الأحد، 27 ديسمبر 2015

داعش ما بين الحقيقة والوهم والاختلاق

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في وكالة أكد نيوز للأنباء 24-12-2015

 
 
سكتنا عن داعش وغض العالم النظر عنها وتجاهل حماقاتها وتطرفها، بل وفي السر أيدهم بعضها وسهل لها السلاح والتقنية ووصول المسلحين. لم يحرك أحدٌ ساكنا عدى عبارات الشجب والاستنكار لوقف عمليات الاعدام الوحشية التي ترتكبها في حق من أسرتهم من فصائل المعارضة السورية المسلحة المختلفة معها عقديا، ومن نالتهم ايديها من صحفيين وعمال اغاثة أجانب، كانت تصفهم على الدوام بالجواسيس عليها، رغم أن الصورة واضحة ولا لبس بأن العديد منهم حركته إنسانيته لنقل حقيقة ما يحدث في سوريا، فيما آخرون وبدافع انساني تحدّوا الخطر ليقدموا المساعدات، فما كان من داعش إلا ان اسرتهم وذبحتهم بتلك الوحشية والهمجية اللا إنسانية، ونشرت مقاطع لجز الرؤوس ومن ثم رميها على جسد الأسير.
لم تنته فظاعة انتقامهم ان صح التعبير عند هذا الحد، فوحشيتها المفرطة في حرق الطيار الاردني الأسير لديها فاقت أي تصور، وقطعت الشك باليقين لمن لا زال يملك بعض البصيرة والشك تجاهها، ليعي بأن حرقها له بذاك السيناريو المعد والمخرج بتقنيات متطورة وعلى درجة عالية من الاتقان؛ لم يثبت ادعاءاتها بالمظلومية، ولم يكرس “بروباجاندا الخلافة الإسلامية” التي تروج لها لتستقطب الفئة المتحمسة من الشباب وضعاف العقيدة، إلى جانب من انخرطوا في صفوفها من المرتزقة والمنبوذين من القيادات والأحزاب الغابرة، وعملاء الاستخبارات وفلول النظام السوري البعثي المجرم، الذي تمكن من زراعة عناصره بينهم، وبهم ارتكب ما يسيئ للثوار والإسلام، ورمى حبل نجاة تشبث به الأسد بداع قتال التطرف الإسلامي الذي تمثله المعارضة السورية، التي الصقت بها ظلما تصرفات الدولة المزعومة سيئة الذكر!
داعش ولن اسميها تنظيم الدولة الإسلامي في العراق والشام؛ فالإسلام منها بريء ومن خلافتها المزعومة، التي لا تمتلك لإعلانها ما يعزز مقومات الخلافة، ولا البيعة لمن سمى نفسه بخليفة المسلمين؛ قد أثبتت أنها نتاج لعبة دولية تلاقت فيها مصالح مختلفة، اتفقت بقصد أو بدونه على دعمها وايجادها من العدم.
بالنسبة للنظام السوري، هي من منحته بعض الشرعية لمحاربة ما أسماه بالتطرف الإسلامي. للمالكي سابقا، هي من وقفت ضد ثورة العشائر العراقية واضعفت زخمها وأعطت المبرر للحكومة العراقية بمزيد من القمع، وأججت الطائفية والعداء بين مختلف الطوائف العراقية وعززت روح القتل والانتقام على الهوية.
اختلقت فيما بعد مشكلة الأيزديين، وهي التي أقحمت نفسها في عين العرب كوباني، واستجلبت عداء الأكراد، أملا من أطراف دولية بأن تدخل تركيا الصراع الدائر في تلك القرية الحدودية المجاورة لها، والتي يصعب فهم لماذا اغرقت داعش نفسها فيها، وهي التي لا تمتلك أي مكانة استراتيجية في الصراع الدائر سورياً.
