الأحد، 27 ديسمبر 2015

داعش ما بين الحقيقة والوهم والاختلاق

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في وكالة أكد نيوز للأنباء 24-12-2015

 
 
سكتنا عن داعش وغض العالم النظر عنها وتجاهل حماقاتها وتطرفها، بل وفي السر أيدهم بعضها وسهل لها السلاح والتقنية ووصول المسلحين. لم يحرك أحدٌ ساكنا عدى عبارات الشجب والاستنكار لوقف عمليات الاعدام الوحشية التي ترتكبها في حق من أسرتهم من فصائل المعارضة السورية المسلحة المختلفة معها عقديا، ومن نالتهم ايديها من صحفيين وعمال اغاثة أجانب، كانت تصفهم على الدوام بالجواسيس عليها، رغم أن الصورة واضحة ولا لبس بأن العديد منهم حركته إنسانيته لنقل حقيقة ما يحدث في سوريا، فيما آخرون وبدافع انساني تحدّوا الخطر ليقدموا المساعدات، فما كان من داعش إلا ان اسرتهم وذبحتهم بتلك الوحشية والهمجية اللا إنسانية، ونشرت مقاطع لجز الرؤوس ومن ثم رميها على جسد الأسير.
لم تنته فظاعة انتقامهم ان صح التعبير عند هذا الحد، فوحشيتها المفرطة في حرق الطيار الاردني الأسير لديها فاقت أي تصور، وقطعت الشك باليقين لمن لا زال يملك بعض البصيرة والشك تجاهها، ليعي بأن حرقها له بذاك السيناريو المعد والمخرج بتقنيات متطورة وعلى درجة عالية من الاتقان؛ لم يثبت ادعاءاتها بالمظلومية، ولم يكرس “بروباجاندا الخلافة الإسلامية” التي تروج لها لتستقطب الفئة المتحمسة من الشباب وضعاف العقيدة، إلى جانب من انخرطوا في صفوفها من المرتزقة والمنبوذين من القيادات والأحزاب الغابرة، وعملاء الاستخبارات وفلول النظام السوري البعثي المجرم، الذي تمكن من زراعة عناصره بينهم، وبهم ارتكب ما يسيئ للثوار والإسلام، ورمى حبل نجاة تشبث به الأسد بداع قتال التطرف الإسلامي الذي تمثله المعارضة السورية، التي الصقت بها ظلما تصرفات الدولة المزعومة سيئة الذكر!
داعش ولن اسميها تنظيم الدولة الإسلامي في العراق والشام؛ فالإسلام منها بريء ومن خلافتها المزعومة، التي لا تمتلك لإعلانها ما يعزز مقومات الخلافة، ولا البيعة لمن سمى نفسه بخليفة المسلمين؛ قد أثبتت أنها نتاج لعبة دولية تلاقت فيها مصالح مختلفة، اتفقت بقصد أو بدونه على دعمها وايجادها من العدم.
بالنسبة للنظام السوري، هي من منحته بعض الشرعية لمحاربة ما أسماه بالتطرف الإسلامي. للمالكي سابقا، هي من وقفت ضد ثورة العشائر العراقية واضعفت زخمها وأعطت المبرر للحكومة العراقية بمزيد من القمع، وأججت الطائفية والعداء بين مختلف الطوائف العراقية وعززت روح القتل والانتقام على الهوية.
اختلقت فيما بعد مشكلة الأيزديين، وهي التي أقحمت نفسها في عين العرب كوباني، واستجلبت عداء الأكراد، أملا من أطراف دولية بأن تدخل تركيا الصراع الدائر في تلك القرية الحدودية المجاورة لها، والتي يصعب فهم لماذا اغرقت داعش نفسها فيها، وهي التي لا تمتلك أي مكانة استراتيجية في الصراع الدائر سورياً.
داعش برغم عدائها المزعوم لا يران ومحاربتها للمليشيات التي تدخلت في سوريا، إلا أنها لم يسبق أن اعتقلت واعدمت أي إيراني مع كثرتهم في العراق وسوريا. كما أنها لم تدخل في قتال طويل مع اي منهم، وكذلك مع النظام السوري، بمقدار شقها لوحدة المعارضة السورية المسلحة، واقتتالها معهم، وهو النابع من تكفيرها لكل من يخالفها عقيدتها التملكية ونزعتها السلطوية الانتهازية.
بالنسبة للأطراف التي ترى في الاسلام والصحوة خطرا متنامياً، شكلت داعش بوقها الاعلامي المسيء، الذي لم يتوانى عن ارتكاب المجازر والاعدامات والقتل والشنق والرجم بحجة تطبيق الشريعة!
مقاتلي داعش وقياداتها تم تجنيدهم من مختلف دول العالم، وسهل وصولهم وانضمامهم اليها بغرض تجميعهم في مكانٍ واحد يُسّهل القضاء عليهم حين انتهاء دورهم في حرب الآخرين باسم الإسلام لتحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية لأطراف دون أن ترهق قطرة دم من جنودها؛ وبعلم من دولهم نفسها وأجهزة استخباراتها. روسيا أيضا كان لها مصلحة في تصدير من تصفهم بالانفصاليين الاسلاميين من الشيشان وجمهوريات القوقاز.
في عالم اليوم، لا يمكن أن تهرب إبرة في كومة قش دون أن تكون أجهزة الاستخبارات العالمية على علمٍ بها ومكانها، فكيف بمقاتلين مصنفين على درجة عالية من الخطورة تجاوزوا للوصول لسوريا نصف العالم؛ دون أن تكون تحركاتهم مكشوفة ومراقبة!
عقب الفيديو سيء الذكر لحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، كثرت الأقاويل والتحليلات. منها من شكك بصحة المقطع، ومنها من جعل من صنعه مؤامرة قامت عليها اجهزة استخبارات دولية، فيما أخرى تساءلت عن اقمار التجسس الأمريكية فائقة الدقة التي تغطي كامل الأراضي السورية، لكنها فشلت في كشف الحادثة. آخرين تحدثوا عن الأثر الذي تركه في نفس الشعب الأردني ليقدم تفويضاً وتوقيعا على ورقة بيضاء لحكومته للانخراط اكثر ضد تنظيم الدولة، ليستنتج بعض المحليين على أساس ذلك ما يدعم نظريتهم بوجود مؤامرة, مدعمين قولهم بأن الأغلبية العظمى من الأردنيين كانوا يروا في حرب داعش شأناً لا يخصهم, كما أن الأخيرة تحظى بتعاطف فئاتٍ لا بأس بها من الشعب, ولها أتباعها المتحمسون لها والمنظرون لفكرها في كامل تراب الدولة, ومعان على وجه الخصوص أحد أبرزها.
الأقوال والتحليلات لن تختفي بل ستتنوع بين مصدق ومكذب، فيما كلٌ منهما يدعم أقواله بما يراه من براهين. لكن الأكيد من وجهة نظري هو  أن التطرف والتشدد والعالم الحر والأفكار الانسانية التحررية وهذا يشمل الديموقراطية جميعهم معادلة كونية تمثل اقصى اليسار واليمين، فيما المنتصف متروك لمن يحكم, وبدونهما لن يحكم من يريد السيطرة، فهما من يمنحاه الشرعية والوجود.
داعش وان كانت حقيقة وواقع الا انها صنيعة وتآمر عدة جهات دولية مختلفة المصالح لتحقيق اهداف خاصة لكل منها، وهذا يشمل ايران وبشار والعراق وامريكا والغرب واسرائيل وروسيا بتغاضٍ وتعاطف من بعض الدول العربية. هي ببساطة سلة قنابل شارك الجميع فيها كلٌ حسب مصالحه, لكنهم جميعا لم يضعوا في حسابهم أن هذا التنظيم قد ينقلب على قياداته يوما, وقد يتحول الى خلايا صغيرة لا مركزية القرار موزعة أفرادها في مختلف دول العالم, ستعمل يوما على أيقاظ فتن لن يسهل أبداً إخمادها!
 
 

المصدر: وكالة أكد نيوز للأنباء- http://www.akadnews.org/2015/12/24/%d8%af%d8%a7%d8%b9%d8%b4-%d9%85%d8%a7-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%82%d9%8a%d9%82%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%88%d9%87%d9%85-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ae%d8%aa%d9%84%d8%a7%d9%82/

أبطال على ورق

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 22-12-2015

 
 
عظماء كانوا لكن دون أقنعة، أبطال ودون أن ينتظروا إشادة، هامات لن ينساها التاريخ لما قدمته للأجيال، ولن تنساها الإنسانية لما أسهمت في سبيلها، لم يدر في خلد أيٍ منهم حين قدم ما قدم أنه سيترك خلفه ذكرى عظيمة لا تنسى، ولم ينتظر أيٌ منهم شكراً ولا جزاءً، هم جند معركة الخلود المنتصرون بتضحياتهم في سبيل سمو أهدافهم، وهم ذكرى حية بأفعالهم التي مهدت السبيل لمن كان في زمنهم وجاء بعدهم، فألهمهم السبل نحو القدوة الحسنة دون تطبيل وبهرجة وإعلام يشيد بهم ويُرجع لهم الفضل.
 
هم أبطال حقيقيون ولكن دون رياء، وهم حاملو لواء الإنسانية التي حركت مشاعرهم فجعلتها محفزا لهم لعمل كل ما هو صواب أيا كانت عقباته، حتى لو أدت للتضحية بما يشق على النفس التخلي عنه.
 
كان القرشي الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عام الرمادة لا يأكل إلا الخبز والزيت، حتى أسود جلده، ويقول: بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع، وفي موقفٍ آخر له، شكره الناس في توزيع مال بيت المسلمين، فاستنكر هذا الشكر، وقال: "ما بالهم نعطيهم حقهم ويظنونه منة مني عليهم!".
 
هذا كان سابقا، أما في زمننا المجيد هذا، فما أكثر إنجازاتنا على الورق التي تمطرنا الأقلام بها كل يوم، بفلان العربي الشامخ الذي اخترع كذا، وحاز على براءةٍ في تلك، كما تلك العربية التي نالت جائزة الاستحقاق بسبب مجهودها في اكتشاف ما، وهكذا دواليك، أمجاد على ورق لم نر توابعها ولم تتقدم الأمة العربية والإسلامية بسببها، بل ما زالت على ما هي عليه من استكانةٍ وتبعيةٍ وتأخر، واعتمادٍ على الآخر الذي طالما وصفناه بالغرب العلماني المادي، لكننا حين يهل موسم الإجازة السنوية نهرع لسفاراته طلبا لفيزا تخولنا التجول في أراضيه، والاستمتاع بأجوائه المنعشة ومرافقه السياحية المسلية، التي لم تأت بسبب غناه فقط، وإنما لإخلاص مواطنيه وتفانيهم في عملهم لإعمار بلدهم، وفق تصورهم له وحلمهم، ودون أن يتوقعوا أن يدرك العامة أسماءهم، وأن تتحدث عنهم القنوات التلفزيونية، وأن تتم الإشادة ليل نهار بما أنجزوه، فيما هو في الأساس مهام عملهم وواجبهم المنوط بهم أداؤه.
 
عقدة جديدة يجب أن نضيفها لمآسينا المتعددة، اسمها البطولة الزائفة، التي تختلقها أرواحنا التواقة للمجد الغابر، فتصنع وكما يُقال شعبياً "من الحبة قبة"، ويبدو أننا تأثرنا بالأفلام الأميركية التي تمجد البطولة، والأفلام الهندية التي كنا نضحك على الخارق فيها حتى بتنا ندعيها، ونجد من يمجدها ويهلل لها!
 
لكم أن تطالعوا عينة عشوائية لعدد من الصحف والمواقع العربية لتجدوا سيلا من الأخبار والتقارير التي تتحدث عن اختراعات عربية في مجالاتٍ عدة، يتم تضخيمها وإعطاؤها أكبر من حجمها الحقيقي، للعلم، فأنا لا أحقر مجهود المجتهدين ولا ما يقدمونه، ولكني ضد أن نضعه في إطار هو أكبر من حجمه، وضد أن نستخدمه لري نشوة مؤقتة غير صادقة تؤتي أُكل السوء في المتلقي لها، وتخدع العامة التي في نهاية المطاف ستأوي لفراشها ظانة أنها ستستيقظ صباحا على حدثٍ مصدره ابن بلدها، يهز المجتمع العلمي في العالم أجمع، فيما هو كفقاعة صابونٍ اكتسبت حجم كرةٍ لكنها سرعان ما ستنفجر لتنتهي للا شيء.
 
كل ما أدعو له هو أن نبتعد عن المبالغة والمغالاة في الطرح والمدح والإشادة، وأن نكون موضوعيين وعمليين، إن أردنا ردم الهوة بيننا وبين من سبقنا في درب الحضارة وتعدانا من الأمم!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=337814

الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

انتهاك حرمة الطفولة باسم الدين

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 16-12-2015

 
 
التنطع.. التشدد.. المغالاة.. جميعها كلمات تقودنا إلى نفس المعنى المحزن، الذي بات سمةً للبعض يظن بما يفعل أنه يُحسن التدين، فيما هو يسيء ليس لنفسه فقط وإنما لأمة المليار مسلم، التي هي بلا شك براءٌ منه ومن فعله، ومن تطرفه الديني الذي لا يمت للإسلام ولا يجب قرنه به!
 
بالأمس لفت انتباهي نشر إحداهن صورة طفلة في السابعة من عمرها، تتوشح بالسواد الكامل من أعلى رأسها لأخمص قدميها، ترتدي قفازات بيديها وجوارب بقدميها وعباية جرى الاصطلاح على تسميتها "بالشرعية"، لكونها تلبس على رأس المرأة لا على كتفيها، "كما يرى البعض ويفتي بحرمته".
 
وصفت من نشرت الصورة الطفلة "بملكة الحجاب"، وتحدثت بزهو أن هذا هو لقبها في دار التحفيظ المشتركة بها، وتحرص يوميا على الحضور لها بهذا الزي، جدتها على حد قول معلمة التحفيظ فخورة بأنها (أي الطفلة) قد امتنعت بمحض إرادتها عن لبس ما أسمته "بالبنطال" منذ أن كانت في الخامسة بفخرٍ، وكأنه يخيل للسامع أن ارتداء البنطلون كبيرةٌ إن قامت به المرأة ومعصية!
 
طبعاً ردود الفعل وتجاوب القراء على الحدث كان كما نراه على الدوام؛ أحد تيارين، إما أن يدعو للطفلة بالثبات ويثني وعيناه تدمعان على خلقها الشرعي، وآخر ثارت ثائرته ورعد وأزبد ودعشن، ولكن دون أن يقدما قراءةً موضوعيةً للأمر، ومدى صحته من عدمه، وما الدليل على ذلك.
 
