا ورعايتنا ودعم قضيتنا الفلسطينية، التي لا تحتمل التجاذبات السياسية، وإنما اللحمة وعدم التدخل في شؤونهم تحت أي ظرف.
 
 

المصدر - صحيفة مكة المكرمة http://www.makkahnewspaper.com/makkahNews/writing22/162065

دُعاة لا غُلاة.. وأحرار لا متحررون!

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 13-01-2016

 
 
في بعض مساجدنا يدعى على الكفار والمشركين في كل خطبة لصلاة الجمعة دون كللٍ أو مللٍ وبنفس الوتيرة، قد أفهم السبب وأستوعبه إن كانوا أعداء لنا موغلين في جراحنا، ومتآمرين علينا في السر والعلن، معلنين موقفهم بل فخورون فيه؛ لكن ما لن أستوعبه أو أتقبله هو الدعاء بهلاك المسلمين منا، ولكن من يتم وصمهم بالليبراليين والعلمانيين، الذين يتم على الدوام مقاربتهم لصورة الشيطان الأكبر، الذي يشكل أكبر خطرٍ على الأمة العربية والإسلامية، ويتربص بها السوء لإيقاعها في الكفر والرذيلة!
 
السؤال: هل كل ليبرالي أو علماني أو مدني وداعية للحرية ضال يسعى للفساد؟، أم هو إنسان مسلم ملتزم بعقيدته، ولكن يطالب في نفس الوقت برفض الكهنوت والتقديس الأعمى، ويسعى لتجنب ثقافة "الأكليروس" الكاثوليكية، في الخلط بين السياسة والدين وتجيير الأولى ولو بالباطل خدمةً للأخيرة؟
 
الواقع يقول إن في كل فئةٍ من هو متطرف في فكره، ومسرف في مطالباته ومفرط، وهذا الحال ينطبق على الليبراليين، فمنهم من يسعى لاستجلاب التجربة الغربية بالكامل، والاهتداء بها والعمل في مجتمعاتنا، لكن منهم- وإن كنت أرى الأغلبية هم المطالبون بالعدالة والحرية والمساواة والانفتاح العقلي، وعدم الانقياد للتيار الديني والسياسي، وانصهارهما في بعض الأحيان دون بصيرة وتفكير- من انقلب على عقود من التغييب والتخويف والترهيب المبالغ فيه، وهم من بات يرفض أن يقال له إن لحوم العلماء مسمومة، لمجرد نقد موقفٍ لهم، أو رفضه بأمرٍ جدلي لم تتفق عليه الآراء بين معارض وموافق، أو محرمٍ ومحلل؛ فتُرك الأمر حينها للمسلم لأن يأخذ بالرخصة الفقهية؛ بأن يستفتي قلبه ويعمل بما يرتاح له.
 
الخلط بين اللادينية والمدنية الصرفة المتحررة من القيود الدينية والعرف الإنساني والتقاليد المجتمعية، والليبرالية المعتدلة الوسطية المتطابقة شكلاً ومضموناً مع مجتمع بعينه، التي انتهجت التفكير ورفضت الحجر على العقول، هو أساس سوء الفهم الدارج لدى فئة الغاضبين على منابر المساجد من الخطباء والدعاة، الذين يتصورون أن كل ليبرالي شارب للخمر، محلل للزنا والاختلاط المحرم، داعية للفجور والانحلال الأخلاقي، بينما هو في واقع الأمر لا يعدو أن يكون داعيةً حقوقيا أخذ على عاتقه أن يطالب، وعلى سبيل المثال، بحقوق المرأة داعياً لتعليمها وعملها، أو يرفض من الأساس نهجاً يرى فيه أن يكون التدين هو المعيار للمنصب، ويطالب بأن تكون فئة المحافظين قابلة للنقد والمقاضاة، ورافضا لأن يكون لها حصانة تمنع عنها المحاكمة والعقاب، كما يرى أن خصوصيات الناس مصانة دون تربص بهم وتعقب، وأن الدين النصيحة، لكن دون فرضها بالقوة، واستغلال قوة القانون لفرض وجهة النظر بالمطلق، وعدم تقبل درجة اختلاف البشر وتدينهم، وإجبارهم على اتباع فكرٍ بعينه وإلا تتم معاقبتهم.
 