داعش برغم عدائها المزعوم لا يران ومحاربتها للمليشيات التي تدخلت في سوريا، إلا أنها لم يسبق أن اعتقلت واعدمت أي إيراني مع كثرتهم في العراق وسوريا. كما أنها لم تدخل في قتال طويل مع اي منهم، وكذلك مع النظام السوري، بمقدار شقها لوحدة المعارضة السورية المسلحة، واقتتالها معهم، وهو النابع من تكفيرها لكل من يخالفها عقيدتها التملكية ونزعتها السلطوية الانتهازية.
بالنسبة للأطراف التي ترى في الاسلام والصحوة خطرا متنامياً، شكلت داعش بوقها الاعلامي المسيء، الذي لم يتوانى عن ارتكاب المجازر والاعدامات والقتل والشنق والرجم بحجة تطبيق الشريعة!
مقاتلي داعش وقياداتها تم تجنيدهم من مختلف دول العالم، وسهل وصولهم وانضمامهم اليها بغرض تجميعهم في مكانٍ واحد يُسّهل القضاء عليهم حين انتهاء دورهم في حرب الآخرين باسم الإسلام لتحقيق مكاسب سياسية واستراتيجية لأطراف دون أن ترهق قطرة دم من جنودها؛ وبعلم من دولهم نفسها وأجهزة استخباراتها. روسيا أيضا كان لها مصلحة في تصدير من تصفهم بالانفصاليين الاسلاميين من الشيشان وجمهوريات القوقاز.
في عالم اليوم، لا يمكن أن تهرب إبرة في كومة قش دون أن تكون أجهزة الاستخبارات العالمية على علمٍ بها ومكانها، فكيف بمقاتلين مصنفين على درجة عالية من الخطورة تجاوزوا للوصول لسوريا نصف العالم؛ دون أن تكون تحركاتهم مكشوفة ومراقبة!
عقب الفيديو سيء الذكر لحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، كثرت الأقاويل والتحليلات. منها من شكك بصحة المقطع، ومنها من جعل من صنعه مؤامرة قامت عليها اجهزة استخبارات دولية، فيما أخرى تساءلت عن اقمار التجسس الأمريكية فائقة الدقة التي تغطي كامل الأراضي السورية، لكنها فشلت في كشف الحادثة. آخرين تحدثوا عن الأثر الذي تركه في نفس الشعب الأردني ليقدم تفويضاً وتوقيعا على ورقة بيضاء لحكومته للانخراط اكثر ضد تنظيم الدولة، ليستنتج بعض المحليين على أساس ذلك ما يدعم نظريتهم بوجود مؤامرة, مدعمين قولهم بأن الأغلبية العظمى من الأردنيين كانوا يروا في حرب داعش شأناً لا يخصهم, كما أن الأخيرة تحظى بتعاطف فئاتٍ لا بأس بها من الشعب, ولها أتباعها المتحمسون لها والمنظرون لفكرها في كامل تراب الدولة, ومعان على وجه الخصوص أحد أبرزها.
الأقوال والتحليلات لن تختفي بل ستتنوع بين مصدق ومكذب، فيما كلٌ منهما يدعم أقواله بما يراه من براهين. لكن الأكيد من وجهة نظري هو  أن التطرف والتشدد والعالم الحر والأفكار الانسانية التحررية وهذا يشمل الديموقراطية جميعهم معادلة كونية تمثل اقصى اليسار واليمين، فيما المنتصف متروك لمن يحكم, وبدونهما لن يحكم من يريد السيطرة، فهما من يمنحاه الشرعية والوجود.
داعش وان كانت حقيقة وواقع الا انها صنيعة وتآمر عدة جهات دولية مختلفة المصالح لتحقيق اهداف خاصة لكل منها، وهذا يشمل ايران وبشار والعراق وامريكا والغرب واسرائيل وروسيا بتغاضٍ وتعاطف من بعض الدول العربية. هي ببساطة سلة قنابل شارك الجميع فيها كلٌ حسب مصالحه, لكنهم جميعا لم يضعوا في حسابهم أن هذا التنظيم قد ينقلب على قياداته يوما, وقد يتحول الى خلايا صغيرة لا مركزية القرار موزعة أفرادها في مختلف دول العالم, ستعمل يوما على أيقاظ فتن لن يسهل أبداً إخمادها!
 