أولاً يجب أن نعي أن الأطفال في سنهم المبكر ذاك مقلدون، وكذلك تلك الطفلة البريئة هي مقلدة ولا تعي مصلحتها ولا الخطأ من الصواب، فهي ترى من هو أكبر منها سناً في بيئتها يلتزم بالحجاب "أياً كان شكله"، وتقوم بالاقتداء به وتكراره، وخصوصاً إن وجدت من يشجعها على ذلك، دونما إدراكٍ للحق الإنساني لها بأن تحيا مرحلتها العمرية كغيرها من البنات، فهي ووفق الشرع الذي ارتضيناه موجه لنا، وهي لم تبلغ الحلم بعد، ومرفوعٌ عنها القلم وغير مكلفة، فلماذا نقوم نحن الكبار، الذين يفترض بنا أن نكون عاقلين، بتحميلها ما لا طاقة لها به، ألا يعد هذا الفعل المغالي في كل الشرائع الدنيوية انتهاكا للطفولة، وليس بالأمر الذي يُفتخر به!
 
يا من فرحتم بها وادعيتم أن ما فعلت بتشجيعٍ منكم هو الصواب؛ لتعلموا أنها يوما ما حين تكبُر وتعي ستعاتبكم بضميرها وروحها، وإن لم ينطق به لسانها، متسائلةً: لم كان كل من في مثل سنها من الأطفال يستمتع بطفولته، فيما هي تعيش أجواء امرأة ولا تعي ما تفعل، بل تقلدكم في حجابكم الذي أؤكد لكم عدم اختلافي عليه لمن هي مكلفة كواجبٍ شرعي، "ولا أقول النقاب" الذي ورد الاختلاف فيه، مع ترك حرية ارتدائه لمن أرادته، وعدم فرضه على من نأت عنه وتركته.
 
أرثي حال الطفولة التي ظننا بما نفعل بها خيرا، عبر تطويعها لتكون مسيرةً لتطبيق رؤانا نحن الكبار، دون اعتبارٍ للعمر الذي له حقٌ أن يُعاش بقوانينه البريئة المخصوصة بنتاً كان أو ولدا!
 
صدقيني يا ابنتي الصغيرة التي وصفوك بـ "ملكة الحجاب": ستكبرين وكل عُقد الدنيا فيك، وستعانين بسبب من ظن تنطعا أنه يتبع الدين، وهو للأسف لا يمت بما فعل لصلةٍ به، بل يسيء ويسيء ويسيء!
 
دعوا أحلامكم أيها الكبار ورؤاكم وتدينكم لكم، ولا تفرضوها عنوة على الأطفال، واهتموا أكثر بالأخلاق الحميدة التي أصّلها ودعا لها شرعنا الحكيم، فهي النبراس الذي سيضيء حاضرهم ويبني مستقبلهم، وبه تزدهر الأمم وترقى، لا بالتنطع والمغالاة واختراع البدع التي ليست من الدين في شيء، وترهيبها أكثر من ترغيبها، ولا تعكس روح الإسلام السمحة ولا طبيعته الوسطية.
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=336584

الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

ليبرالي ومطوّع

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 09-12-2015

 
 
الخلاف الايديولوجي والفكري بين التيار الديني والليبرالي لا يظهر فقط حجم الانحدار الثقافي في الاختلاف الذي وصلوا اليه أخيراً، ولكن نتلمس فيه بشكلٍ واضح أن محور الخلاف لم يعد فقط حول فكرة أن أحدهم مغالٍ في الدين، والآخر مفرطٌ فيه على حدِّ زعم كلٍ منهم.
 
تابعهم في جميع وسائل التواصل والمنتديات ستجد أن المنظرين وأتباعهم لا يدخل في اهتمامهم مناقشة الآخر بهدوء، وتفنيد الكلام بالحجة والبرهان؛ وإنما تركه يسترسل في حواره، ومن ثم تتبع أخطائه وزلاته واقتباسها لاستخدامها لاحقاً في الصراع نحو تحقير الآخر وتخطيئه والنيل منه، أملاً في زيادة الأتباع من جهة؛ وأخرى لإثبات أن أهل ذاك التيار هم الكارثة التي تتسبب بكل المصائب التي يعاني منها الشعب!
 
غياب مفهوم الوسطية هو اللعنة التي ستحل بأي مجتمع، وتؤدي به لصراع التجاذبات بين قطبين فقط، هم من سيعلو ضجيجهم، وإن كان لأحدهما أكثر من الآخر، إلا أنهما سيكونان الطاغيين وسط أغلبية صامتة تنأى بنفسها عنهم، وإن كانت بين حين وآخر تتذبذب مواقفها بين هذا وذاك، إلا أنها تؤثر السكون في حلبة صراع الديكة الجاري رحاها، وتتخللها ما تلفظ به الألسن الغاضبة لا إلى سبيل التشجيع البريء، وإنما للفوز في المعركة التي يجب أن يخرج منها أحدهم "مقصوف الرقبة"!
 
حتى في الاختلاف ووفق فن الحوار؛ يجب أن يخرج كلا المتناقشين مودعين بعضهما بابتسامة لا تعني تقبل فكر الآخر، وإنما احترامه أياً كان، عندنا، العكس هو الحاصل، فبعد كل نقاشٍ حول شأنٍ بعينه، تبرز الحماقة والعداوة والضغينة والتجييش الأهوج للأتباع، لخوض غمار المعركة المقبلة، التي لا بد أن تكون حامية الوطيس أولاً، وثانيا تنتهي بالإقصاء الكامل للرأي المخالف، حتى لو استدعى السبيل لذلك تكفيره وزندقته أو "دعشنته"، ووصفه بالإرهابي المتطرف!
 
الغريب فينا كعرب أولا قبل كوننا ذوي أغلبية مسلمة؛ هو ازدواجية الشخصية التي نعاني منها، وأختصرها باللفظ الطبي "double personality"، فنحن كما أحسن وصفنا علي الوردي بالقول: لو خيروا العرب بين دولتين هما الدينية والعلمانية لصوتوا للدولة الدينية، وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية!
المشاركون في الاستبيان أعلاه سيكونون في أغلبهم من فئتين هما: جماعة "محبي الصالحين" "والليبروفاشية"، كما يتصارعون ويتنابزون ويطلقون على بضعهم.
ما يجب أن نعيه جيداً هو الفرق بين أن يكون المرء ليبرالياً متفتحاً، لكونه متعلما مثقفا واعيا وإصلاحياً، لا لكونه فقط يحمل عداء للأيديولوجيا الدينية، أو من أصحاب السوابق الأخلاقية، ونسميه "الداشر"، الليبرالية ليست كما يُروج لها بأنها البعد عن الدين وخلعه من الجسد والروح، والاقتداء بشرور الغرب "الكافر" والعمل بأخلاقه، وإنما هي لكل مسيءٍ لفهمها رفضٌ للانقياد الأعمى والكهنوت، ومنهج "الأكليروس" في عصور الظلمة الكاثوليكية، هي سلوك ومنهج وفكر، لا تعري، وانحلال أخلاقي وتفسخ اجتماعي ومادية بحتة!
 
كذلك هو التيار المحافظ والمتدين، الذي لا يعبر عنه "وإن أساؤوا" قلة من الملتحين، فقصروا ثيابهم بتنطع ومغالاة حتى بانت ركبهم، في عمل معاكس لما ورد عن الرسول الكريم وحدده بألا يتجاوز الكعبين، التدين هو الإيمان بعقيدة ارتضتها النفس البشرية لأن تكون فيها تابعة ذليلة لجلال الله سبحانه، تلتزم بفعل ما أمر به، وتنأى عما نهى عنه، أملاً في الجنة وفي رضى المولى، ولكن دون أن تبتدع في الإسلام وتُدخل ما ليس فيه من باب الظن والغلو، وسد الذرائع الذي بات البعض يستغله للتحريم، متناسين أن الأصل في الأمور هو الحلال، وما تم تحريمه والنهي عنه والزجر أمور لا تتعدى العشرات!
 
ما يجب أن نعيه جيدا هو التفريق بين كل مدع، وفي المقابل داعية وإصلاحي، فلا جُلُّ من نادى بحقوق المرأة والحرية المنضبطة هو ليبرالي، ولا كُلُ من خصص نفسه بلباسٍ بعينه وأسلوبٍ ومظهر هو داعية ديني، ستجد من الأولى من يركبون الموجة، وفي الثانية من التزم بالأمس، لكنه اليوم بات طامحاً لأن يكون من الدعاة دون العلم الشرعي والأسلوب والفكر، فأساء كلاهما بما فعل ونفر الناس منه.
 
أضف إلى ذلك ضعف الخطاب الشعبي الموجه للعامة، وتكراره وابتذاله أحيانا من كلتا الفئتين المتناحرتين المسيئتين بما تفعلان، وافتقاره لمفهوم الوسطية والمنطق وضرورات المرحلة، ومحاكاته للعقلية الإنسانية التي لم تعد مغيبة كما كانت سابقاً، ولا تابعة كالقطيع تُساق إلى المذبح دون أن تعترض، أو تغير طريقها نحو ما تطمح إليه بأن يكون وجهتها ومصيرها، لا ما يُراد لها كما كان يفعل بها سابقاً دون أن تعترض!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=335277

الأربعاء، 2 ديسمبر 2015

الأيام دول لا تدوم

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 02-12-2015

 
 
ثقافة ترشح عنصرية ما يميز أمتنا العربية التي تمجد لغة الضاد، وتعدد حضارتها وقوتها وتفتخر بأصالتها وشعرائها ومعلقاتهم، فما نميز به أنفسنا، تجدنا وكأننا في غينا نعمه، وبالعقول نتلاعب، نعدد مزايا لغتنا ومكمن قوتها وتفوقها على مثيلاتها، مستدلين بقولهم إن "العجم" وإن عاشوا بيننا عشرات السنين، فلن يتقنوها لا تحدثاً ولا كتابة، بل يستخدمونها "مُكسرة ومُخلّعة"، وركيكة لكنها تؤدي الغرض بأن نفهم على بعضنا، حتى باتت العربية دخيلة على العامية واللهجات المستحدثة، لكنهم (أي المنظرون) أغفلوا واقعاً تعيشه أمتنا؛ بأننا لم نحاول حتى أن نولي مقيمي دولنا العربية من غير أبناء جلدتنا بعض الرعاية، ونوفر لهم مراكز لتعليمهم اللغة، بدلاً من أن "يلووا" ألسنتنا ويعلموننا هم العربية المُكسّرة؛ لأنهم وخصوصاً فقراء آسيا أقل مستوى منا!، في حين نرى في زرق العيون وخضرها (ولست واحداً منهم) سمواً للمكانة لا يتناسب معها إلا أن نحدثهم بلغتهم، التي أضحت شرفاً ومكانةً يتسارع البعض منا ليحدث بها أبناءه.
 
قبل فترة أذكر أني شاهدت على إحدى القنوات الفضائية حواراً ولقاءً مع أحد الأوروبيين، كان متيماً بالحضارة العربية، لدرجة أنه هجر بلاده وتزوج إحدى نسائنا العربيات، وأتقن لهجتها العامية ويقرض الشعر بها، في اليوم التالي، أذكر أن "صديقنا المستعرب" كان حديث الساعة ومصدراً للفخر والاعتزاز وكل الشرف، في حين يخرّجُ الأزهر الشريف في مصر والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة سنوياً المئات من طلبة العلم من الدول الإفريقية والآسيوية من متقني اللغة العربية تحدثاً وكتابةً، وبعضهم حفظةٌ لكتاب الله، لكنهم يمرون بجانبنا مرور الكرام، فهم ليسوا من العرق الأبيض المحبب، الذي نسعى لهثاً للاقتداء به دون أن يعيرنا أي انتباه، فنحن في وجهة نظره راكبو الجمال، مستعبدو النساء، متطرفون إرهابيون!
 
عنصريتنا ليست موجهة فقط نحو من اعتبرناهم دوننا من الشعوب الأخرى، بل هي أشد فيما بيننا، فهناك العربي الفقير والغني، والمتمدن والمتخلف، والجاهل والمتعلم، والراقي والبدائي، والمتسول والمانح، وابن القبيلة والعائلة وضعيف الأصل والنسب.
 
لولا رحمة الله بنا، لكنا الآن مثل أميركا وجنوب أفريقيا أيام الفصل العنصري، ولكان المسلم والعربي يعامل حسب تصنيف دولته ومكانتها، فتجد دور العبادة والدراسة والخدمات العامة مفرقة حسب التصنيف العنصري والمكانة الدولية، ولما حظي مغتربو لقمة العيش بالجلوس في الطائرة أو الحافلة بجوار كريم النسب!
 
اعتدادنا بنفسنا أهوج أحمق، قدّم الآخرين وأخرنا، ومع ذلك نظرتنا لأنفسنا أننا الأشرف والأسمى والأنقى، والأكثر حظوةً ومكانةً بين ربعنا "لا بين الأمم"، التي تنظر لنا دوماً بتسيد، وننظر لهم بتبعية.
 
من أوجد العنصرية، ومن اخترعها وزرعها في النفوس؟
 
أهي شياطيننا ووساوس أنفسنا أو هوى أنفسنا الذي لامسته فتشبع بها، وآمن أنه السيد والآخرون عبيد، هو المُجتبى والمُختار، وما سواه العامة، إن كان كذلك فنحن وبنو إسرائيل إخوة ولسنا أولاد عمومة، لأن كلينا نؤمن أننا الشعوب المُختارة.
 
لن نستيقظ من غينا إلا إن أزلنا عن أعيننا غمام العنصرية والطبقية والمقام، وعملنا على ألا يكون فضلنا على الآخر قائمٌ على جاهٍ أو ثروةٍ وحظوة، وعملنا بقول المصطفى الكريم "دعوها فإنها منتنة"، فهل نحن بحلٍ من ذلك؟ وهل لنا من عظةٍ في من التهى سابقاً وتغافل عن قولٍ فيه عبرة.. "الأيام دول"!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=333977

الخميس، 26 نوفمبر 2015

مداخلة هاتفية عبر قناة ANN

مداخلة هاتفية عبر قناة ANN وحديث عن الإعلام والطئفية بتاريخ 25-11-2015

  
الجزء الأول
 
 




الجزء الثاني:




 

ألف باء النقاش والطرح

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 25-11-2015

 
 
في كل مرة يخرج أحدٌ ما برأي قد يتعدى في مفهومه وجهة النظر ليمس ثوابت عند الأغلبية، تنشب معركة طرفاها في تصرفاته أكثر تطرفاً أحيانا وغلواً من صاحب الرأي نفسه، أحدهم من جماعة "أحب الصالحين ولست منهم"، والآخر من قوم يظن العلمانية والليبرالية رداءً يلبس كما هو دون ضرورة تفصيله على المقاس المتوافق مع الأمة التي يراد منها لبسه!
 
