الأربعاء، 18 نوفمبر 2015

سطحيون

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 18-11-2015

 
 
تحدثت سابقاً عن عنصريتنا المتأصلة فينا كعرب، وكيف أسهمت في دوراننا اللامتناهي في حلقة مفرغة من التأخر التي تسببت بها القبلية المفرطة، والاعتزاز الأهوج بالفصل والنسب، إلا أنني اليوم أتجاوزها لأنتقل لواقع آخر مزر بات يسيطر على مجتمعاتنا، وهو سطحيتها وجريها وراء المظاهر الكذابة، والإفراط في الكماليات، لدرجة أن ما كان قبل عقود سابقة رفاهية نسميها "لأهل الهاي كلاس"؛ باتت الآن من أساسيات مظاهرنا، صرنا لا نلبس ولا نشتري إلا ماركات، ولا نتعطر ونتطيب إلا بالغالي منها، نسعى لإظهارها للآخرين رغماً عنهم إن لم يستشعروها ويروها بأنفسهم، ويبادرونا بالسؤال عنها، الغريب أن أصحاب الماركات أنفسهم وعن العديد منهم أتحدث، وعى ذلك جيدا وأدرك أن تجارته تعتمد على تسخيف العقول، وربطها لقيمة أنفسها بما تلبس وتأكل، وعلى هذا الأساس سوق لبضاعته لدى شعوب مبدؤها يقول: "جوعني ولكن لبسني"، فأصبحت لا تلبس إلا "ماركة" ولا تشتري إلا "براند" ولا قيمة للشيء إلا إذا كان ثميناً.
بصراحة أصبحنا سطحيين جدا، فهل من سبيلٍ لعودتنا؟.. أتمنى ذلك!
إلا أنني أعود وأذكر نفسي قبل أن أوجه الحديث إليكم بأن التمني لم يجد يوما في تغيير الأمم، ولم يكن سببا في تقدمها، فهو وأحلام اليقظة واحد، وإن كان أحدهما لعقلٍ مستيقظ ومدرك لكنه موغل في التمني بأن تمطر السماء نموا وتقدماً؛ والآخر لحالمٍ طالما تتبدد سعادته باستيقاظه، المحصلة واحدة وتعني أنه من دون عمل وجد واجتهاد، لا استحقاقات يكللها الجهد المبذول في سبيلها والساعي لبلوغ المجد.
بمناسبة الحديث عن المجد، فقد تحول هذا النصر الإنساني في أي مجال بعينه إلى ساحة لاستعراض قدراتنا، ولكن ليس بالعلوم والاقتصاد والنماء، وإنما بالصقور والصيد وكرة القدم والأغاني والأناشيد، التي تغذيها قصائد شعراء سيارات "الفور باي فور"، وينظموها طمعا في الغنيمة التي باتت هي المحرك لقريضة شاعر الصالونات!
أجدادنا في الماضي القريب كانوا خير شاهد على رجال نحتوا الصخر لتحمل مسؤولية أسرهم، لم يكن يعنيهم كرجال أن يكون ما يلبسونه "كريستيان ديور" أو "أيڤ سان لوران"، بل أن يكون ساترا للجسد مكرما لمظهره، أما الجدات فكن من فجر اليوم ينشغلن بخبز الصاج وترتيب البيت من دون خادمة ولا يحزنون، لم يكن يسهرن أكثر من العشاء، فما كان في زمانهن "سناب شات" ولا "إنستغرام"، ولم يكنّ يتابعن مسلسلات تركية ولا مكسيكية، ولا يمضين الساعات متجولات في "المولات" بحثاً عن جديد الموضة والأزياء. لباسهن تلك الطرحة مع الجلابية التي خاطتها جارتهم خياطة الحي، مستخدمة تلك الماكينة اليدوية التي يعود تاريخ صنعها لثلاثينيات القرن المنصرم!
نعم الأول تحول، ولكن القيم لا تنتهي بالتقادم، والتطور لا يعني الاستخفاف والسطحية وتغليب المظاهر الكذابة على القيم الحميدة، صحيح أن الخالق جل في علاه يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، لكن هذا لا يعني التبذير والإسراف والإسفاف، واللهث وراء ما لا يليق حتى لو ندر وغلا ثمنه. 
صحيح أن مظهر الإنسان مهم، ولكن يجب ألا يعكس قيمته دائماً، فلو اشترى المال الجاه والعز فلن يقدر على أن يمنح صاحبه الذكاء ولا الحكمة وحسن التصرف ودماثة الخلق، ولن تكون السيارة التي نستخدمها ولا الحذاء الثمين الذي ننتعله، ولا الساعة السويسرية المرصعة بالألماس التي نرتديها، ولا "الشنطة" النسائية التي تحملها السيدة ولا الفستان، سببا في علو المكانة إلا لمن يقاسمهم ويشاطرهم تلك النظرة السطحية للحياة ومباهجها!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=331422

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...