 

المصدر: وكالة أكد نيوز للأنباء- http://www.akadnews.org/2015/12/24/%d8%af%d8%a7%d8%b9%d8%b4-%d9%85%d8%a7-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%82%d9%8a%d9%82%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%88%d9%87%d9%85-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ae%d8%aa%d9%84%d8%a7%d9%82/

أبطال على ورق

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 22-12-2015

 
 
عظماء كانوا لكن دون أقنعة، أبطال ودون أن ينتظروا إشادة، هامات لن ينساها التاريخ لما قدمته للأجيال، ولن تنساها الإنسانية لما أسهمت في سبيلها، لم يدر في خلد أيٍ منهم حين قدم ما قدم أنه سيترك خلفه ذكرى عظيمة لا تنسى، ولم ينتظر أيٌ منهم شكراً ولا جزاءً، هم جند معركة الخلود المنتصرون بتضحياتهم في سبيل سمو أهدافهم، وهم ذكرى حية بأفعالهم التي مهدت السبيل لمن كان في زمنهم وجاء بعدهم، فألهمهم السبل نحو القدوة الحسنة دون تطبيل وبهرجة وإعلام يشيد بهم ويُرجع لهم الفضل.
 
هم أبطال حقيقيون ولكن دون رياء، وهم حاملو لواء الإنسانية التي حركت مشاعرهم فجعلتها محفزا لهم لعمل كل ما هو صواب أيا كانت عقباته، حتى لو أدت للتضحية بما يشق على النفس التخلي عنه.
 
كان القرشي الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عام الرمادة لا يأكل إلا الخبز والزيت، حتى أسود جلده، ويقول: بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع، وفي موقفٍ آخر له، شكره الناس في توزيع مال بيت المسلمين، فاستنكر هذا الشكر، وقال: "ما بالهم نعطيهم حقهم ويظنونه منة مني عليهم!".
 
هذا كان سابقا، أما في زمننا المجيد هذا، فما أكثر إنجازاتنا على الورق التي تمطرنا الأقلام بها كل يوم، بفلان العربي الشامخ الذي اخترع كذا، وحاز على براءةٍ في تلك، كما تلك العربية التي نالت جائزة الاستحقاق بسبب مجهودها في اكتشاف ما، وهكذا دواليك، أمجاد على ورق لم نر توابعها ولم تتقدم الأمة العربية والإسلامية بسببها، بل ما زالت على ما هي عليه من استكانةٍ وتبعيةٍ وتأخر، واعتمادٍ على الآخر الذي طالما وصفناه بالغرب العلماني المادي، لكننا حين يهل موسم الإجازة السنوية نهرع لسفاراته طلبا لفيزا تخولنا التجول في أراضيه، والاستمتاع بأجوائه المنعشة ومرافقه السياحية المسلية، التي لم تأت بسبب غناه فقط، وإنما لإخلاص مواطنيه وتفانيهم في عملهم لإعمار بلدهم، وفق تصورهم له وحلمهم، ودون أن يتوقعوا أن يدرك العامة أسماءهم، وأن تتحدث عنهم القنوات التلفزيونية، وأن تتم الإشادة ليل نهار بما أنجزوه، فيما هو في الأساس مهام عملهم وواجبهم المنوط بهم أداؤه.
 
عقدة جديدة يجب أن نضيفها لمآسينا المتعددة، اسمها البطولة الزائفة، التي تختلقها أرواحنا التواقة للمجد الغابر، فتصنع وكما يُقال شعبياً "من الحبة قبة"، ويبدو أننا تأثرنا بالأفلام الأميركية التي تمجد البطولة، والأفلام الهندية التي كنا نضحك على الخارق فيها حتى بتنا ندعيها، ونجد من يمجدها ويهلل لها!
 
لكم أن تطالعوا عينة عشوائية لعدد من الصحف والمواقع العربية لتجدوا سيلا من الأخبار والتقارير التي تتحدث عن اختراعات عربية في مجالاتٍ عدة، يتم تضخيمها وإعطاؤها أكبر من حجمها الحقيقي، للعلم، فأنا لا أحقر مجهود المجتهدين ولا ما يقدمونه، ولكني ضد أن نضعه في إطار هو أكبر من حجمه، وضد أن نستخدمه لري نشوة مؤقتة غير صادقة تؤتي أُكل السوء في المتلقي لها، وتخدع العامة التي في نهاية المطاف ستأوي لفراشها ظانة أنها ستستيقظ صباحا على حدثٍ مصدره ابن بلدها، يهز المجتمع العلمي في العالم أجمع، فيما هو كفقاعة صابونٍ اكتسبت حجم كرةٍ لكنها سرعان ما ستنفجر لتنتهي للا شيء.
 