يجب أن نسيطر على الحمية لدينا، وأن تكون ردود أفعالنا متأنية ومتزنة وغير انفعالية للرد فقط، والخروج منتصرين في معركة النقاش، وإنما لتبيان صحة وصواب ما قيل من عدمه وتفنيده، بحيث يستفيد منه العامة، وهم الفئة الأهم المغيبة في مجتمعاتنا، والأكثر تأثراً بما قيل والأسهل توجيهاً، أما أصحاب الرأي- وأستثني منهم بالطبع مثيري "فقاعات الصابون"- ففي الأغلب لا يكتبون إلا عن اقتناع بما يريدون، ومن الصعوبة أن يرتدوا عن فكرتهم التي ما كتبوها إلا بعد أن أرّقت تفكيرهم؛ ومع ذلك فالنقاش مع ما يكتبونه يجب أن يكون وفق أصوله ولمن يعرفه وبالدليل والحجة، بعيدا عن السب والشتم والأحكام المسبقة، ووفق المنطلق الكريم "وجادلهم بالتي هي أحسن".
 
يلجأ بعض الكتاب من واقع خوفهم من طرح الفكرة مباشرةً، أو بسبب أسلوبهم الذي امتهنوه في الكتابة، للطرح غير المباشر واللغة المعقدة في شرح ما يرمون إليه، فيتعمدون كتابة المقالة بأسلوب معقد لغويا، لا يخاطب العامة بل لتسجيل موقف فكري لهم ينم عن قناعاتهم، كما أن بعضهم ينتهج المواربة خلف الكلمات، ليختلف تفسيرها فتحتمل أكثر من معنى يحتمون به في حال تعرضهم للمساءلة.
 
ربما وفي سبيل الشفافية في الطرح، يُطالب البعض بأن تكون الحرية وفق المبدأ القائل: من أراد أن يكفر فليفعل، ولكن دون أن يفرض ذلك على غير شخصه، ومن أراد أن يؤمن فذلك الصواب..، لكن هل يدخل هذا الكفر تحت باب حرية الرأي التي يجب تأصيلها والوصول إليها في مجتمعاتنا العطشى لأن تمارس فيه فكرها أيا كان صوابه من خطئه!
 
التحرر الفكري والليبرالية تحترم الآخر أياً كان توجهه، والدين الحق يرفض الكهنوت، ويدعونا للتفكير وللتمعن ولتحكيم العقل وعدم انغلاقه وتقوقعه، لكن وفي نفس الوقت هناك مسلمات وغيبيات علينا إن ارتضينا هذا الدين وآمنا به أن نأخذها كما هي، ولا داعي لإرجاعها لما يمكن للعقل فهمه، وهو الذي- أي العقل البشري- تختلف قدراته من شخص إلى آخر، أما من آمن بالمادية البحتة وشاء أن تكون هي منهجه فلا يمكن إقناعه أو التعامل معه إلا وفق حججه، ويجب ألا يتم إقصاؤه طالما لم يفرض رأيه على الآخرين، فهو حر بقناعاته إن لم يُجاهر بها ويسبب ضرراً.
 
مشكلتنا بصدق هي أننا نخلط ما بين معارضتنا لبعض الآراء المتطرفة والمغالية التي تكسو نفسها برداء الدين تارة وأخرى باسم الحرية، وبين المفهوم المعتدل للدين والتدين، أي الوسطية التي يقوم عليها المنهج الحق الذي نادى به الإسلام، كما قدسية الحق الإنساني في أن يعبد من يشاء، وأن يفكر كيفما يشاء، وأن يؤمن بمن يشاء.
التصرفات الخطأ لبعض المتدينين لا تسيء للدين وإنما تسيء لهم، وكذلك "الشطحات" لبعض التحرريين لا تعني أنهم تغريبيون بشر على هيئة شياطين، الاعتدال والمنطق في الطرح واجب وإلا تحول الحوار المجتمعي إلى صراع ديكة لن يخرج منه إلا طرف واحدٌ فقط منتصراً كما يظنُ هو وأنصاره ويعتقد!
 
لنتعلم كيف نحسن الظن بالآخر المختلف معنا، ولنتعلم احترامه ونقاشه بود وهدوء بدلا من إقصائه، ولنتقبله كجزء مكون منا دون أن نضع أنفسنا في مقام القاضي، الذي تعدى صلاحياته فبات يقرر هذا في الجنة وذاك في النار، وهذا منا وذاك من أعدائنا!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=332716

الأربعاء، 18 نوفمبر 2015

سطحيون

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 18-11-2015

 
 
تحدثت سابقاً عن عنصريتنا المتأصلة فينا كعرب، وكيف أسهمت في دوراننا اللامتناهي في حلقة مفرغة من التأخر التي تسببت بها القبلية المفرطة، والاعتزاز الأهوج بالفصل والنسب، إلا أنني اليوم أتجاوزها لأنتقل لواقع آخر مزر بات يسيطر على مجتمعاتنا، وهو سطحيتها وجريها وراء المظاهر الكذابة، والإفراط في الكماليات، لدرجة أن ما كان قبل عقود سابقة رفاهية نسميها "لأهل الهاي كلاس"؛ باتت الآن من أساسيات مظاهرنا، صرنا لا نلبس ولا نشتري إلا ماركات، ولا نتعطر ونتطيب إلا بالغالي منها، نسعى لإظهارها للآخرين رغماً عنهم إن لم يستشعروها ويروها بأنفسهم، ويبادرونا بالسؤال عنها، الغريب أن أصحاب الماركات أنفسهم وعن العديد منهم أتحدث، وعى ذلك جيدا وأدرك أن تجارته تعتمد على تسخيف العقول، وربطها لقيمة أنفسها بما تلبس وتأكل، وعلى هذا الأساس سوق لبضاعته لدى شعوب مبدؤها يقول: "جوعني ولكن لبسني"، فأصبحت لا تلبس إلا "ماركة" ولا تشتري إلا "براند" ولا قيمة للشيء إلا إذا كان ثميناً.
بصراحة أصبحنا سطحيين جدا، فهل من سبيلٍ لعودتنا؟.. أتمنى ذلك!
إلا أنني أعود وأذكر نفسي قبل أن أوجه الحديث إليكم بأن التمني لم يجد يوما في تغيير الأمم، ولم يكن سببا في تقدمها، فهو وأحلام اليقظة واحد، وإن كان أحدهما لعقلٍ مستيقظ ومدرك لكنه موغل في التمني بأن تمطر السماء نموا وتقدماً؛ والآخر لحالمٍ طالما تتبدد سعادته باستيقاظه، المحصلة واحدة وتعني أنه من دون عمل وجد واجتهاد، لا استحقاقات يكللها الجهد المبذول في سبيلها والساعي لبلوغ المجد.
بمناسبة الحديث عن المجد، فقد تحول هذا النصر الإنساني في أي مجال بعينه إلى ساحة لاستعراض قدراتنا، ولكن ليس بالعلوم والاقتصاد والنماء، وإنما بالصقور والصيد وكرة القدم والأغاني والأناشيد، التي تغذيها قصائد شعراء سيارات "الفور باي فور"، وينظموها طمعا في الغنيمة التي باتت هي المحرك لقريضة شاعر الصالونات!
أجدادنا في الماضي القريب كانوا خير شاهد على رجال نحتوا الصخر لتحمل مسؤولية أسرهم، لم يكن يعنيهم كرجال أن يكون ما يلبسونه "كريستيان ديور" أو "أيڤ سان لوران"، بل أن يكون ساترا للجسد مكرما لمظهره، أما الجدات فكن من فجر اليوم ينشغلن بخبز الصاج وترتيب البيت من دون خادمة ولا يحزنون، لم يكن يسهرن أكثر من العشاء، فما كان في زمانهن "سناب شات" ولا "إنستغرام"، ولم يكنّ يتابعن مسلسلات تركية ولا مكسيكية، ولا يمضين الساعات متجولات في "المولات" بحثاً عن جديد الموضة والأزياء. لباسهن تلك الطرحة مع الجلابية التي خاطتها جارتهم خياطة الحي، مستخدمة تلك الماكينة اليدوية التي يعود تاريخ صنعها لثلاثينيات القرن المنصرم!
نعم الأول تحول، ولكن القيم لا تنتهي بالتقادم، والتطور لا يعني الاستخفاف والسطحية وتغليب المظاهر الكذابة على القيم الحميدة، صحيح أن الخالق جل في علاه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، لكن هذا لا يعني التبذير والإسراف والإسفاف، واللهث وراء ما لا يليق حتى لو ندر وغلا ثمنه. 
صحيح أن مظهر الإنسان مهم، ولكن يجب ألا يعكس قيمته دائماً، فلو اشترى المال الجاه والعز فلن يقدر على أن يمنح صاحبه الذكاء ولا الحكمة وحسن التصرف ودماثة الخلق، ولن تكون السيارة التي نستخدمها ولا الحذاء الثمين الذي ننتعله، ولا الساعة السويسرية المرصعة بالألماس التي نرتديها، ولا "الشنطة" النسائية التي تحملها السيدة ولا الفستان، سببا في علو المكانة إلا لمن يقاسمهم ويشاطرهم تلك النظرة السطحية للحياة ومباهجها!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=331422

متعة الراوي والرواية والقارئ

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في مجلة فكر الثقافية العدد 13 بتاريخ 17-11-2015

 
 
