الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

الحزن في صوت كلماتك

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 04-11-2015

 
 
يبحثون عن الحزن ويسعون له قولا وفعلا وخيالا وفانتازيا، لكنهم حين يسقطون في براثنه تجدهم يبكونه ويولولون حظهم العاثر الذي ساقهم إليه وأوقعهم في براثنه، بعد أن كانت السعادة ترفرف بجناحيها حولهم متمنية لهم أسعد الأوقات وأهناها!
 
خطرت في بالي هذه الكلمات فسارعت لكتابتها وأنا أقرأ لأحد ممثلي التعاسة بأحد وسائل التواصل الاجتماعي جملة يقول فيها: "تشابهت أنت وقهوتي في اللذة والمرارة والإدمان"، شعرت لحظتها وكأني بالسيد العاشق حزين الوجه باكي الملامح، يرتشف قهوة المساء على بقايا ضالة من شمس ربيعية غربت لتسلم مفاتيح المساء لقمر أسكن بإضاءته جنون النهار ومرجه وهرجه!
 
أمثاله كثر من مدعي الرومانسية التي ظنوها فقط تكون وحصريا عبر اختراع شكل وحوار وحديث وكلمات وصور هيأتها العامة كآبة.
 
أتساءل وأشرككم معي في فضولي: هل نحن فعلا شعوب حزينة كئيبة بسبب الظروف والأوضاع الصعبة التي تعيشها، أم أننا ميالون للحزن وعاشقون له، بسبب طبيعتنا الإنسانية التي اكتسبتها جينياً الأجيال المتعاقبة وورّثتها لبعضها بعضا، حتى بات الغريب الزائر لبلادنا يمكن تمييزه بسهولة، وسط أمواجٍ من البشر تعلو "التكشيرة" محياها، تمشي أو تتكلم أو حتى بصمتها يبدو الغضب هو السمة البارزة على وجوهها التي لا تعرف حين تنظر إليها، هل هي غاضبة بسبب خبر حزين تلقته، أم لمشاكل عائلية أو اقتصادية أو اجتماعية وسياسية.
 
في العالم الثالث ونحن العرب جزء أصيل منه، يأبى الخروج من قاعه العتر؛ يمثل الحزن بالنسبة لنا عقيدة نفسية تميزنا عن الآخرين، في أفلامنا ومسلسلاتنا لا بد لك أن تشاهد جرعةً مفرطة من المآسي، وكميةً من البكاء والعويل والصراخ تجعلك عدوانياً غير متفائلٍ بالخير، بل وميالا لنشر جو من الاكتئاب في من حولك، لتجعلهم هم الآخرين مصدر تعاسة لمن حولهم، تستمر السلسلة اللامنتهية من الأجواء العبقة بروائح التعاسة لتظلل سماء حياتنا المعتمة الموغلة في المشاعر السلبية، لكنها لا تلبث أن تستبدلها حين يتطور الأمر بمزاجها العكر، بحالة من النقمة التي بسببها سترتكب أي مصيبة ستتسبب لها بكارثة، أو لمن يقوده سوء حظه لمواجهة أحد أولئك الغاضبين الناقمين الباحثين، وكما يُقال شعبياً عن "شرّ للبيع".
 
في الأفلام مثلاً، لا متعة لمشاهدة لهفة العشاق إلا بكمية من المرارة والمصائب التي تسبقها، وتقف في طريقها لدرجة أن نشوة مشاهدة الحبيبين منتصرين في النهاية كالعادة، تتعدى نشوة مخمورٍ أفقده سكره كل وعيه وإدراكه، فقام من مكانه ليكسر ويحطم ويعبث بكل ما حوله مثيرا فيها أجواء إعصارٍ لم يبق ولم يذر!
 
لماذا بات الحب لدينا هو التلذذ في العذاب، ولم هو تجسيد لسادية فان جوخ التي لا أعدها إيثاراً، وذلك حين قطع أذنه وأهداها لحبيبته لعدم مقدرته على تقديم شيء لها بسبب فقره.
 
في الأفلام العربية القديمة والحديثة منها على السواء ستجد الحبيب أو المحبوبة في لقطة لوعٍ شارد الذهن تعيسا حزينا لا يقوى على الأكل ولا الكلام، تائها في ملكوت جنون الرفض والمصاعب التي تواجه حبه، يتزامن العرض مع موسيقى جنائزية وأغانٍ موغلة في تقطيع الذات؛ للدرجة التي سيشعر المشاهد لها أن الدنيا قد ضاقت به، وليس من حلٍ أمامه للخلاص من تجبرها سوى أن يقفز من شرفة منزله في الطابق العاشر، يتخيل أثناء سقوطه "الذي لن يستغرق دقيقة" أنها ساعات من شريط حياةٍ كله شرور، سيخلصه منه رصيف سيحتضن لحظاته الأخيرة، يتخيل أثناءها ويتلذذ ماذا سيقولون عنه، وكيف ستبكيه "الصبايا"، وكيف سيلحقن به مكرراتٍ نفس التجربة، سرب من فتيات أدماهن انتحاره، وكيف ستتوقف ساعة العالم، وكيف سيتغير الكون بمن فيه ليقضوا أيامهم حزانى معتكفين في مغارات الصحاري والجبال وكهوف العالم الآخر!
 
ما لم تصوره تلك الأفلام التعيسة والروايات المضللة التي أفسدت عقول شبابنا وبناتنا هي أن العالم لن يلتفت لذلك المحب الأحمق، أو تلك العاشقة المتيمة الفاقدة لحس الإدراك بين الخطأ والصواب. لن يكون لهم ذكر، ولن تسطر أقلام الكتاب قصة هواهم، كما سردوا لنا من قبل ذكرى قيس وليلى أو طرفة ابن العبد ولا حتى روميو وجولييت، هو أو هي الخاسر في رحلة ظنوها خالدة بما فيها من تعاسة وحزن لا قيمة له أبدا، فقصور تفكيرهم قادهم لعكس معنى الحب، الذي من المفترض أن يكون سببا لسعادتنا لا لشقائنا؛ ولفرحنا لا لحزننا، ولتمتعنا لا لغمنا.
 
الحزن صفة إنسانية تمس المشاعر وتتفاعل مع الأحداث، لكنها ليست لزاماً لمن أراد أن يهوى، ولا هي ميزة تضفي هالة من الجاذبية على الشخص، الذي لن يكون مديحاً له أن يصفه الآخرون بالرجل الغامض أو الحزين، بل على العكس، سيتجنبه العديد وينأوا عنه، فالناس لديها ما يكفيها من المشاكل، وتطمح لابتسامة وضحكة أكثر من تكشيرة تبعث في النفس أجواءً من الحزن والكآبة.
 
ملاحظة: كتقليدٍ عربي أصيل، أُقر أنني قد كتبت هذه المقالة على وقع موسيقى وأغان حزينة جداً جداً!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=309024

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...