كل ما أدعو له هو أن نبتعد عن المبالغة والمغالاة في الطرح والمدح والإشادة، وأن نكون موضوعيين وعمليين، إن أردنا ردم الهوة بيننا وبين من سبقنا في درب الحضارة وتعدانا من الأمم!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=337814

الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

انتهاك حرمة الطفولة باسم الدين

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 16-12-2015

 
 
التنطع.. التشدد.. المغالاة.. جميعها كلمات تقودنا إلى نفس المعنى المحزن، الذي بات سمةً للبعض يظن بما يفعل أنه يُحسن التدين، فيما هو يسيء ليس لنفسه فقط وإنما لأمة المليار مسلم، التي هي بلا شك براءٌ منه ومن فعله، ومن تطرفه الديني الذي لا يمت للإسلام ولا يجب قرنه به!
 
بالأمس لفت انتباهي نشر إحداهن صورة طفلة في السابعة من عمرها، تتوشح بالسواد الكامل من أعلى رأسها لأخمص قدميها، ترتدي قفازات بيديها وجوارب بقدميها وعباية جرى الاصطلاح على تسميتها "بالشرعية"، لكونها تلبس على رأس المرأة لا على كتفيها، "كما يرى البعض ويفتي بحرمته".
 
وصفت من نشرت الصورة الطفلة "بملكة الحجاب"، وتحدثت بزهو أن هذا هو لقبها في دار التحفيظ المشتركة بها، وتحرص يوميا على الحضور لها بهذا الزي، جدتها على حد قول معلمة التحفيظ فخورة بأنها (أي الطفلة) قد امتنعت بمحض إرادتها عن لبس ما أسمته "بالبنطال" منذ أن كانت في الخامسة بفخرٍ، وكأنه يخيل للسامع أن ارتداء البنطلون كبيرةٌ إن قامت به المرأة ومعصية!
 
طبعاً ردود الفعل وتجاوب القراء على الحدث كان كما نراه على الدوام؛ أحد تيارين، إما أن يدعو للطفلة بالثبات ويثني وعيناه تدمعان على خلقها الشرعي، وآخر ثارت ثائرته ورعد وأزبد ودعشن، ولكن دون أن يقدما قراءةً موضوعيةً للأمر، ومدى صحته من عدمه، وما الدليل على ذلك.
 
أولاً يجب أن نعي أن الأطفال في سنهم المبكر ذاك مقلدون، وكذلك تلك الطفلة البريئة هي مقلدة ولا تعي مصلحتها ولا الخطأ من الصواب، فهي ترى من هو أكبر منها سناً في بيئتها يلتزم بالحجاب "أياً كان شكله"، وتقوم بالاقتداء به وتكراره، وخصوصاً إن وجدت من يشجعها على ذلك، دونما إدراكٍ للحق الإنساني لها بأن تحيا مرحلتها العمرية كغيرها من البنات، فهي ووفق الشرع الذي ارتضيناه موجه لنا، وهي لم تبلغ الحلم بعد، ومرفوعٌ عنها القلم وغير مكلفة، فلماذا نقوم نحن الكبار، الذين يفترض بنا أن نكون عاقلين، بتحميلها ما لا طاقة لها به، ألا يعد هذا الفعل المغالي في كل الشرائع الدنيوية انتهاكا للطفولة، وليس بالأمر الذي يُفتخر به!
 
يا من فرحتم بها وادعيتم أن ما فعلت بتشجيعٍ منكم هو الصواب؛ لتعلموا أنها يوما ما حين تكبُر وتعي ستعاتبكم بضميرها وروحها، وإن لم ينطق به لسانها، متسائلةً: لم كان كل من في مثل سنها من الأطفال يستمتع بطفولته، فيما هي تعيش أجواء امرأة ولا تعي ما تفعل، بل تقلدكم في حجابكم الذي أؤكد لكم عدم اختلافي عليه لمن هي مكلفة كواجبٍ شرعي، "ولا أقول النقاب" الذي ورد الاختلاف فيه، مع ترك حرية ارتدائه لمن أرادته، وعدم فرضه على من نأت عنه وتركته.
 