استوقفني قبل أيام تعريف أحدهم لليبراليين، وقال فيه نصاً:
 
"الليبراليون وضوءهم الخمر، ومحرابهم المرأة، وقبلتهم البيت الأبيض، وصلاتهم تسبيح بحمد الغرب، وتسليمهم شتم للإسلام، ونوافلهم سب الصالحين".
 
هذا التعريف أثار في نفسي ذعراً من الحالة التي أمسى فيها الخلاف سيد الموقف بين فئتي المحافظين والديمقراطيين في العالم العربي، "وفق العرف السياسي الحزبي الأميركي"، اللتين يفترض بهما أن يكون لهما التأثير الأكبر في القيادة والريادة، لكنهما بدلاً من ذلك تفرغتا لحرب لا رابح فيها، يتملك طرفيها الرغبة الملحة، ليس فقط بالانتصار بالمعركة، وإنما مسح الآخر من على وجه الأرض، بعد شيطنته وتكفيره، أو دعشنته وتطرفه.
 
في منابر الحوار الثقافي النخبوي والتجمعات الأدبية والأمسيات الفكرية الأغلبية فيها من التيار الواحد، وكأن المجتمعين يتحدثون لتأييد بعضهم بعضا في نقدهم المطلق لأصحاب التيار الآخر، الذي لو حضر نفر منه الاجتماع لتعرض لعاصفة غاضبة لا تبقي له ولا تذر، هذا إن لم يُطرد ويضرب وتنتهك كرامته!
 
لم يخالجني أدنى شك برفض اقتراح طرحه علي عقلي عقب أدائي صلاة الجمعة، للتحدث مع أحد الأئمة، طالباً منه بأن يدعو على الأقل للأخوة المسلمين من الليبراليين والعلمانيين بالهداية والصلاح، بدلا من الدعاء عليهم بأن تنشق الأرض وتبتلعهم، نأيي عن إسداء النصيحة نابع من إدراكي أنني لن أخرج منها بنتيجة إيجابية، بل قد اتهم بالضلال وبأني من أتباعهم، مع أن رغبتي الوحيدة من ورائها نشر فكر الاعتدال، والتحبيب والترغيب والتقريب، لا التفريق وزرع العداوة والفرقة.
 
يسعدني في زمننا هذا، ومع مجتمعي المتنطع والمتشدد، أن لا آخذ بزمام المبادرة وجها لوجه مع أي من الفئتين المتناحرتين، وسأكتفي بما أطرحه وأكتبه فقط في الورق، علّي أجد قارئا منصفاً شجاعاً مقداماً، ينقل ما كتبته لأحدهم فيقتنع به، ويترك عنه القناعات المسبقة، ويحكم عقله في الاختلاف، ولا يعمم الكره في حالة الخلاف.
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=340954

رهاب الكلمات

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 06-01-2016

 
 
قطعت علي طفلة صمتي بسؤالها لي عن الفرق بين الأغاني والأناشيد، للحظة خاطبتها وفق تصوري الذي لا أرى فيه فرقا بينهما، ففي كلاهما متعةٌ للسامع تصاحبها نشوة تنقله لأجواء الكلمة التي تحتويها.
 
لم تعجبها إجابتي التي في الأغلب لم تفهمها، فاستطردت دون أن تلتفت إلي ولا لتفسيراتي، لتلقي علي ما تم تلقينها أياه بأن الأغاني حرام والأناشيد حلال، لكون الأولى تحتوي على الموسيقى والكلمات المحرمة، أما الثانية فهي شرعية.
 