انهيت حديثًا وبعد طول تردد قراءة رائعة فيكتور هوجو "البؤساء"، التي رغم شهرتها التي تعدت الحدود وترجمتها لعشرات اللغات وطباعة ملايين النسخ منها وتمثيلها بالعديد من الأفلام والمسرحيات والمسلسلات التي استوحت منها النص؛ إلا أنني وبإرادةٍ عربية متأصلة بقيت من حزب الممانعة والمعارضة، رافضًا أن أقتني هذه الرواية لأقرأها. لا أخفي عليكم أن هذا التجاهل الذي حرمت نفسي بسببه من المتعة اللامتناهية التي شعرت بها بعد قراءتي لها؛ كان بعد أن تعرضت لتلك اللوثة التي طالما خوفتني منها وحذرتني من كم النكد والحزن والتعاسة  بها على لسان كل من توارت لمسامعهم، وبما يتوافق مع فكر الكثير ممن يرون في الرواية والقصة فقط "النهايات السعيدة"، التي غالبًا ما يكون فيها الحال بالنهاية تتويجًا لحكاية حب أو كفاح تنتهي وفق ما يتخيله القارئ الساعي، لأن يضع يده على خده بعد انتهائه منها, لينعم بنوم سعيد والابتسامة مزروعةٌ على وجهه، فهو الذي طالما أيقن أن قوى الخير ستنتصر على الشر، ويعم السلام، وتسود المحبة والوئام!
نزار قباني وبقريحته الشعرية وبفطنته الغريزية استدرك باكرًا حالة النشوة، التي تتشكل منها رغبات القارئ والمستمع والمشاهد العربي، فكان أن وصفها بقوله: الحب ليس روايةً شرقيةً بختامها يتزوج الأبطال!
بالفعل، فلو تابعنا عددًا من الأفلام السينمائية العربية لوجدناها موغلة في هذا النوع من النهايات، التي تتفق مع القول: "هذا ما يطلبه المتفرجون"، حتى إنهم تحدوا التاريخ، وزوروه حين زوجوا عبلة لعنتر في أحد تلك الأفلام الموغلة في السفاهة واستصغار عقل المشاهد, الذي لا يرغب أن يترك دار العرض وقتها, إلا وهو غير نادم على ما دفعه لأجل مشاهدة فيلم سينمائي، استمتع فيه بالرقص والغناء ونهايةٍ كما أرادها أن تكون!
عودة لتلك المشاعر التي تعترينا حين ننتقل في قراءتنا لأي عملٍ أدبي من مرحلة القراءة للقراءة؛ لمرحلة التوهان الإنساني والفكر والتأمل والنقد والسعي لمعرفة خفايا الكلمات والجمل والمواقف، واستنباط كينونة الأمور وحقيقتها المبطنة لا الظاهرة فقط. فتلك الغاية الأسمى والفائدة الأعظم من كونك قارئ نمت بينك وبين الكتاب - أيًّا كان ما يتطرق إليه - تلك العلاقة الأقرب للزواج الكاثوليكي، فلا أنت قادر على تركه إن لم يعجبك موضوعه، كما أنك مجبر على أن تواصل الاحتفاظ به بمكتبتك دون التفريط به أو إحطاط قيمته. أما إن توافقت معه، فهو علاقة حب أزلية. وقتها ما إن تقرأ آخر كلمة في آخر سطر من العمل الأدبي الذي تعايشت معه وقتًا من الزمن، لا بد لك أن تضعه جانبًا باحترام وإجلال في مكتبتك, فتنطلق عقبها في حالةٍ من السكينة الإنسانية المفعمة بمشاعر تفصلك عن الواقع الذي تعيشه. تحيي فيه مجددًا الشخصيات التي قرأت عنها وتحاول أن تربط الأحداث ببعضها، فيما أنت تتذكر وبنشوة المحب صورة لبعض الأحداث وما فيها من لحظات القسوة والضعف الإنساني والطمع والجشع والغدر والخيانة والمحبة والكره والظلم والعدل والإنصاف، وتتساءل: بالفعل هل كان المفروض من "جان فالجان" مثلاً وهو بطل رواية البؤساء أن لا يقمع ذاته ويذلها في نهاية الرواية عبر تغيره الدوني المفاجئ تجاه "كوزيت", تلك الطفلة التي انتشلها من براثن اليتم والذل ورباها حتى غدت توأم روحه وبمثابة ابنته, لكنه بعد أن أيقن أن زواجها من "ماريوس" بات قطعًا حُلُم حياتها, انصاع لتلك الرغبة وقمع ذاته ومن ثم بإيثارٍ فريد ارتأى رسم مستقبلها الجديد دون ماضيه الذي رآه غير مشرفٍ لها!
قطعًا لكي تستوعب التصرف المذكور لهذا الملاك المتجسد بشخص سجينٍ فارٍ من العدالة لا بد لك أن تعي معنى الإيثار وفق الطبيعة البشرية المختلفة والمتذبذبة والمتغيرة. ففي حين هي عند البعض سمو إنساني بلا مقابل؛ هي عند آخرين تضحية في غير محلها, ومن ثم تتوقع هذه الأخيرة أن يكون تصرفها مختلفًا إن حصل نفس الموقف معها, بل إنها ترى الفضل الذي قامت به يستوجب أن يكون جزاؤه حمدًا وتبجيلاً لا نفورًا وتجاهلاً.
من أبرز ما يمكن أن تتعلمه بوصفك قارئًا لرواية البؤساء لهوجو هو أن الحظ العاثر ليس مبالغة بمقدار كونه أحيانًا واقعًا يواجهه البعض, لكنه وفي كل مرة يتجاوزه, يحضر نفسه لعقبة ٍ أخرى، لا تنتقص من عزيمته في الوصول لهدفه، الذي قد يقطف من أحب ثمار نجاحه, دون أن يستمتع راعيه بتلك السعادة الأزلية حال تحقق كل مبتغاه. فيها وعدًا عن كونها رواية اجتماعية تعرض لظروف المجتمع في الحقبة التي أعقبت الثورة الفرنسية، رؤى سياسية غير مباشرة تعرض لها الكاتب دون أن يُظهر ميلاً جليًّا لأيديولوجية على أخرى, ولجماعاتٍ مختلفة وسلطةٍ حاكمة، تنوعت بين الملكية والإمبراطورية والجمهورية, أنهكت فرنسا لتترك أثرًا واضحًا في أخلاقيات المجتمع وتصرفاته ونمط معيشته وعاداته وتقاليده, وحجم الظلم والضيم الذي عمَّ تلك الحقبة, ونال الكاتب فيما بعد حين عاش منفيًّا خمسة عشر عامًا خلال حكم نابليون الثالث، من عام 1855 حتى عام 1870.
تطرقت البؤساء لجوانب إنسانية بحتة، تحدث بها هوجو عن الحب والحرب والطفولة المفقودة والسجن, كما حفلت بمشاعر إنسانية شديدة التعقيد, كرسها الصراعٍ المرير بين قوى الخير والشر، التي مثل جزء فيها شخص "السيد تينارديه", مالك الفندق الفاسد وزوجته المتجبرة اللذان عهد إليهما بالأساس لتربية الطفلة "كوزيت" نظير مبلغٍ مالي فاستعبداها وأذلاها. أما العدالة فقد ظهرت بأكثر من نمطٍ تجلى أبرزه في مفتش الشرطة "جافير", الذي لا يرى إلا القانون أمامه، ولكن دون أن يتشبع بروحه التي قام عليها وقُنن, وبإنسانيته التي تحتمل عدم تطبيقه والتغاضي عنه في حال رأى رجل الأمن أن الإصلاح يتطلب التغاضي عن الخطأ, وتجنيب العقاب والنصح والإرشاد فقط.
في هذه الرواية سيكتشف القارئ تسلسلاً فريدًا للأحداث وربطًا لشخصيات الرواية بطريقة، قلما أبدع بها راويٍ كفيكتور هوغو. فالشخصيات دومًا تتلاقى في فصلٍ ما من سرده, لنكتشف مثلاً أن تلك الفتاة التي افتدت ماريوس بحياتها حين تعرض لرصاصة من جند الحكومة؛ هي ابنة الجشع "تيناردييه" المُدللة التي أصبحت مومسًا فيما بعد وأحبت ماريوس. فيما أخوها الصغير هو من قتل في أثناء جمعه الذخيرة للثوار, والذي وللصدفة وقبل وفاته قد وجد طفلين صغيرين تائهين فآواهما دون أن يعرف أنهما أخواه!
في البؤساء ستعي أن سطوة الظلم مهما بلغت منتهاها, ستُهزم يومًا ما من شخصياتٍ قوية الإرادة, لا تيأس حتى تحقق مبتغاها.
في الأدب وعالمه السحري, لكل قاص وأديب أسلوبه وطريقته في الكتابة، وأجمل ما قد تستفيده من أي رواية تقرأها هو ما تحلق بك فيه في عالم من التفكير الإيجابي البناء، لتفهم كينونة النفس التي كتبتها، ومعرفة سر معانيها. لكنني وللأمانة أُسطر عشقًا أزليًّا لا ينتهي بانتهاء ما كتبه كل من الأسطورتين فيكتور هوغو كأحدب نوتردام, الحب الكبير, ملائكة بين اللهب, مذكرات محكوم عليه بالإعدام, رواية عمال البحر, والكولومبي الفريد غابرييل غارسيا ماركيز؛ فرادة عزلته التي تملكت عقلونا, فتفجر عنها ثورة علمتنا أن الواقع بجفافه والسحر بخياله إن امتزجا؛ فلا بد أن ينتج عن انصهارهما رائعةً أدبية خالدة كخلود مؤلفها واسمها "مئة عام من العزلة", حركت فينا ألمًا تجدد مع رحيل كاتبها، الذي تركنا لمئة عام من الحزن والغمة على رحيله, لإدراك واقع أنه لم يعد لدي ما أقرأه له بعد أن حظيت بما استطعت إيجاده من رواياته، التي لا ينسى تأثيرها, وإن كان من لا يُنسى منها أيضًا هو رواية الحب في زمن الكوليرا، حيث الحب إلى ما لا نهاية, وتريندادا البريئة وذاكرة نسائي الحزينات وفي ساعة نحس, وعاصفة الأوراق, ووقائع موت معلن, وحكاية بحار غريق, وامرأة الساعة السادسة والحب وشياطين أخرى وعشرات القصص القصيرة الأخرى.
لكن هل هذان الأسطورتان اللاتيني والفرنسي اللذان أسراني بإبداعهما اللامتناهي وتحدثت عنهما هما سرًّا الرواية والقصة، الذي لم يتكرر لا من قبل ولا من بعد؟.......بالطبع لا, فهناك دومًا عباقرة الأدب كالروسيين تولستوي وديستوفسكي، واللذان أتحفانا بالجريمة والعقاب، وآنا كارنينا، والحرب والسلام. كما ستبقى الإنجليزية أميلي برونتي ومرتفعات هذرينج من كلاسيكيات الأدب العالمي, شأنها كمواطنيها جورج أورونيل وتشارلز ديكينز, والعبقري الأمريكي آرنست هيمنغواي, والمتصوف المبدع باولو كويلو, وليس انتهاءً بالطبع بفيلسوف الرواية اليونانية نيكوس كازانتزاكيس, الذي مزج الرواية بالفلسفة بالحس الإنساني، والبحث عن الذات ومحاولة فهم الغيبيات، كما قرأنا له في أسطورته التي لا تنسى "زوربا اليوناني".
بالفعل, هناك دومًا بقية لم تبدأ بشخصية بعينها ولن تنتهي كذلك, طالما أن للقلم عاشقًا يسطر فيه سحر كلماته, فيتلقفه قارئٌ يُقدر معنى الإبداع ويستمتع به!
 

المصدر: مجلة فكر الثقافية - http://www.fikrmag.com/article_details.php?article_id=237

الأربعاء، 11 نوفمبر 2015

مداخلة هاتفية عبر قناة ANN


مداخلة هاتفية عبر قناة ANN وحديث عن الوعي والثقافة بتاريخ 11-11-2015

 
 
 


الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=f6RVGPmVmX0

كلنا عيال قرية!

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 11-11-2015

 

 
لا يخفى عليكم أني استعرت العنوان من مسلسل جميل لنجمي الخليج العربي القصبي والسدحان عرض قبل سنوات، ما أعجبني في الاسم وإن كان جملة شائعة نرددها كل يوم وكل بلهجته الخاصة، فالمصريون مثلا يقولون "كلنا ولاد تسعة"؛ كونه حكمة عظيمة تحمل معاني سامية، لم نعد نلتفت لها ولجوهرها الثمين وإن تناولتها الألسن، وطرحتها كلما أرادت إثبات أن الجميع سواء، ولكن دون التعمق في روح هذا الأصل الإنساني الذي بتنا منقلبين عليه حين استبدلنا الأصل في الخلقة، وهو "المساواة" بالمراتب الاجتماعية والطبقية، التي جعلت الناس كما يقولون مقامات، فمنهم ابن الأصل والفصل، وابن القبيلة والعشيرة، ومنهم ابن الحضر والبادية، ومنهم من نطلق عليه "غير معروف الأصل"، لمجرد أن جده الخامس عشر لا ينتمي لأحد تلك العوائل أو القبائل المعروفة بنسبها!
 
طوال تواجدك كإنسان عربي في دولتك أو أخرى عربية، ستلحظ أن السؤال الشائع عند التقائك لأول مرة بنفر أو أحدهم هو: من أين أنت؟
 
قد يظن الغريب أن هذا السؤال طبيعي مرده الفضول البشري لمعرفة مكان الآخر ونسبه ومن أين أتى، لكن في العديد من دولنا العربية للسؤال معنى آخر، يُريد السائل من طرحه أن يستشف أصلك وفصلك وهل أنت قبلي وابن عشيرة، أم "كما يقولون" من المستعربين العرب الجدد المجنسين أو المهاجرين منذ قرن أو يزيد من أحد بلاد الله، لكن وبعد مائة سنة وتعاقب الأحفاد، ما زالت ذريته تقع في الخانة قبل الأخيرة من المكانة الاجتماعية التي تكرسها النظرة العنصرية الجاهلية وفق شجرة العائلة، التي يجب أن يكون امتداد جذورها البعيد لأحد تلك القبائل العربية الأصيلة!
 
يغضب العربي حين يسافر لأحد دول الغرب ويتعرض لموقف عنصريٍ فيها، حينها يكيل لهم التهم ويلعن ديمقراطيتهم الكاذبة وادعاءاتهم بالمساواة بين البشر، لكنه وحين يركب طائرة العودة لوطنه، وأول ما تطأ قدماه أرضها، تجده يصرخ على عامل مغترب من بلد فقير، ويشتم آخر، ويلعن ويغضب ويزبد مرددا عبارات الشكوى، بأن هذه المخلوقات القذرة نصابة وانتهازية، كما أنها غير نظيفة ولا يمكنه الوقوف إلى جانبها، ولا الصلاة بجوارها بسبب رائحتها النتنة كما يصفها، لطالما دعا في جلساته العامة وروج لفكرة أن يكون لهذا العمالة مصليات ومطاعم وأماكن انتظار خاصة بهم، حتى لا يختلطوا بالصفوة "التي يرى نفسه أحدها"، ولا يزعجوها بروائح أجسامهم التي أنهكتها الشمس الحارقة، وطبيعة أعمالهم الشاقة، بتصرفه هذا إن واجهته، حتماً سينكر تكراره لعنصرية الأمريكان مع السود، وفصلهم العنصري "الأبارتيد"، وسيردد لك متشهداً بسبابته "علامة الصدق والتقوى" أنه غير عنصري، ولكنها "علوم رجال وقبايل" ولا عيب فيها ولا تعارض حتى مع الدين!
 
للأسف وبكل صراحة: نحن عنصريون بامتياز، وطبقيون متزمتون وإن ادعينا خلاف ذلك، تجدنا نردد القول الكريم "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وحال انتهائنا منه نلعن فقراء المغتربين في بلداننا، ونستحقرهم ونطلق على كلٍ منهم لقباً يضحكنا ويسخر منهم، لكننا ومع ذلك لا نرى في أنفسنا ذاك التنطع العربي المقيت، الذي يبرر لنا تجبرنا كوننا خير أمةٍ أخرجت للناس، ولكن دون أن نعي أن تلك الأمة الخيرة التي بُشر بها واختيرت لأن تكون كذلك، هي الأمة التي تأمر بالمعروف وتعمل به، وتسعى إليه بالود والحسنى والابتسامة الصادقة، وبالمساواة دون تكبرٍ على أحد؛ وتنهى عن المنكر وتتجنبه، تعامل البشر برؤيتها لهم سواسية كأسنان المشط ولا تلتفت لأشكالهم وهيئاتهم وجنسياتهم وأصولهم وحالتهم المادية ودرجتهم الاجتماعية.
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=320292 

الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

الحزن في صوت كلماتك

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 04-11-2015

 
 
يبحثون عن الحزن ويسعون له قولا وفعلا وخيالا وفانتازيا، لكنهم حين يسقطون في براثنه تجدهم يبكونه ويولولون حظهم العاثر الذي ساقهم إليه وأوقعهم في براثنه، بعد أن كانت السعادة ترفرف بجناحيها حولهم متمنية لهم أسعد الأوقات وأهناها!
 
خطرت في بالي هذه الكلمات فسارعت لكتابتها وأنا أقرأ لأحد ممثلي التعاسة بأحد وسائل التواصل الاجتماعي جملة يقول فيها: "تشابهت أنت وقهوتي في اللذة والمرارة والإدمان"، شعرت لحظتها وكأني بالسيد العاشق حزين الوجه باكي الملامح، يرتشف قهوة المساء على بقايا ضالة من شمس ربيعية غربت لتسلم مفاتيح المساء لقمر أسكن بإضاءته جنون النهار ومرجه وهرجه!
 
أمثاله كثر من مدعي الرومانسية التي ظنوها فقط تكون وحصريا عبر اختراع شكل وحوار وحديث وكلمات وصور هيأتها العامة كآبة.
 
أتساءل وأشرككم معي في فضولي: هل نحن فعلا شعوب حزينة كئيبة بسبب الظروف والأوضاع الصعبة التي تعيشها، أم أننا ميالون للحزن وعاشقون له، بسبب طبيعتنا الإنسانية التي اكتسبتها جينياً الأجيال المتعاقبة وورّثتها لبعضها بعضا، حتى بات الغريب الزائر لبلادنا يمكن تمييزه بسهولة، وسط أمواجٍ من البشر تعلو "التكشيرة" محياها، تمشي أو تتكلم أو حتى بصمتها يبدو الغضب هو السمة البارزة على وجوهها التي لا تعرف حين تنظر إليها، هل هي غاضبة بسبب خبر حزين تلقته، أم لمشاكل عائلية أو اقتصادية أو اجتماعية وسياسية.
 
في العالم الثالث ونحن العرب جزء أصيل منه، يأبى الخروج من قاعه العتر؛ يمثل الحزن بالنسبة لنا عقيدة نفسية تميزنا عن الآخرين، في أفلامنا ومسلسلاتنا لا بد لك أن تشاهد جرعةً مفرطة من المآسي، وكميةً من البكاء والعويل والصراخ تجعلك عدوانياً غير متفائلٍ بالخير، بل وميالا لنشر جو من الاكتئاب في من حولك، لتجعلهم هم الآخرين مصدر تعاسة لمن حولهم، تستمر السلسلة اللامنتهية من الأجواء العبقة بروائح التعاسة لتظلل سماء حياتنا المعتمة الموغلة في المشاعر السلبية، لكنها لا تلبث أن تستبدلها حين يتطور الأمر بمزاجها العكر، بحالة من النقمة التي بسببها سترتكب أي مصيبة ستتسبب لها بكارثة، أو لمن يقوده سوء حظه لمواجهة أحد أولئك الغاضبين الناقمين الباحثين، وكما يُقال شعبياً عن "شرّ للبيع".
 