أرثي حال الطفولة التي ظننا بما نفعل بها خيرا، عبر تطويعها لتكون مسيرةً لتطبيق رؤانا نحن الكبار، دون اعتبارٍ للعمر الذي له حقٌ أن يُعاش بقوانينه البريئة المخصوصة بنتاً كان أو ولدا!
 
صدقيني يا ابنتي الصغيرة التي وصفوك بـ "ملكة الحجاب": ستكبرين وكل عُقد الدنيا فيك، وستعانين بسبب من ظن تنطعا أنه يتبع الدين، وهو للأسف لا يمت بما فعل لصلةٍ به، بل يسيء ويسيء ويسيء!
 
دعوا أحلامكم أيها الكبار ورؤاكم وتدينكم لكم، ولا تفرضوها عنوة على الأطفال، واهتموا أكثر بالأخلاق الحميدة التي أصّلها ودعا لها شرعنا الحكيم، فهي النبراس الذي سيضيء حاضرهم ويبني مستقبلهم، وبه تزدهر الأمم وترقى، لا بالتنطع والمغالاة واختراع البدع التي ليست من الدين في شيء، وترهيبها أكثر من ترغيبها، ولا تعكس روح الإسلام السمحة ولا طبيعته الوسطية.
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=336584

الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

ليبرالي ومطوّع

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 09-12-2015

 
 
الخلاف الايديولوجي والفكري بين التيار الديني والليبرالي لا يظهر فقط حجم الانحدار الثقافي في الاختلاف الذي وصلوا اليه أخيراً، ولكن نتلمس فيه بشكلٍ واضح أن محور الخلاف لم يعد فقط حول فكرة أن أحدهم مغالٍ في الدين، والآخر مفرطٌ فيه على حدِّ زعم كلٍ منهم.
 
تابعهم في جميع وسائل التواصل والمنتديات ستجد أن المنظرين وأتباعهم لا يدخل في اهتمامهم مناقشة الآخر بهدوء، وتفنيد الكلام بالحجة والبرهان؛ وإنما تركه يسترسل في حواره، ومن ثم تتبع أخطائه وزلاته واقتباسها لاستخدامها لاحقاً في الصراع نحو تحقير الآخر وتخطيئه والنيل منه، أملاً في زيادة الأتباع من جهة؛ وأخرى لإثبات أن أهل ذاك التيار هم الكارثة التي تتسبب بكل المصائب التي يعاني منها الشعب!
 
غياب مفهوم الوسطية هو اللعنة التي ستحل بأي مجتمع، وتؤدي به لصراع التجاذبات بين قطبين فقط، هم من سيعلو ضجيجهم، وإن كان لأحدهما أكثر من الآخر، إلا أنهما سيكونان الطاغيين وسط أغلبية صامتة تنأى بنفسها عنهم، وإن كانت بين حين وآخر تتذبذب مواقفها بين هذا وذاك، إلا أنها تؤثر السكون في حلبة صراع الديكة الجاري رحاها، وتتخللها ما تلفظ به الألسن الغاضبة لا إلى سبيل التشجيع البريء، وإنما للفوز في المعركة التي يجب أن يخرج منها أحدهم "مقصوف الرقبة"!
 
حتى في الاختلاف ووفق فن الحوار؛ يجب أن يخرج كلا المتناقشين مودعين بعضهما بابتسامة لا تعني تقبل فكر الآخر، وإنما احترامه أياً كان، عندنا، العكس هو الحاصل، فبعد كل نقاشٍ حول شأنٍ بعينه، تبرز الحماقة والعداوة والضغينة والتجييش الأهوج للأتباع، لخوض غمار المعركة المقبلة، التي لا بد أن تكون حامية الوطيس أولاً، وثانيا تنتهي بالإقصاء الكامل للرأي المخالف، حتى لو استدعى السبيل لذلك تكفيره وزندقته أو "دعشنته"، ووصفه بالإرهابي المتطرف!
 