للحظة كنت على شفير الثورة، ليس لأنني أحلل الأغاني أو أحرمها، فهذا أمرٌ متروك شأنه لذوي الاختصاص الشرعي، ولكن لأن تفسيرها أثار في نفسي نقمة تجاه التحريم اللفظي للكلمات بناءً على مسماها لا ما تعنيه ويرد فيها.
 
ما الفرق فعليا بين الأغاني أو ما يسمى بالأناشيد، وهل سبب حرمتها حسب رأي العلماء هو في كينونتها كغناء أو بسبب ما يصاحبها من منكرات شرعية، وهل هناك قول جازم بحرمة الموسيقى من جمهور العلماء، أم أن بعضهم لا يرى فيها حرمة، ويقتصره على ما قد يثير الشهوات والمنكر من ألفاظ ومناظر وتصرفات وأفعال ترد فيها!
 
يقودنا هذا التساؤل للبحث: هل السبب في التحريم هو المعنى الظاهري والمسمى، أو لما يمثله من عمل، وهل يجب علينا أن نصبغ على بعض الكلمات طابعاً شرعياً فيما الأخرى المماثلة لها بالمعنى تُخصص للاستدلال على التحريم.
 
مثال آخر استرعى انتباهي، وهو نبات دوار الشمس الذي يسميه البعض عباد الشمس، هل إن نطقناه بالأخيرة نكون قد ارتكبنا إثماً شرعياً، كوننا وصفناه بالنبات الذي يعبد الشمس، أم أن المعنى هنا مجازيٌ كون هذه النبتة عُرف عنها ميلانها الدائم تجاه الشمس، ولذلك أطلق عليها الإنسان هذا الاسم، وفق ما وجد منها من طبيعةٍ في شكلها ونموها؟
 
ثقافة الترهيب اللغوي وما يتبعه من تحريم أراها بدعة متجذرة في مجتمعاتنا، التي باتت أحياناً وبقيادة البعض تحرم وتحلل بناء على المسمى لا الوصف والشكل والمضمون.
 
لماذا تحولنا لمتشددين يدققون في كل كلمة وجملة، ولم تمرست العامة في سؤال المشايخ ورجال الدين لأمور تافهة وبعضها سخيف، كسؤال أحدهم هل يجوز لبس الطاقية (الكاب)!
 
لم بتنا نركز في ما يقال بعيدا عن المحتوى والمعنى المقصود، ولم سوء الظن بالآخر هو السائد بدل إحسانه.
 
حقيقةً ما أضاع أمما وشعوبا من قبل هو لهاثها المفرط خلف التفاصيل الدقيقة، وتركها للأساسيات، وأخذها الآخرين بالخطأ توقعا لهم بدلا من الصواب؛ هو ما سيطولنا إن استمررنا في سطحية تفكيرنا وسوء الظن المعشش بأدمغتنا، التي لا تعرف الانفتاح لنفسها، ولا هي مستعدة للسماح به للآخرين.
 
حتى في حواراتنا اليومية، كثيرا ما نسمع جملة "حرام عليك"، لأمورٍ لا علاقة للحرام والحلال بها أو الشرع، إنما هي عبارة تأصلت في اللاوعي لدينا، حتى أصبحنا نستخدمها في كل ما نختلف فيه، وأحياناً نقولها على سبيل الاستفسار أو الاستهزاء!
 
سمعت أكثر من مرة من أصدقاء ومعارف مواقف حدثت معهم مع غربيين استهجنوا منهم الترديد "إن شاء الله" أمامهم، باستمرار في كل إجابة، لدرجة أنهم طلبوا أكثر من مرة من محدثيهم ألا يقولوا لهم هذه الجملة، بل أن يعطوهم وعداً صادقاً للإيفاء بما يطلب منهم!
 