في الأفلام مثلاً، لا متعة لمشاهدة لهفة العشاق إلا بكمية من المرارة والمصائب التي تسبقها، وتقف في طريقها لدرجة أن نشوة مشاهدة الحبيبين منتصرين في النهاية كالعادة، تتعدى نشوة مخمورٍ أفقده سكره كل وعيه وإدراكه، فقام من مكانه ليكسر ويحطم ويعبث بكل ما حوله مثيرا فيها أجواء إعصارٍ لم يبق ولم يذر!
 
لماذا بات الحب لدينا هو التلذذ في العذاب، ولم هو تجسيد لسادية فان جوخ التي لا أعدها إيثاراً، وذلك حين قطع أذنه وأهداها لحبيبته لعدم مقدرته على تقديم شيء لها بسبب فقره.
 
في الأفلام العربية القديمة والحديثة منها على السواء ستجد الحبيب أو المحبوبة في لقطة لوعٍ شارد الذهن تعيسا حزينا لا يقوى على الأكل ولا الكلام، تائها في ملكوت جنون الرفض والمصاعب التي تواجه حبه، يتزامن العرض مع موسيقى جنائزية وأغانٍ موغلة في تقطيع الذات؛ للدرجة التي سيشعر المشاهد لها أن الدنيا قد ضاقت به، وليس من حلٍ أمامه للخلاص من تجبرها سوى أن يقفز من شرفة منزله في الطابق العاشر، يتخيل أثناء سقوطه "الذي لن يستغرق دقيقة" أنها ساعات من شريط حياةٍ كله شرور، سيخلصه منه رصيف سيحتضن لحظاته الأخيرة، يتخيل أثناءها ويتلذذ ماذا سيقولون عنه، وكيف ستبكيه "الصبايا"، وكيف سيلحقن به مكرراتٍ نفس التجربة، سرب من فتيات أدماهن انتحاره، وكيف ستتوقف ساعة العالم، وكيف سيتغير الكون بمن فيه ليقضوا أيامهم حزانى معتكفين في مغارات الصحاري والجبال وكهوف العالم الآخر!
 
ما لم تصوره تلك الأفلام التعيسة والروايات المضللة التي أفسدت عقول شبابنا وبناتنا هي أن العالم لن يلتفت لذلك المحب الأحمق، أو تلك العاشقة المتيمة الفاقدة لحس الإدراك بين الخطأ والصواب. لن يكون لهم ذكر، ولن تسطر أقلام الكتاب قصة هواهم، كما سردوا لنا من قبل ذكرى قيس وليلى أو طرفة ابن العبد ولا حتى روميو وجولييت، هو أو هي الخاسر في رحلة ظنوها خالدة بما فيها من تعاسة وحزن لا قيمة له أبدا، فقصور تفكيرهم قادهم لعكس معنى الحب، الذي من المفترض أن يكون سببا لسعادتنا لا لشقائنا؛ ولفرحنا لا لحزننا، ولتمتعنا لا لغمنا.
 
الحزن صفة إنسانية تمس المشاعر وتتفاعل مع الأحداث، لكنها ليست لزاماً لمن أراد أن يهوى، ولا هي ميزة تضفي هالة من الجاذبية على الشخص، الذي لن يكون مديحاً له أن يصفه الآخرون بالرجل الغامض أو الحزين، بل على العكس، سيتجنبه العديد وينأوا عنه، فالناس لديها ما يكفيها من المشاكل، وتطمح لابتسامة وضحكة أكثر من تكشيرة تبعث في النفس أجواءً من الحزن والكآبة.
 
ملاحظة: كتقليدٍ عربي أصيل، أُقر أنني قد كتبت هذه المقالة على وقع موسيقى وأغان حزينة جداً جداً!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=309024

الخميس، 29 أكتوبر 2015

التعليم رسالة وليس وظيفة فقط

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 28-10-2015

 
 
أكثر ما أثار رعبي في أحلامي حين تخرجت من الثانوية العامة هو أن أدرس تخصصاً يكون مآلي فيه أن أصبح مدرسا بعد تخرجي، فمجرد أن أتخيل نفسي واقفا أمام نفر من الطلبة كان كافيا ليبث في نفسي اشمئزازاً مخيفاً لما قد يُصبح عليه حالي، وأنا أكافح وأنافح للسيطرة على ضجيج طلابي الذين فقدوا حس التعلم، واستبدلوه بغوغائية أجهزة الأمن السلطوية، حين تقمع مظاهرة وصفوا أفرادها السذج من أقاصي الريف أن القائمين عليها إما شيوعيون كفرة أو إسلاميون متطرفون!
 
هذه العقدة التي بت أتذكرها نادما لمصير أولئك المشاغبين من الطلبة، ومما سيؤول إليه حالهم لو مارست ديكتاتوريتي عليهم، دون أن أخشى دليلاً يدينني صوره طالب آخر ناقم بكاميرا جواله، فأيامنا تلك كان أقصى تكنولوجيا متوفرة هي لعبة "أتاري ساجا" بأشرطة، كانت تشكل هي ومتابعة "غرندايزر" أقصى لحظات متعتنا الطفولية، إلى جانب كرة القدم في الحارة التي تبدأ بعد العصر وتنتهي مع أذان صلاة المغرب، التي لم تكن بذاتها ما يوقفنا عن اللعب بمقدار رؤيتنا لسيارة الهيئة تقترب منا، بعد أن لاحظت عدم توقفنا عن اللعب وأداء الصلاة، أتذكر كنا نضع طرف الثوب في فمنا وننطلق كالغزلان حتى لا يُقبض علينا، فينتهي بنا الحال في خزيٍ مجتمعيٍ نوصف به "باللا مصلين"، في تلك السن المبكرة، كنا نحسن فن المناورة والاستخباء والنفاد بجلدنا سالمين دون أن نتعظ، فنعيد في اليوم التالي الكرة ويتكرر مشهد الكر والفر، إلا أنه وكما يقول المثل الشامي "مش كل مرة تسلم الجرة"، كنا نلاقي عقابا أشد غلظة في المدرسة، فبعد أن تضعف نفس أحدنا ويستسلم للخوف تارة أو يتملق للمدير بأخرى، كان يشي بنا من كنا نسميه "دبوس" أي مخبر، وفق المصطلح الأمني العربي، فبعد طابور الصباح يُنادى على أسماء تلك الزمرة من الطلبة، فيعي الجميع أن لحظة العقاب قد حانت، يُسار بهم لمكتب المدير الذي يلوح بالخيزرانة في الهواء، فتحدث صوتا لا يشبه موسيقى "الهارمونيكا" الزجاجية بشيء، وبعدها تبدأ الحفلة التي تحمر بها الأيدي الغضة، دون أن تدمع أعين أي من المذنبين، فذاك عارٌ مجلجلٌ سيلحقه لو افتضح أمره، وأشد وطأةً عليه من أن يعرف أحد الطلاب في المدرسة اسم أمه أو أخته فيناديه به، فيوصم بالخزي الذي يضطر بسببه إلى العراك والاقتتال طوال الوقت.
 
قديماً، كان للمدرس سطوة يمارس بموجبها أسلوبه التربوي الذي يراه مناسباً دون رادع، فمن الكف على الخد، لما يسمى "الفلكة"، حيث تُضرب الأقدام بعصا "الخيزرانة" آنفة الذكر، إلى الرفع من أعلى طرف الثوب من الخلف، والقذف بالجسد تجاه "الصبورة" لحل مسألةٍ حسابية سيخترع لها حلا، حتى لو لم يعرف أملا أن يخف عقابه الذي لا يستبعد أن يكون ركلة بقدم الأستاذ، أو لكمة على الظهر الصغير بقبضة اليد (بُكس) تنقله مباشرة لأن يتقمص دور جنديٍ فرنسي أثناء الغزو الألماني لبلاده في الحرب العالمية الثانية، وهو يصرخ أمام سارية العلم مرددا لفيلسوف فرنسا وأديبها وشاعرها المقاوم لويس أراغون "لست منهم"، ومنشداً أبياتا من قصيدته الأولى القائلة:
 
لأن لحمي الآدمي ليس بفطيرة.. حتى يقطع بالسكين.
 
بكل صراحة لم أر في أغلب دولنا العربية تجربةً تعليميةً تُثلج الصدر ولا تُثير الجدل، فنحن إما قُساة في التعليم لا نعرف إلا الضرب كأسلوب تعليمي، أو متساهلين متراخين كما شاهدنا في مسرحية "مدرسة المشاغبين"، أما لو حاولنا اللحاق بركب دُعاة التجديد في التعليم؛ فللأسف نحن مقلدون، نطبق أنظمة بلا روح على طلبة بلا رغبة في التعليم وبعضهم مجبرون.
 
التعليم أولا وقبل كل شيء المهنة التي يجب أن يعمل بها فقط النابغة المؤهلون من الصفوة، كما يحدث مثلا في اليابان وفنلندا، فمن متطلباتها دراسة أكاديمية تربوية قاسية، ومتابعة مستمرة تضمن أن من يحصل على رخصة المعلم فيها قادرٌ على التعامل مع جيل سيكون دعامة حاضر ومستقبل وطنه، جيل من الطلبة ستكون المدرسة بالنسبة لهم فسحة العقل وتمدنه وثقافته وعلومه. هي المكان الذي يتعلم منه ما يؤازره لخوض مستقبله، وهي المكان الذي يكون فيه شخصيته، ويكتسب أصدقاء جددا، ويرفه فيه عن نفسه، ويختار مهمته في الحياة وأهدافه، هي المكان الذي يستيقظ صباحا ممتنا للحظة التي ساقته إليها، يدخلها مُبتهجاً ولا يغادرها إلا بأملٍ في غدٍ قادم يسوقه إليها، أستاذه فيها يشرح المادة بحب وشغف، يقيّم قدرات طلبته ويوجههم، ويحاول دوما إرشادهم لاتخاذ قرارهم بأنفسهم وبقناعةٍ منهم، لا اقتيادهم لجادة العلم والمعرفة رغماً عنهم وبالقوة!
 
لو كان هذا الحلمُ الموغلُ بالتفاؤل نمط التعليم في دولنا، لتحولنا كما سبقنا الآخرون لدرب الحضارة التي لا تجد فيها مدرسا يضرب تلميذا بعنف، أو طالبا يتنمر على أستاذه، ولأصبحنا كمحصلة أمةً مثقفة وأخلاقية قويمة، نقارع الأمم الأخرى في الريادة والإنسانية والتقدم والاستمتاع بدنياها وحاضرها، الذي لا ينسيها أبدا مستقبلها، الذي ستحياه أجيال أخرى تسير على الدرب نفسه، هو درب لا نرى فيه المدرسة تربي العقد لدى أبنائنا وبناتنا، وتنشئ جيلا معقدا ملوث الفكر، يستغله المتطرفون دينيا وفكريا، بل يجد فيه المجرمون معززا لإجرامهم، ومسوقا لبضاعتهم وإدمانهم وفسادهم وانحلالهم!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=307798

الأربعاء، 21 أكتوبر 2015

ديمقراطيات الربيع العربي الثائرة!

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 21-10-2015

 
 
 
أتساءل أحياناً - وإن كان الحال سابقاً بالنسبة لي - أكثر من الحاضر: لو فعلاً أمطرت السماء حرية المواطن العربي المنشودة، فهل سيتلقفها أم سيرفع المظلة خوفاً منها حتى لا يصيبه رذاذ مطرها أو بردِه..!
 
ربما بات هذا التساؤل لي أكثر إلحاحا بعد موجة الربيع العربي المنصرمة، ومشاهدات مآلات الثورة على أنظمة حكمٍ جثمت على صدور شعوبها عقودا، حتى بات المُشاهد لها من الخارج قطعاً يحكُم عليها بالنائمة في سُباتٍ لن تفيق منه، لكنها وفي تناقضٍ فاخر لا يحدث إلا مرةً أو اثنتين كل قرن؛ نفضت عنها غبار السنين المُعتق بالخوف واليأس والذعر، وانتفضت على نظام الحكم السائد باستبداده الذي أصبح واقعا تعيشه، وغيرته لحكم الشعب الذي لم يستطع بعد أن أدركته الصدمة أن يؤسس لدولة القانون والإنسان، دولة العدل والحرية والإخاء والمساواة.
 
تحولت الدول لساحات حرب لم تنته حتى اللحظة بين الإخوة الأعداء المتعاونين سابقاً، ومعهم أنصار الأنظمة السابقة في مفارقةٍ عجيبة، استقطب كلٌ فيها فئات من الشعب فناصرته وآزرته، وشكلت الداعم الشعبي له ولبقائه، اقتتل الجميع وتفرقوا لشيعٍ وأحزاب وجماعات، فخرج من القوم من يترحم على النظام السابق الذي ثار عليه ويتمنى عودته، بعد أن تحولت الأحوال في البلاد لاقتتال بغيض، دمر المنازل والاقتصاد وأنهك العباد، وهجر منهم أكثر ممن فروا خوفا من بطش الأنظمة السابقة، وطلبا للملجأ في دول أخرى بعيدة عنه سعياً لحياة آمنة ومستقرة.
 
بالفعل ما جرى في دول الربيع العربي يجعلني أوقن أكثر أن الساعة الأكثر ظلمة هي الساعة التي تسبق غروب الشمس، وبمعنى آخر هي التي يكون الكيل فيها قد فاض لحدٍ أشعل فتيلا للانفجار الشعبي المطالب بالتغيير، لكن الحقيقة الناقصة في هذا القول التي لا يجب اجتزاؤها منه، هي أن شروق الشمس لا يعني شمس الربيع المُشرقة والمفعمة بالأمل والجمال؛ ما لم يسبق الشروق أيضا ثورة فكرية إنسانية أدبية ثقافية أخلاقية تُعيد تربية المواطن وفقها، وتؤطر لمجتمعٍ عقلاني أخلاقي يؤسس لسياسات وقوانين ما بعد التغيير.
 