الغريب فينا كعرب أولا قبل كوننا ذوي أغلبية مسلمة؛ هو ازدواجية الشخصية التي نعاني منها، وأختصرها باللفظ الطبي "double personality"، فنحن كما أحسن وصفنا علي الوردي بالقول: لو خيروا العرب بين دولتين هما الدينية والعلمانية لصوتوا للدولة الدينية، وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية!
المشاركون في الاستبيان أعلاه سيكونون في أغلبهم من فئتين هما: جماعة "محبي الصالحين" "والليبروفاشية"، كما يتصارعون ويتنابزون ويطلقون على بضعهم.
ما يجب أن نعيه جيداً هو الفرق بين أن يكون المرء ليبرالياً متفتحاً، لكونه متعلما مثقفا واعيا وإصلاحياً، لا لكونه فقط يحمل عداء للأيديولوجيا الدينية، أو من أصحاب السوابق الأخلاقية، ونسميه "الداشر"، الليبرالية ليست كما يُروج لها بأنها البعد عن الدين وخلعه من الجسد والروح، والاقتداء بشرور الغرب "الكافر" والعمل بأخلاقه، وإنما هي لكل مسيءٍ لفهمها رفضٌ للانقياد الأعمى والكهنوت، ومنهج "الأكليروس" في عصور الظلمة الكاثوليكية، هي سلوك ومنهج وفكر، لا تعري، وانحلال أخلاقي وتفسخ اجتماعي ومادية بحتة!
 
كذلك هو التيار المحافظ والمتدين، الذي لا يعبر عنه "وإن أساؤوا" قلة من الملتحين، فقصروا ثيابهم بتنطع ومغالاة حتى بانت ركبهم، في عمل معاكس لما ورد عن الرسول الكريم وحدده بألا يتجاوز الكعبين، التدين هو الإيمان بعقيدة ارتضتها النفس البشرية لأن تكون فيها تابعة ذليلة لجلال الله سبحانه، تلتزم بفعل ما أمر به، وتنأى عما نهى عنه، أملاً في الجنة وفي رضى المولى، ولكن دون أن تبتدع في الإسلام وتُدخل ما ليس فيه من باب الظن والغلو، وسد الذرائع الذي بات البعض يستغله للتحريم، متناسين أن الأصل في الأمور هو الحلال، وما تم تحريمه والنهي عنه والزجر أمور لا تتعدى العشرات!
 
ما يجب أن نعيه جيدا هو التفريق بين كل مدع، وفي المقابل داعية وإصلاحي، فلا جُلُّ من نادى بحقوق المرأة والحرية المنضبطة هو ليبرالي، ولا كُلُ من خصص نفسه بلباسٍ بعينه وأسلوبٍ ومظهر هو داعية ديني، ستجد من الأولى من يركبون الموجة، وفي الثانية من التزم بالأمس، لكنه اليوم بات طامحاً لأن يكون من الدعاة دون العلم الشرعي والأسلوب والفكر، فأساء كلاهما بما فعل ونفر الناس منه.
 
أضف إلى ذلك ضعف الخطاب الشعبي الموجه للعامة، وتكراره وابتذاله أحيانا من كلتا الفئتين المتناحرتين المسيئتين بما تفعلان، وافتقاره لمفهوم الوسطية والمنطق وضرورات المرحلة، ومحاكاته للعقلية الإنسانية التي لم تعد مغيبة كما كانت سابقاً، ولا تابعة كالقطيع تُساق إلى المذبح دون أن تعترض، أو تغير طريقها نحو ما تطمح إليه بأن يكون وجهتها ومصيرها، لا ما يُراد لها كما كان يفعل بها سابقاً دون أن تعترض!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=335277

الأربعاء، 2 ديسمبر 2015

الأيام دول لا تدوم

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 02-12-2015

 
 