بالطبع كمسلمين قناعتنا ويقيننا دوما متعلقٌ بمشيئة الله سبحانه وتعالى، الذي نتوكل عليه في جميع أمورنا، وكلنا إيمان بأن لا مشيئة إلا لما كتبه وقدره سبحانه، إلا أن استخدامنا الروتيني للعبارة من باب التملص من الإجابة، والتهرب من الوفاء بالوعد والمناورة، هو الخطأ الذي اعتدنا عليه. أحيانا نكون متأكدين من قرارنا أو موقفنا
تجاه شأنٍ بعينه مخالفٍ في مضمونه لما يتوقعه السائل، لكننا بدلا من مصارحته وقول الحق أياً كانت نتيجته، نتهرب ونكذب ونعطي وعودا نعلم علم اليقين أننا لن نفي بها!
 
حين تتحول أي أمة مؤمنة صوب التدقيق المبالغ فيه، والمغالي في المعاني والكلمات، فتأكدوا أنها ستتجه نحو الغلو بدل الوسطية والاعتدال، وهذا بالفعل ما أمسينا عليه، وأصبح للأسف حالنا!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=339948

الأحد، 3 يناير 2016

تدخل الملالي بالشأن السعودي مستفز ولا بد من فضحه

بقلم عماد أحمد العالم

مشاركة بتقرير بصحيفة سبق الإلكترونية 03-01-2016

 
 
اعتبر الكاتب والمهتم في الشؤون الإيرانية عماد أحمد العالم، أن الإرهاب والتشدد الفكري والديني والتطرف لم يكن يوماً حكراً على مذهبٍ بعينه أو فئة من البشر إنما هو منهج موجود، وله أتباعه المخلصون له من الفئة الضالة الذين نفذوا أعمالاً إجرامية استهدفت الإنسانية وقتل الأبرياء، سواءً كانوا مسلمين أو آمنين ومعاهدين من دياناتٍ أخرى أقامت وتواجدت بالمملكة، وتعرضت لأعمال إرهابية لا يقرها دين أو شرع أو عرف، مشيراً إلى أن التدخل الإيراني في الشأن الداخلي السعودي مستفز جداً، ولا يجب السكوت عليه، بل فضحه.
وقال "العالم" لـ"سبق" عن تفسيره للقصاص من ٤٧ إرهابياً متعددي المذاهب: "أولاً استنفدت هذه الأحكام مراحل التقاضي الثلاثة بالمملكة، وتوصلت إلى العقوبة الشرعية بحقهم، والمصدقة من هيئة كبار العلماء، والتي ارتأت في قرارها القضاء بقتلهم لما قاموا به من أعمال تنوعت بين استهداف المواطنين والمدنيين الآمنين والمقيمين ورجال الأمن والمنشآت العامة والخاصة والتحريض".
وأضاف: "ولم تفرّق هذه الأحكام بين إرهابٍ قام به منتمون للمذهب السني الذي يشكل أغلبية السكان في البلاد ولا محرضٍ للقتل والعصيان من الطائفة الشيعية وداعٍ للانقلاب على الحكم والتبعية لدولة إيران كالمدعو نمر النمر، والذي تم تنفيذ القصاص بحقه، والذي نُسب إليه تأسيس خلية العوامية الإرهابية، التي كان من أعمالها مهاجمتها لمراكز شرطة، وقتلها لرجال الأمن، كما دعواته المتكررة للعصيان والتبعية لإيران عبر مطالبته بقيام نظام ولاية الفقيه في السعودية، وامتداد الدولة الفارسية لحدود مكة المكرمة".
وزاد: "مع العلم أن قوى الأمن قد تمكّنت من متابعته سابقاً، وضبطت اتصالاته ومؤامرته مع النظام الإيراني لخيانة موطنه، هذا ما كان في السر، أما في العلن فمقاطع الفيديو المنتشرة في الإنترنت لخطبه خير دليلٍ وإثبات على كل ما نُسب إليه ولا تقبل اللبس أو حتى الشك، وبإمكان من أراد التوثق متابعتها والاستماع إليها ليتأكد من أن دعواته كانت جليةً وواضحة للإساءة للدين وللدولة ورموزها والدعوة للانقلاب على الحكم والتبعية لإيران التي ما فتئت تبحث عن ضعاف النفوس للتغرير بهم وتجنيدهم لخدمة أهدافها ومساعيها في زرع القلاقل بالمملكة والخليج والدول العربية".
واستطرد: "ما أعلنته وزارة خارجيتها في تصريح لا يقل إرهاباً عن العصابات، تهديدها للمملكة بدفع ثمنٍ غالٍ لإعدام المذكور، متهمة إياها باستخدام لغة القمع ضد معارضيها الداخليين ومتناسيةً أنها من أكثر الدول في العالم، ووفق الإحصاءات الدولية التي نفّذت أحكاماً بالإعدام بحق المعارضة والأقليات السنية ومواطني دولة الأحواز المحتلة، دونما إتاحة أي حقوقٍ قانونية لهم في الدفاع عن أنفسهم، ودون أن تمرّ هذه الأحكام بمراحل التقاضي؛ لتضمن للأبرياء ممن طالتهم يد الإجرام القضائي الإيراني الدفاع عن أنفسهم".
وأكد: "التدخل الإيراني في الشأن الداخلي السعودي مستفز جداً، ولا يجب السكوت عليه، بل فضحه وهو الذي دأب على الدوام على استغلال أقلية محدودة من المغُرر بهم من الطائفة الشيعية في دول الخليج العربي؛ لتنفيذ أجنداته التي هي في الحقيقة لا تولي بالاً لهم بمقدار رغبتها في تحقيق الطموحات التوسعية الفارسية في المنطقة، ومن ثم تتخلى عنهم، وأرسلت القيادة السعودية رسالة واضحة اليوم للعالم أجمع أن اتهاماته السابقة للمملكة في التسبب بوجود بعض هذه التنظيمات المتطرفة ما هو إلا افتراء بدليل أن أكبر متضرر منها هو السعودية".
 