تيار التغيير العربي المستعجل لقطف ثمار الحرية، يستشهد بالثورة الفرنسية التي حاربت نفسها لتشق طريق الحرية، وتؤسس لشعارها القائل: الحرية والمساواة والأخوة؛ متناسيا أن هذه الثورة رغم أن البعض يطلق عليها بالعظيمة، هي أحد أكثر من تسبب في القتل على الهوية، وبتصرفات مشابهة لمحاكم التفتيش الكنسية التي ادعت الانقلاب عليها، هي ثورة قُتل فيها وبوحشية وعُذب وأُحرق وصلب كل معارض للتيار السائد، هي الثورة التي ألغت الملكية للجمهورية، لكنها نبذتهما واعتنقت الامبراطورية التي ألغتها لحساب الملكية مجدداً، ثم انقلبت عليها فيما بعد وأعادت اعتناق الجمهورية، بعد أن أسالت مئات الآلاف من أرواح مواطنيها بسادية قلما وجد لها في التاريخ نظير!
 
في المقابل آمنت دول غربية أخرى بأن الديمقراطية وشعارات الحرية ليست كسهولة الدعوة لها، فتمهلت في اعتناقها بعد أن أدرك مثقفوها أن من الواجب عليهم تأسيس مؤسساتها أولاً، تلك التي لن تقوم لها قائمة إلا بثورة شعبية فكرية تسبقها، يُعاد فيها تأصيل المفاهيم والقيم الحقة بين جميع فئات الشعب، الذي سيُثمر إعادة تأهيله في أن يكون بعد الثورة حامي قيمها، لا الجيش فقط وقوات حفظ الأمن والنظام، التي يسهُل تجييرها لفئةٍ على أُخرى، في حال سيادة ثقافة الاستقطاب السياسي المصلحي المبني على المذهبية والقبلية والطبقية، كما جرى في أكثر من بلد عربي طلب التغيير فحصل عليه اسما لكنه يُعاني من ويلاته الآن.
 
في الدول المتحضرة، كلما زاد الوعي الشعبي زادت الحرية وتأصلت الديمقراطية، وكلما زاد الوعي السياسي للنخب زادت فرصها في القيادة والانتخاب، أما في الدول المتخلفة فكريا: فكلما زاد الوعي الشعبي الإنساني والسياسي النخبوي زادت فرص الاعتقال والاغتيال!
 
حقيقة لا بد أن يعيها أي شعبٍ طامع للتغيير، هي أن الثورة التي تبدأ وتنجح بحظ المبتدئ؛ حتما ستنتهي باختبار الفشل، وهذا ما حصل في خريف العرب الغابر لبعض دوله الطامعة في الحرية والتغيير!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=306269

الاثنين، 19 أكتوبر 2015

مشاركة في تقرير صحفي مع صحيفة سبق الإلكترونية بعنوان: بيان "داعش" يثير التكهنات

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في صحيفة سبق الإلكترونية 18-10-2015

 

 
بيان "داعش" يثير التكهنات.. وسياسي لـ"سبق": إيران تسعى لاستحلال الخليج
 
بدر العتيبي - سبق - الرياض: أثار بيان جماعة "داعش" الإرهابية، الذي أصدرته بعد العملية التي استهدفت حسينية بالسيهات أمس الأول، وأسفر عن مقتل ٥، من بينهم امرأة، وإصابة ٩ آخرين، ومقتل منفِّذ العملية، العديد من التكهنات.
 
وفور انتهاء العملية أصدرت "داعش" بياناً، تبنّت فيه العملية، وأكدت أن العملية استهدفت تجمعاً في القطيف "بولاية البحرين". ولم تهدأ التحليلات عن سر ذكر القطيف في البحرين، وتزايدت التحليلات حول ذلك.
 
وقال المحلل السياسي والكاتب المختص بالشأن الإيراني عماد العالم رداً على استفسار "سبق": "القطيف أيام الخلافة الإسلامية كانت جزءاً من البحرين، وداعش تزعم أنها ستعيد الخلافة؛ لذا قالت القطيف بالبحرين".
 
وأضاف: "لا شك أن ذلك يخدم مصالح إيران لتقسيم المنطقة؛ فهي تسعى لتقسيم الخليج، وهي كذلك ترى أن البحرين ملك لها؛ فتسعى لتمزيق الخليج، واستحلال البحرين والخليج بتحريك خلاياها النائمة". وتابع: "داعش يخدم جهات عدة، منها سوريا وإيران، وهي منظومة مختَرَقة على مستوى القيادات. أما العديد من أفرادها فهم من صغار السن قليلي التجربة في الحياة والمتحمسين بجهل لخطاب ديني استقطابي، يدغدغ العاطفة الدينية الغضة لدى هؤلاء الفئة من الشباب الطامح لدخول الجنة عبر القتل والإرهاب". وزاد: "هذا الخطاب صور له بالجهاد في سبيل الله، ولأجل إقامة الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة (وهو براءٌ منها بالطبع). كما عمدت داعش في الفترة الأخيرة إلى بناء منظومة جديدة في الإرهاب عبر تكوين خلايا نائمة صغيرة في السعودية والخليج العربي".
واختتم: "هذه الخلايا لا يزيد أعضاؤها على ثلاثة أفراد، وقائد لها ليس على اتصال بالقيادة المركزية، ومطلوب منها تنفيذ أهداف غير نوعية دعائية أكثر من كونها ذات أهمية استراتيجية عسكرية. ولماذا لا نرى عمليات في دول الكفر وإسرائيل، خاصة أنهم في شعاراتهم وخطاباتهم الإعلامية يهددون إيران وإسرائيل؟ لكن ما نراه هو عبث واستهداف للسعودية بالتغرير بصغار السن". 
 
 

المصدر: صحيفة سبق الإلكترونية -http://sabq.org/IAJgde

الأربعاء، 14 أكتوبر 2015

حرية الفكر والاعتقاد والممارسة

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 14-10-2015

 

 
على طاري وذكر "الحرية الغربية" التي يلهث خلفها عرب الشمال والجنوب، وكل الاتجاهات بغنيهم وفقيرهم، متعلمهم وبسيطهم، سأروي لكم حكاية حقيقية رواها أحدهم، وللأمانة لا أعرفه وأنقلها عنه إيماناً مني بأنها واقع، وتحصل في كل يوم ألف مرة؛ عن لاجئين عربيين هما عراقي وسوري، كانا من ضمن خمسين آخرين من نفس الجنسيتين، تقاسموا قاربا متهالكا سار بهم عبر دروب مياه المتوسط الغاضبة التي ابتلعت الآلاف قبلهم، وكادت تهلكهم أكثر من مرة، أحدهما سني المذهب والآخر شيعي بالطبع، في تكريس لم تسقه الصدفة لكي تكتمل فصول المؤامرة والحقد الطائفي الأعمى الذي بطش بسكان الدولتين، ولايزل يفرقهم.
على ذمة الراوي، ما لبث العراقي منهما بعد أن أنجاه الله سبحانه وتعالى من الغرق، وبعد أن وطأت قدماه أرض جزيرة يونانية، حنت عليهم فاستقبلتهم؛ أن تعالى صوته ما يدل على غضب عارم مفاجئ أصابه، واسترعى انتباه من حوله، تحدث باستهجان لزميله العراقي الآخر الذي يبدو أكثر عقلانيةً قائلاً: هذا السوري (يقصد من كان مجاوراً له في قارب الهلاك) لا يُريد أن يقتنع أو يفهم أن أبا بكر اغتصب الخلافة من علي! 
زميله الذي صدمته رعونة القول البادرة ممن نجا حديثا من الموت غرقا، كالعديد ممن سبقوه من مهاجري القوارب الخربة؛ خاطبه بأن يخفض صوته حتى لا يسمعه أحد، وعليه بحمد الله على سلامته، فما كان من المهاجر غير الشرعي العراقي الطامح في اللجوء لأرض الغرب، أن قال له: "لا يا بابا هذي أوروبا، أحكي اللي تبيه!". 
هنا تنتهي القصة التي لا أظنكم بحاجة لمعرفة نهايتها، وأؤكد لكم رغم عدم علمي لها أنها لم تنته بعناق وقبلات عربية متصالحة، فمثل هذا الفكر الذي تحدث به ذاك المذهبي المتعصب، لم يولد ليموت وينتهي ويتبخر على تراب حرية الغرب المتمدن، ولا سينتهي باقتناء صاحبه جواز سفر أوروبيا مطرزا بالصليب، يشير إلى أن كل جيش دولة حامله مستعد بالتضحية بروحه في سبيل سلامة حضرة اللاجئ العربي سابقا، الأوروبي حالياً، الذي أكثر ما استفاد من التجربة الجديدة في الحرية، هو في أن يمارس كهنوت الحقد الذي ربي عليه، ولكن وفق الأساليب الديمقراطية المستجدة، وبدلاً من السلاح والتفجيرات والاختطاف والقتل الممارس في بلده الأصلي، تحت سمع وبصر الدولة، وبرعاية مقدسة من رجال دين وضعوا الجنة والنار بأيديهم، فانساقت لهم العامة المغيبة واستسلمت لأوامرهم اللاهوتية! 
حتى الحرية، وهي الثمن الباهظ الذي دفعته أوروبا مزيجا من دماء شعوبها وأرواحهم وأموالهم، بعد أن وعت الدرس وقررت ألا يعيش أحفادها ماضي أجدادهم الدموي؛ أصبح المهاجر العربي الذي يسمي نفسه مضطهدا كي يترك بلده يسيء استغلالها، ويجيرها لما يخدم أحقاد عقيدته الباطلة، التي مارس بسببها إرهابا غير مسبوق ضد أخيه المواطن من نفس البلد، ولكن من طائفة أخرى، صدف أن تبادل كلاهما التكفير والتضليل، فهبت جموع الأتباع العمياء تستجيب لفتاوى إهدار الدماء!  
حضرة المهاجر حديثاً أول درس أراد تطبيقه، هو أن يمارس حقه الديمقراطي عبر الحديث بما يريد دون أن يخشى اللوم على ما قال، والعقاب على ما بدر منه، فحرية القول والجهر به كفلته دساتير الغرب المتمدن حتى لو أسيء للأديان والمعتقدات والمقدسات عدا السامية بالطبع، التي لا يمكن الإساءة لها إطلاقا. 
الحرية بمفهومها العام نعمة، لكنها وللأمانة وحين يمارسها الأحمق والجاهل والمتعصب والطائفي تصبح نقمة ولعنة يتأذى بسببها الآخرون، كما رويت لكم سابقاً في حادثة تتعدد أشكال ترددها، وفي الأغلب من مهاجري دول العالم الثالث، الذين تأصلت لديهم عقد الاضطهاد والقمع من دولهم، فنقلوها معهم ومع إرادتهم لملاجئهم الجديدة، ومارسوها ضد بعضهم بعضا، مؤكدين مقولةً تحدثت سابقاً عن عبدٍ منحه سيده صك حريته، فأبى أن يأخذها وأصر على التفاوض معه على البقاء عبداً له، ولكن مع تحسين شروط عبوديته!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=304947

الأربعاء، 7 أكتوبر 2015

"دده.. أُفه.. يا بابا"

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 07-10-2015

 
 
أتمنى أن تقوم جهة ما ويفضل- حسب رأيي- أن تكون غير رسمية ولا حكومية (للشفافية)؛ باستفتاء بين الأسر حديثة العهد وقديمه بالأطفال، لاستطلاع أولى الكلمات التي يتعلمها صغار العرب والأجانب "الخواجات"، حين تبدأ فطرتهم في الإيعاز لهم بالحديث، ليكون الاستطلاع للفئة العمرية ممن هم على أبواب السنة الأولى من عمرهم وحتى ثلاث سنوات، ويركز على أولى الكلمات التي ينطق بها الطفل غير الأسماء، ويجب أن يشمل الاستطلاع جميع شرائح المجتمع الفقيرة والمتوسطة والمتعلمة والغنية ومحدودة الثقافة. 
قد يقول قائل: لا حاجة لذلك فالنتيجة معروفة سلفاً، فنحن العرب متخلفون ولا نحسن تربية أبنائنا، ولدينا مشكلة متأصلة في اللاوعي لدينا، تمنعنا من أن نربي الأبناء على الفضائل (رغم زعمنا) التي إن قارناها بالغرب سنجده يزرعها في نشئه منذ الصغر، فيربيه على مبادئ الإنسانية والأدب والأخلاق والاحترام، والقول الحسن وووووووو. أصحاب هذا القول هم بلا شك من جماعة "جلد الذات العربية" الموغلون في النقد غير البناء، الذي هدم أكثر مما عمّر، وعلى غرارهم سيهب آخرون لإثبات ضلال أيقونة الغرب "الكافر المزعومة" والمنحلة أخلاقيا، التي ترمي أبناءها خارج المنزل حين يبلغون عامهم الثامن عشر، وسيرددون على المسامع ليثبتوا لنا ما اعتادوا تكراره هم ومن سبقوهم؛ نفس الأدلة والعبارات مستشهدين بقول فلان العالم العلامة، الذي وصفهم (أي الغرب) بأكلة لحم الخنزير الضالين المُضلين، والأجدر مخالفتهم في كل أمر، وعدم الاقتداء بهم كونهم الشر المطلق، ولكن دون أن يقدم القائل بالمقابل نموذجاً يُقتدى به! 
بصراحة وأتحمل وزر ذلك، كلا الفريقين هما الأغلبية العظمى الممثلة لمجتمعاتنا العربية، دون أن يتوسطهما ما هو بين هذا وذاك،أو عقل يُحَكّم ويُعمل به في النقد والثناء! 
أطفالنا ووفق ما لاحظت حين ينطق العديد منهم؛ يبدأ بالشتيمة وكلمات النهي والزجر، حتى إنك لن تستغرب أن بعض الكلمات أصبحت قاسما مشتركا بين مختلف أطفال العرب من شتى الجنسيات، فكلمة "أوفه" و"كخه" و "دده" أصبحت عالمية يتعلمها الطفل قبل أن يتعلم الابتسامة. يبدأ حياته بالمحاذير والنهي، فيكبر وقد تشبع عقله الباطن بما عليه الامتناع عنه، قبل تعلمه لما عليه الاستمتاع به!
 كم مرةً صادفنا في جلسة أو الطريق أو في السوق والدا أو أما تجر ابنها من أطراف ثوبه، أو تكاد تخلع أذنه وهي تمطره بعبارات "يا حيوان، يا كلب، يا مجرم، يا قليل الأدب"، والغريب أن الطفل منصتٌ مذعنٌ دون بكاء أو استنكار، فقد تعود على ذلك، وشعر بأن منهج الحياة في كنف أسرته قائم على التعنيف أمام الخلق، سيكبر الطفل حينها وسيكرر ما فعله به والداه، ظاناً أنه الأسلوب الأمثل للتربية! 
بأيدينا نصنع أطفالاً متمردين على كل القيم، وبأيدينا ننتج جيلاً منهم مهزوز الشخصية فاقد الثقة بنفسه، يحيا وسط المحاذير التي تأصلت في ذاته، ولكننا أيضاً بأيدينا إن رغبنا فسنربي جيلاً خلوقاً دمثاً سوي الشخصية، كينونته وأخلاقه وسلوكه نابعٌ من تطبيق عملي صادق للقول الكريم "الدين المعاملة"، ودون أن نستورد تجربة الآخرين ولا ليبراليتهم ولا حداثتهم، فعندنا ما يكفينا من النهج النبوي الكريم الذي تجاهلناه فخسرنا!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=293512

الخميس، 1 أكتوبر 2015

قمع الحرية بجهل الأبرياء

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 30-09-2015



"مُنتهك للكرامة الإنسانية"

يقول قائل: هي جملة يجب أن تكتب في "كارنيه" وبطاقة كل رجل أمن تعدى على إنسان أيا كان عرقه ودينه وانتماؤه، وحتى لو كان من أعتى المجرمين، إن كان المُعتقل على خطأ أو مجرما عتيدا، فالأولى حينها تطبيق القانون بحرفيته التي قام عليها وقُنن، وبإنسانيته التي تحتمل عدم تطبيقه، والتغاضي عنه في حال رأى رجل الأمن أن الإصلاح يتطلب التغاضي عن الخطأ، وتجنيب العقاب والنصح والإرشاد فقط.