ثقافة ترشح عنصرية ما يميز أمتنا العربية التي تمجد لغة الضاد، وتعدد حضارتها وقوتها وتفتخر بأصالتها وشعرائها ومعلقاتهم، فما نميز به أنفسنا، تجدنا وكأننا في غينا نعمه، وبالعقول نتلاعب، نعدد مزايا لغتنا ومكمن قوتها وتفوقها على مثيلاتها، مستدلين بقولهم إن "العجم" وإن عاشوا بيننا عشرات السنين، فلن يتقنوها لا تحدثاً ولا كتابة، بل يستخدمونها "مُكسرة ومُخلّعة"، وركيكة لكنها تؤدي الغرض بأن نفهم على بعضنا، حتى باتت العربية دخيلة على العامية واللهجات المستحدثة، لكنهم (أي المنظرون) أغفلوا واقعاً تعيشه أمتنا؛ بأننا لم نحاول حتى أن نولي مقيمي دولنا العربية من غير أبناء جلدتنا بعض الرعاية، ونوفر لهم مراكز لتعليمهم اللغة، بدلاً من أن "يلووا" ألسنتنا ويعلموننا هم العربية المُكسّرة؛ لأنهم وخصوصاً فقراء آسيا أقل مستوى منا!، في حين نرى في زرق العيون وخضرها (ولست واحداً منهم) سمواً للمكانة لا يتناسب معها إلا أن نحدثهم بلغتهم، التي أضحت شرفاً ومكانةً يتسارع البعض منا ليحدث بها أبناءه.
 
قبل فترة أذكر أني شاهدت على إحدى القنوات الفضائية حواراً ولقاءً مع أحد الأوروبيين، كان متيماً بالحضارة العربية، لدرجة أنه هجر بلاده وتزوج إحدى نسائنا العربيات، وأتقن لهجتها العامية ويقرض الشعر بها، في اليوم التالي، أذكر أن "صديقنا المستعرب" كان حديث الساعة ومصدراً للفخر والاعتزاز وكل الشرف، في حين يخرّجُ الأزهر الشريف في مصر والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة سنوياً المئات من طلبة العلم من الدول الإفريقية والآسيوية من متقني اللغة العربية تحدثاً وكتابةً، وبعضهم حفظةٌ لكتاب الله، لكنهم يمرون بجانبنا مرور الكرام، فهم ليسوا من العرق الأبيض المحبب، الذي نسعى لهثاً للاقتداء به دون أن يعيرنا أي انتباه، فنحن في وجهة نظره راكبو الجمال، مستعبدو النساء، متطرفون إرهابيون!
 
عنصريتنا ليست موجهة فقط نحو من اعتبرناهم دوننا من الشعوب الأخرى، بل هي أشد فيما بيننا، فهناك العربي الفقير والغني، والمتمدن والمتخلف، والجاهل والمتعلم، والراقي والبدائي، والمتسول والمانح، وابن القبيلة والعائلة وضعيف الأصل والنسب.
 
لولا رحمة الله بنا، لكنا الآن مثل أميركا وجنوب أفريقيا أيام الفصل العنصري، ولكان المسلم والعربي يعامل حسب تصنيف دولته ومكانتها، فتجد دور العبادة والدراسة والخدمات العامة مفرقة حسب التصنيف العنصري والمكانة الدولية، ولما حظي مغتربو لقمة العيش بالجلوس في الطائرة أو الحافلة بجوار كريم النسب!
 
اعتدادنا بنفسنا أهوج أحمق، قدّم الآخرين وأخرنا، ومع ذلك نظرتنا لأنفسنا أننا الأشرف والأسمى والأنقى، والأكثر حظوةً ومكانةً بين ربعنا "لا بين الأمم"، التي تنظر لنا دوماً بتسيد، وننظر لهم بتبعية.
 
من أوجد العنصرية، ومن اخترعها وزرعها في النفوس؟
 
أهي شياطيننا ووساوس أنفسنا أو هوى أنفسنا الذي لامسته فتشبع بها، وآمن أنه السيد والآخرون عبيد، هو المُجتبى والمُختار، وما سواه العامة، إن كان كذلك فنحن وبنو إسرائيل إخوة ولسنا أولاد عمومة، لأن كلينا نؤمن أننا الشعوب المُختارة.
 
لن نستيقظ من غينا إلا إن أزلنا عن أعيننا غمام العنصرية والطبقية والمقام، وعملنا على ألا يكون فضلنا على الآخر قائمٌ على جاهٍ أو ثروةٍ وحظوة، وعملنا بقول المصطفى الكريم "دعوها فإنها منتنة"، فهل نحن بحلٍ من ذلك؟ وهل لنا من عظةٍ في من التهى سابقاً وتغافل عن قولٍ فيه عبرة.. "الأيام دول"!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=333977

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...