المصدر: صحيفة سبق - https://sabq.org/%D9%83%D8%A7%D8%AA%D8%A8-%D9%85%D8%AA%D8%AE%D8%B5%D8%B5-%D8%AA%D8%AF%D8%AE%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%84%D8%A7%D9%84%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A3%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A-%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%81%D8%B2-%D9%88%D9%84%D8%A7-%D8%A8%D8%AF-%D9%85%D9%86-%D9%81%D8%B6%D8%AD%D9%87

لا لتسييس الدين

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 29-12-2015

 

 
 "لو كنت مكان الشعب لما سألت السادات عما يفعل"، قالها غفر الله له الشيخ المحدث الشعراوي إطراءً للراحل أنور السادات في وقتٍ ما كانت السلطة قد استمالته، أو لنقل استطاعت تحييده عبر تعيينه في منصبٍ رسمي، لا بد أن يكون من ضرورات الانتماء إليه المهادنة إن لم تكن المجاملة، التي تتداعى فيما بعد لتكون استكانة وتواطؤا مع الطرف المشغل ضد الآخر المعارض، يعني على سبيل الاقتباس ووفق "الصيغة السياسية اللبنانية" (14 آذار و8 آذار)، أي الممانعة والموالاة!
 
المهم، هو أن الشيخ الشعراوي لم يُطق ذلك، وأدرك بحسه الذي لا يجاريه إلا مقدرته العظيمة في ترجمة كتاب الله الكريم، أن مكانه المنابر لا المكاتب، فاستقال وعاد لممارسة محاضراته ودروسه التي كسرت الحواجز بينه وبين العامة، فقد كان حريصاً على ذلك، وهو المتواضع الذي كان كلما زينت له نفسه السمو كسرها عبر قيامه بنفسه بتنظيف دورات المياه في المساجد، تركيعا لها كي لا تصاب بالغرور والزهو!
 