خوفي من عقدة الخواجة وأن أوصم بها عامة، تردعني عن مقارنة الحال بالغرب المتمدن، الذي في أغلبه لا يشاركنا الدين ولا العرق، لكنه تجاوزنا بعقود فيما يخص كرامة الإنسان وحريته وقيمته وإنسانيته، ليس لكونه ولد من ماء مقدس، وتربى على أيدي القديسين والفضلاء، ولكن لأنه عانى من حروب أهلية وإقطاعية وظلم اجتماعي مثلنا تماما، لكنه قرر في النهاية أنه لن يقبل بأن تعيش أجياله المستقبلية حاضره وماضيه الغابر، فيما نحن والحديث هنا ليس عن العرب فقط، وإنما عن كل العالم الذي يوصف بالثالث، الذي اقترن الحكم فيه بالنخبة الديكتاتورية، التي أصبح ببعضها وراثيا رغم جمهورية الدولة، وبأخرى وفق منظومة ديمقراطية مزعومة، تزور بها الانتخابات خلف عدسات الكاميرا، وينتخب بها الموتى مرشحهم الأوحد، لتكون النتيجة إعادة انتخاب من كان على رأس السلطة!

أسترجع معكم كتابات للراحل مصطفى أمين وذكرياته مع السجون في سنة أولى سجن وحتى الخامسة منها، قرأتها في العشرينيات من عمري، استيقظت وقتها على واقع أن قوميتنا العربية، التي كنت على وشك الإيمان بها، قد قامت أساسا على مبدأ التعذيب وانتهاك آدمية الإنسان بوحشية تستغرب أنها تصدر من ابن البلد نفسه!

يقول أمين في كتابه (سنة أولى سجن):

"دخل الفريق حمزة بسيوني قائد السجن الحربي إلى الزنزانة التي كانوا يعذبونني فيها في سجن المخابرات.. ووقف يتفحصني وهو يراني عاريا تماما، وأنا مصلوب على جدار الزنزانة، والضربات والصفعات تنهال علي، وثلاثة من الضباط ينتزعون شعر جسدي.. ثم قال الفريق: لا.. لا.. لا.. أنتم تدلعونه هنا، هاتوه لي في السجن الحربي ليرى التعذيب الحقيقي!".

في فيلم البريء الذي أنتج ثمانينيات القرن المنصرم، والمستوحاة أحداثه من الاضطرابات التي عمت مصر 17 يناير 1977 عقب قرارات الحكومة التقشفية حينها، وقاد الشارع فيها الشيوعيون والناصريون، سمعنا غناء السجناء في العنبر وهم يغنون "محبوس يا طير الحق"، كما شاهدنا سادية مأمور السجن وإجرامه ووحشيته ومن تحته من ضباط، وتفننهم في إذاقة المعتقلين السياسيين أقسى أنواع العذاب، على يد عساكر ومجندين تم اختيارهم من مناطق بدائية وأميين منفذين للأوامر بحرفيتها ومن دون تفكير، مؤكدين على المبدأ الذي تنتهجه السلطات والقائل: "قمع الحرية بجهل الأبرياء".

دوليا، أقرت 147 دولة ووقعت على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، الهادفة إلى منع التعذيب في جميع أنحاء العالم، والملزمة لأعضائها باتخاذ تدابير فعالة لمنع التعذيب داخل حدودها، وحظر إجبار أي إنسان على العودة إلى موطنه، إذا كان هناك سبب للاعتقاد بأنه سيتعرض للتعذيب فيه، تكريما للاتفاقية، يعد الـ 26 من يونيو كل عام اليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب.

لكن يبقى التساؤل قائماً رغم كل ما سنّ من قوانين: هل نجح العالم في الحد من هذه الظاهرة اللاإنسانية؟ وهل اختفى التعذيب؟ وهل سنصل يوما إلى تأصيل مفهوم كرامة الإنسان أيا كان انتماؤه ودينه وعقيدته، وأيا كان مختلفا عن الآخر المعارض له والمختلف معه؟.. أتمنى ذلك مع يقيني بأن الطريق أمامنا ما زال طويلا جدا جدا جدا!


المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=252122

الأربعاء، 16 سبتمبر 2015

سنابي وسنافي!

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 16-09-2015



رغم الفرق الشاسع بين الاسمين الأول والثاني في العنوان، إلا أن كليهما كشفا سوءات البعض منا، وإن كان البعض الذين أشرت إليهم هنا هم نسبة كبيرة من الشعوب العربية المتعطشة لاستخدام كل ما هو جديد ومتاح حالياً، وربما ممنوع أو مُخجل سابقا، ويتم التعامل معه وبه بسرية مطلقة كبنود اتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية!
 
نحن الذين كنا إن نظر شخص ما في الشارع لما نلبسه أو نركبه أصابنا الذعر والخوف الشديد من العين التي قد تصيبنا بما نُبتلى بسببه؛ أصبحنا نشارك لحظات حياتنا وتفاصيلها كل يوم وساعة، إن ذهبنا في رحلة أو زرنا صديقاً أو اجتمعنا في مطعم مع العائلة والأصدقاء؛ ستجد بالتأكيد الحضور رجالاً ونساءً وأطفالاً كلٌ مطأطئ الرأس تارة، وأخرى يصور ما حوله وطبقه وفنجان القهوة وكأس الشاي، وربما حتى الفاتورة وما يدفعه من بقشيش؛ ويرفعه مباشرة على "سنابه" و"إنستغرامه" ليشارك به العالم أجمع من يعرف ومن لا يعرف!
 
الغريب أن فوبيا العين والحسد التي يعاني منها الكثير من العرب حتى عّد ذلك أهم مسبب لكل ما يصيبهم؛ لم تؤثر فيهم أو تمنعهم من استخدام برامج المشاركة الفورية للصور والفيديوهات كسناب شات مثلاً، مع أنها (أي البرامج) ستعرّضهم لو فكروا في الأمر بجدية لمئات "العيون" الخارقة المُضّرة التي ستتسبب لهم بمصائب وبلاوي وفظائع هم في غنى عنها، لو لم يستخدموا مثل هذه البرامج، كما ستعفيهم من زيارة القراء وأصحاب الرقية المنتفعين ماديا من ممارسة هذا المهنة، التي تحولت من أجرٍ شرعي نتقرب فيه إلى الله عز وجل عبر مساعدة الآخرين، إلى مصدر دخل يبني الفلل ويوفر متاع الحياة الدنيا من سيارات ونساء وسفريات ووووووو.
 
للحق المجتمعات العربية ليست ملائكية ولا هي وبسبب عروبتها وانتمائها الديني يُطلب منها أو يُفترض عليها ما ليس على الأمم الأخرى، كما أن من حقها أن تستمتع بالحرية التي توفرها لها وسائل التواصل الاجتماعي؛ لكن ما ليس من حقها هو أن تدعي الكمال وتصنف الآخرين على أساس ذلك، هذا أولاً وثانياً: هو انكبابها بشكل غريب على كل تقنية تصلها، فتسيئ استخدامها وتحولها من أداة للاطلاع والمعرفة والترفيه والتثقيف إلى وسيلة للفشخرة والمظاهر الكذابة، التي يُراد منها إبراز غنى البعض وثروته ووجهاته الدنيوية وسلطته!
 
في البر والبحر والجو جوالاتنا مستنفرة، وكاميراتها مستخدمة تصور وتوثق ما حولها، لا للاحتفاظ بها كذكرى جميلة وإنما للاستعراض، حتى باتت تصرفات "الفشخرجية والمتفشخرات" مسيئة للآخرين، ومشوهة لحدائقهم ومتنزهاتهم ومواقعهم السياحية وملاذهم للمتعة، فبتنا نرى عربا يمارسون هواية "الهش والنش"، أي الشواء حسب المصطلح الشامي في الهايد بارك بلندن، فيما آخرون قد وضعوا فرشاتهم بجوار برج إيفيل لينفثوا دخان شيشتهم في الهواء الذي يستنشقه كل زائر لباريس، غير مكترثين باستهجان تصرفاتهم ومدى إساءتهم لدولتهم، هذا عدا عن تخريب الممتلكات العامة، التي ولغباء من يمارس هذه التصرفات يقوم بتوثيقها عبر تصوير نفسه وبفخر، ومن ثم يقوم بنشرها، ليُكرس عبارة: أمجاد يا عرب أمجاد، ودون أدنى مراعاة للمبدأ الأخلاقي القائل: تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين!
 
حقيقةً أحيانا أعجز عن فهم طريقة تفكير العقل العربي الشعبي بالطبع لا السياسي، فالأخير لا يحتاج إلى فهم، فهو واضح كوضوح الشمس وسيبقى كذلك ما دامت عقولنا كعامة تُحب أن تُستغفل وتصفق لمن يفعل، وتسيء في نفس الوقت لنفسها وكينونتها عبر عشوائيتها ولا مبالاتها وسطحيتها، التي نراها في كل مرةٍ تحدث ثورة تقنية، نستخدمها برعونة وصفاقة دون هدف سوى إظهار عقد النقص لدينا، وفراغنا وسوء تربية البعض، التي باتت لا تشكل حدثا فردياً معزولاً، وإنما ثقافةً مجتمعية بحاجة إلى أن نعيد التفكير فيها بجدية وبحلول عملية، بعيدا عن التنظير ومؤتمرات الصالونات، وإنما بسياسة حكومية ورسمية ومجتمعية ممنجهة ومقننة تبدأ مع النشء وتستمر لتطول جميع طبقات المجتمع، التي تفشى فيها مرض اسمه "أنا هنا".


المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=219758

الأربعاء، 9 سبتمبر 2015

حكاية «فيفو»!

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 09-09-2015



أستأذنكم اليوم لأتحدث وبإذن خاص لمرة واحدة فقط عن «فيفو»، وبعض شبابنا المُتعب برجولته مستخدما كلمات عامية ومُعربة، مع جُل تمنياتي أن تعذروا كسري لقاعدةٍ أؤمن بها وتقول: لنتوقف عن جعل الأغبياء مشاهير!
 
ما دعاني للتجرؤ والحديث هنا، هو طلب من قارئة كريمة طبيبة تتعامل بشكلٍ يومي مع مختلف العينات من البشر، أشارت علي بالكتابة عن ظاهرة الشباب «غير المسترجل»، التي باتت لا تخفى على أحد، منتشرة بين فئات عمرية بنسب أكبر بكثير مما كانت عليه سابقا في أجيال قد أكون أحدها.
 
أتذكر ولنقل قبل عشرين سنة موقفا حدث لصديقٍ لي مع والده، وكان حينها في الثانوية العامة، عاد الصديق مساء يوم إلى البيت قادما من الحلاق، وقد قص شعره بما عُرف حينها «قصة فرنسية»، وللأمانة لا تعدو أن تكون فقط مخالفة للعُرف العام الذي دأبنا عليه وقتها في قص شعورنا (بالماكينة)، التي ولمن لا يعرفها هي ماكينة الحلاقة ذات الدرجات، وتقتصر وظيفتها على قص الشعر بطول معين، وبشكلٍ متساو ليس فيه أي مظهر حسن.
 
المهم، صُدم الأب من جرأة ابنه وتحديه للعادات والتقاليد السائدة وقتها، وكان يخجل أي أبٍ مثله أن يمشي ابنه بجواره وقد قص شعره على الطريقة الفرنسية، غضب والد صديقي ترجمه بقرار فوري ذهب ابنه بمقتضاه إلى نفس الحلاق، وحلق على «الزيرو»، مع تحمله لتكلفة الحلاقة من مصروفه الأسبوعي حتى لا يُكرر هذا الجرم مرةً أُخرى!
 
هذا كان مثالا لما تربينا عليه، وقد لا يكون قاعدة تنطبق على الجميع، إلا أن الأغلبية من جيلنا قد نشأت وسط العديد من المحاذير الاجتماعية التي طُبقت علينا بصرامة، مع عقاب شديد للمخطئ، لم يكن في تلك الأوقات لبس «البنطلون» محبباً، بل إن البعض كان يراه عيبا، لكن العار كان في لبس الجينز والتي شيرت الضيق، وقد يوصف لابسه بعديم الرجولة، على خلاف «جينزات» شبابنا هذه الأيام، التي تتراوح أنواعها الشائعة بين «السكني» و»طيحني» و»المقطع» وغيرها، التي لا أعرف اسمها ولا حتى كيف تكتب، مع العلم أن لكل منها ما يلبس معه من « التيشيرتات» وإكسسواراتها من خاتم وقلادة جماجم وغيرها، التي تستهوي مراهقينا، للحد الذي بت أعتقد أنها ليست بالفعل تقليدا أعمى لشماعتنا «الغرب»، بل تعبر عنهم وعن شخصياتهم، وباتت لا ترى في كحل العيون عيبا، ولا المكياج ككريم الأساس وأحمر الشفاه أمرا مقصورا على الفتيات!
 
تلخبطت المفاهيم وتشقلبت وانقلبت، فبتنا نرى البنات المسترجلات، في مقابل شباب ناعم وفاهم الوسامة والشياكة غلط، ويمارسها بمفهومه المخجل ظنا منه أنه إن فعلها فسيبقى «دونجوان» يلفت أنظار الجنس الناعم، وأؤكد لكم أن أغلبهن ينبذن مثل هذا النوع من الشباب الذي ينافسهن على عرش الرقة، فالمرأة مهما استأسدت تبقى أنثى، وتبحث عن المخالف لها بالفطرة، وهو الرجل المعروف قديما بسي السيد أو «ابن عمي» وحديثا بالجنتلمان!
 
حتى لا أنسى «فيفو» الذي تحدثت عنه في بداية المقالة، هو شاب عربي أصبح يشكل ظاهرة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، كل يوم له هاشتاق وعشرات الصور ومقاطع الفيديو، التي يصور فيها نفسه وهو «يتميلح» ويتدلع بابتذال وبأنثوية مفتعلة لا تليق برجل، متتبعو «فيفو» أصبحوا بعشرات الآلاف، ومنهم العديد من المعارف والأصدقاء، شهرته دعت إحدى القنوات الفضائية لعمل حوار تلفزيوني معه، للأسف تابعته عن فضول وليتني لم أفعل، والسبب في ذلك أن استطلاعا للرأي أجرته القناة أظهر إلى حد ما تقبل المجتمع لرؤية شاب «مستأنث» لبسا وحديثا وصوتا ويعدها حرية شخصية.
 
مفهوم الجيل الصغير المراهق وحتى الشاب عندنا عن الحب والأحاسيس أشعر أنه مختلف عما كان عليه في أيامنا الغابرة، مع العلم أن المشاعر الإنسانية واحدة، إلا أن التطبيق والشكل العام بات مختلفا، سمعتها أكثر من مرة منهم «زماننا غير زمانكم»، فصدقت ما قالوا، لكنني تراجعت حين تذكرت سمو الحب الإنساني الذي شمل به حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم زوجاته، وأخص منهن أولاهن خديجة وأصغرهن عائشة، رضوان الله عليهن جميعاً.
 
كم كانت محبة رسولنا الكريم مثالاً للمشاعر الإنسانية التي تسمو في رقيها عن أي تفسير آخر للحب والتقدير والمودة والرحمة تجاه زوجاته، كم أتمنى أن يعلّم هذا الحب الشريف الطاهر في مدارسنا لأبنائنا وبناتنا، كي يعلموا أن سمو المحبة في طهرها، وضمن إطارها الشرعي الأخلاقي الذي أمرنا به الله عز وجل، بعيدا عن الاصطناع والمشاعر الوقتية المزيفة، وبعيدا عن التظاهر والتشبه بالجنس الآخر في أفعاله وطريقة لبسه وحديثه.
 
بصراحة نحن بحاجة إلى ربيع عربي أخلاقي، ليس على غرار السياسي حتى لا يُقمع، نتعلم فيه ونعلم أبناءنا المفاهيم الصحيحة للتطور والحرية، وحتى الجمال والشياكة والمحبة واللبس.


المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=218436

الأربعاء، 2 سبتمبر 2015

المتحرشون والقوانين الصارمة

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 02-09-2015

 


ترفض فطرتنا انتهاك خصوصية الروح والجسد، وتستهجن السادية والعنف الجنسي والتحرش. كما أن ديننا وجميع الأديان السماوية والوضعية حرمت هذه الأفعال الشنيعة، وأوجدت العقوبة المناسبة للساديين المعروفين بتعرضهم للأطفال وللمتحرشين جنسياً، لكن هذا بالطبع لا يمنع من الاقتداء بالفكر الأمني في الغرب، الذي خطا خطوات على المستوى الاجتماعي لم نصل لها بعد، محاولاً الحد من ظاهرة الاعتداء الجنسي القسري عبر مواجهتها لا التستر عليها، وإظهار المجتمع برداء الفضيلة التي يتخفى حولها مجرمون منتهكون لكرامة الطفولة والنساء!
 
مثلاً، في الولايات المتحدة الأميركية وضعت قاعدة بيانات عبر الإنترنت يسمح باستخدامها للجميع، يستطيع أي مواطن أن يستعرض فيها ويبحث عن المتحرشين جنسياً والمدانين في الولاية التي يعيش بها، بل حتى في المنزل المجاور له إن شك أن جاره مسجل مسبقاً في القائمة كمتحرش، كما يُجبر القانون المتحرش المُدان على إشعار السلطة المدنية بعنوان إقامته في كل مدينة يقيم بها، كما أن للشرطة حق إشعار السكان بذلك إن اقتضت الضرورة.
 
باختصار يعني: لا مفر لهذا المجرم المُنتهك للجسد بأن يمارس فعلته الشنيعة مرةً أخرى، وإن فعل فاحتمال القبض عليه وحتى فرص ردعه قبل ارتكاب جريمته مجدداً أكبر بكثير، كما أن الأهالي باتوا أكثر حذرا منهم والنساء كذلك، هم فئة موضوعة تحت المجهر ومراقبة.
 
في بعض الدول العربية، وحتى إن حكم القاضي على "فلان" مثلاً بالسجن لعددٍ من السنوات لاغتصابه طفلاً أو تحرشه بامرأة، بإمكانه بعد قضاء عقوبته، أن يمارس حياته الطبيعية الشاذة بعد خروجه، إن لم يقلع عنها، ودون أن يعرف به أحد، يستطيع أن يتزوج وينجب ويكون لديه عائلة تعاني الأمرين بسبب تاريخه الإجرامي، ويعمل حتى في وظائف تتعلق بالتعامل المباشر مع الأطفال والنساء.. بالتالي يسهل له بسبب الصفة الوظيفية ممارسة إجرامه مجدداً وأذية الخلق.
 
للعلم، ثبت أن نسبة من المغتصبين والمتحرشين جنسياً يعودون لممارسة جرمهم حتى بعد محاولات نصحهم وقضائهم للعقوبة، لذا يجب الحذر منهم، لا أقول رميهم في الصحراء وعزلهم عن المجتمع، وإنما الحذر منهم، ووضعهم في المكان المناسب لمثل من هم في وضعهم، وإبعادهم عن الأماكن التي قد ينتج عن عملهم فيها ضرر للآخرين.
 
مجتمعنا العربي الإسلامي طيب ومتسامح، ويبادر دوما إلى الأخذ بحسن النية، فلو تاب شخصٌ ما وتغير شكله ومظهره ولبسه وحديثه والتزم دينياً، فستجد العديد قد سامحوه وأعطوه فرصة ثانية للاندماج في المجتمع، دون أي حذر منه، فيما المفروض تجاهه هو ألا يؤخذ بالتغير الجديد مباشرة، وأن يكون تحت فترة تجريبية حتى يتم التأكد من سلامته وإقلاعه وأمانه، وعدم تكراره لأفعاله السابقة!


المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=217192

الأربعاء، 26 أغسطس 2015

مثاليون

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في مجلة فكر الثقافية العدد 12 بتاريخ 25-08-2015


يمتلك حسابًا في تويتر والفيس بوك وماي سبيس  والإنستجرام وقناة في اليوتيوب وفعال جدًّا في التواصل بالواتس أب وجميع برامج المحادثة الفورية ومواقع التواصل الاجتماعي، وله أتباع بعشرات الألوف ومريدون ومتتبعون لكل ما يكتبه ويقوله. من كثرة ما يصبغ نفسه بهالة المصلح أو الحكيم تظنه ملاكًا لا يخطئ أبدًا ومنزهًا. حديثه يبدؤه بأخي وأختي منمقًا عباراته، ويجامل الجميع. هو في "السيبر" أو الفضاء الافتراضي إنسانٌ آخر بخلاف واقعه، وبشهادة جميع من حوله، سواءً كانوا أصدقاءه أو أهل منزله.
لا يتحرك إلى مكان وإلا وقد تسلح بجهاز الآيفون والبلاك بيري والنوت ومعهم كمبيوتره المحمول. ما إن يجلس على كرسيه إلا ويبدأ تسفيط أجهزته بانتظام مستخدمًا كلا منها على حدة في تناغمٍ وتعامل سريع، حيث يطغى على ما يقوله حكمته التي عرفها عنه الجميع، وينتظرها كل متتبعٍ له عله يحظى منه بنصيحةٍ لمشورة سألها له.
هو المثالي الذي تتمنى كل زوجة أن يكون زوجها مثله وكذلك الأخت التي تعاني من قسوة إخوتها!... لكن، هل هو بالفعل في حياته الخاصة وبعيدًا عن الأعين والآذان كذلك؟ وهل تحولنا لممثلين نحاول أن نظهر دومًا بخلاف طبيعتنا، وهل أصبحنا مثاليين في محاولتنا للظهور أمام الآخرين، فيما نحن بشر بخطئهم وصوابهم في حياتهم العامة والخاصة. ولم نتقمص باقتناع دومًا وبأريحية دور الشخصية المزدوجة التي تحاول أن تظهر باستمرار بصفات الكمال، فيما هي من بني آدم ومن لحم ودم؟
من باب الإنصاف لسنا وحدنا كذلك، فجميع من يختلف عنا عرقًا ودينًا هم كذلك، حتى أكثر الشعوب تطورًا وتقدمًا ليسوا باستثناء. خذ مثلاً أمريكا، وانتقي أحد مواقع التواصل من أجل الزواج أو ما يسموه بالمواعدة، وقم ببحثٍ قصير لن يأخذ منك وقتًا حتى تجد أن أغلب من يشترك في هذه المواقع قد وضع أجمل صورةٍ له، والتي قد لا تعكس ماهيته الحقيقية بدون الإضافات والمكياج واللبس والفلاتر الإضافية. راجع "بروفايله" أو ما يصف به نفسه للآخرين وستجده الرجل الأنسب أو المرأة المناسبة. ولكن هل يعكس ذلك واقعهم؟.... بالطبع قد يكون بعضهم إلى حدٍ ما كذلك، لكن العديد منهم بعكسه، والكثير من الجرائم التي تعرضت لها نسوة كانت بدايتها تعارف عن طريق أحد مواقع التواصل الاجتماعي أو المواعدة.
الظهور بمظهر المثالية أو الرغبة في إسباغها على الشخصية لا يمكن وصفها بالعمل الناتج عن فطرتنا كبشر، كما لا يمكن أن نجد فيه عذرًا لأحد أو مبررًا ليكون كذلك. يتحمل فيه المسؤولية ليس فقط المدعي ولكن المتتبعين أيضًا، وهم الذين أضفوا عليه هالةً منذ البداية، ورفعوه لمرتبةٍ ومقام جعلته لا يملك إلا أن يستمر في أداء الدور الذي رسمته له أقلام من منحوه الشهرة والظهور.
قالوا وباللهجة الشعبية "المعربة": ما الذي فرعن فرعون، فأجابوا: هم من زينوا له ذلك، واستبدلوا حريتهم بعبوديتهم له!
نحن كعامة وكجموع بشرية من تصنع نماذج تحب أن تراها في شكل أشخاص وبحديثهم وبتصرفاتهم وأفعالهم وأقوالهم، ونحن أيضًا من يرفع مقامهم ويعليه، ومن يجعل كل إنسان عادي مثاليًّا متصنعًا، لأننا نرخي له آذاننا، ونأبى انتقاده حال خطئه، فيما نصفق له وبكل مبالغة إن أصاب، وكأنه أتى بما لم يأت به أحدٌ غيره.
الشعوب هي من تصنع أبطالها، وهي أيضًا من توجد ديكتاتوريها وطواغيتها الذين يمارسون بحقها التنكيل فيما هي تبهل بالدعاء والتمنيات لهم. إن منحوا الفرصة يومًا للمفاوضة في مقابل الحصول على الحرية؛ تجدهم استبدلوها بشروطٍ أخرى لتحسين حياتهم وحالهم في العبودية!
لا عيب في أن يرسم الإنسان نفسه، وأن يضفي لشخصه سمة معينة وطابعًا يأمل أن يتعامل معه الآخرون على أساسها، لكن الخطأ في التصنع وازدواجية التعامل والتصرف وأمر الآخرين بأمرٍ لا ينفذه قائله. هذه هي المعضلة والمشكلة في كون الإنسان مثاليًّا!
يتميز العديد من مشاهيرنا، أو لنقل "يُعرف" - لمن يعترض على الكلمة-  بتصنعهم وتكلفهم ومحاولتهم دومًا الظهور بصفة الكمال أمام محبيهم. خطأهم كما أسلفت ذكره يتشاركه معهم كل معجبٍ لهم، فهو من يرغب في رؤيتهم بصورةٍ نرسمها لهم، فيما هم من حققوه له أو لها عبر تمثيلهم لنمطها. على العكس تمامًا وفي الكثير من الحالات، تمتلئ الصحف والمجلات الغربية بفضائح وفظائع يقترفها المشاهير. منها من يُسجن بسببها أو يحاكم، وفي أخرى يُشهر به؛ ومع ذلك قد تزيد مثل هذه الحوادث من شعبية النجم الذي يسعى مصورو البابارادزي (الفضائح) خلفه لينال صورة يبيعها لأي وسيلةٍ إعلامية.
مثاليتنا أو لنقل تصنعنا الكمال (الذي لن نناله) جعل من بعض الشخصيات المعروفة تُصاب بجنون العظمة، الذي يتجلى في عدم اعترافها تحت أي ظرفٍ بخطأٍ ارتكبته إلا إن وصل الأمر لحد الفضيحة.
طبعا كم سمعنا عن كاتب مشهور سرق أفكار غيره كما هي ونشرها باسمه أو أعاد صياغة بعض كلماتها ونسبها لنفسه، منكرًا الفضل لكاتبها ومتجاهلاً عن  عمد حتى بالإشارة إليه!.... إن تم اكتشافه، سيهب جيش متابعيه ومحبيه للذود عنه وكأنه ملاك لا يخطأ، وستنال ألسنتهم من صاحب الحق، الذي إن لم يكن يمتلك حينها المادة والحجة والقوة للدفاع عن نفسه؛ فاعلم حينها أنه قد خسر المواجهة لطرفٍ على باطل، لكنه انتصر بفضل تصنعه المثالية وتبعية محبيه التي أعمتهم  عن رؤية الحق وعن إمكانية خطئه!
مفهوم الاعتذار لديهم غريب، ويظنون أنه قد ينقص من شأنهم ويفض الناس من حولهم، يخافون من أن يفقدوا شعبيتهم والهالة التي يستمتعون بها، لكنهم وبجهل يفقدون الاحترام وإن طال أمده.
المثالية سواءً كانت مثالية أو تصنع أفضل ما يمكن وصفها به هو التمثيل الرديء السيء، لكن العديد يصدقه برغم ذلك ويتعلق بالفاشل الذي يلعب دور الممثل فيه!


المصدر: مجلة فكر الثقافية - http://www.fikrmag.com/article_details.php?article_id=153

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...