يا ترى، كم من علمائنا الأفاضل الأجلاء ولا أزاود عليهم أو أنقص من شأنهم من قد وضع لنفسه ميثاقا لا يُخرق، بأن يلتزم الدعوة دون السياسة، وبأن ينأى عن التجاذبات التي تحدثها، ويكون من عواقبها أن يضطر لأن يدعم موقفاً تجاه أمرٍ ما حيناً، وفي آخر ينقلب عليه ويشجبه، السياسة هي فن إدارة الأزمات والنزاعات، أي ببساطة وبلغة العامة المقدرة على أن تتلوى كالأفعى، وفق متطلبات المرحلة والحاجة، فهل تلك صفة جديرة بأن تكون في رجل الدين والدعوة؟!
 
نأي الدعاة عن السياسة يعني عدم الاشتراك بها بشكلٍ مباشر عبر الانخراط في تياراتها المتصارعة والمتناحرة متباينة المواقف، وإنما الاكتفاء بالدعوة للحق الذي يرونه عبر منابر حيادية، لا تشد على يد طرفٍ ضد الآخر، ولا تتدخل لأحدهما نصرةً له في موقفٍ يشتت العامة إلا إذا كان الأمر حقاً جلياً توحدت عليه آراء الشعب أو الأمة، ورفضت فرضه عليها بالقوة من قبل أقليةٍ تمتلك السلطة، وتطوعها لمصلحة الخاصة لا العامة، حينها يكون دور العلماء والدعاة هو التنوير والدعوة جنباً إلى جنب مع كل حرٍ أياً كان انتماؤه ورؤاه، طالما يخدم الهدف، في تصاهرٍ مصلحي يتناسى الجميع فيه اختلافاتهم نصرةً للقضية.
 
حينما نطالب بأن تكون الدولة تحت حكم تكنوقراط لا ثيوقراط، لا نعني بذلك أننا ندعو لدولٍ مادية جوفاء خالية من روح الدين وتأثيره، ولا أقصد بأي حالٍ ألا يكون الإسلام المصدر الأساسي للتشريع، وإنما أطالب بأن يكون المسؤول فقط هو المناسب لما سيتم توكيله به، فلا مانع بالتالي بأن يتولى المحافظ والملتزم كغيره من أصحاب القدرة منصباً سياسياً، ولكن أن يكون المعيار في ذلك قدرته الإدارية لا تدينه وعلمه الشرعي، ولا يجب أن يوصله للمنصب أو يكون سبباً فيه.
 
مشكلتنا بصراحة أننا خلطنا العلم الدنيوي بالشرعي، حتى بات من يظن أنه داعية للأخير يتكلم في الفيزياء والفلك وهو على جهلٍ بهما، كذاك الذي أراد أن يُثبت أن الأرض مسطحة عبر تفسيرٍ سطحي لم ينل بسببه إلا التهكم من العرب قبل أعدائنا، الذين أدركوا أن خير وسيلةٍ لهم في مهاجمتنا هي فضح ونشر هرطقات وهلوسات البعض منا!
 
قيام الدولة المدنية الحديثة لا يعني كما يُروج له ويصور بالعداء للدين، ولا تعني الليبرالية والحرية استيرادها كاملة وتطبيقها بمجتمعاتنا، دون أن نستخدم القص واللصق بها، فندع جانباً ما يختلف مع عُرفنا وشريعتنا وعاداتنا وتقاليدنا، فيما نأخذ منها ما يسهم في تطورنا، ويؤصل الإنسانية والمساواة والعدل والأخوة لدينا.
 
يبقى أن أذكر بمقولة للشيخ الإصلاحي سليمان الطريفي يقول فيها: "ليس للدعاة إلا مهمة التبليغ والتذكير، والناس أحرار فيما يختارون، والحكم على الناس لرب العالمين يوم يقوم الأشهاد، فلا تجعل من دين الله جبروتاً".
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=339013

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...