الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

ليبرالي ومطوّع

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 09-12-2015

 
 
الخلاف الايديولوجي والفكري بين التيار الديني والليبرالي لا يظهر فقط حجم الانحدار الثقافي في الاختلاف الذي وصلوا اليه أخيراً، ولكن نتلمس فيه بشكلٍ واضح أن محور الخلاف لم يعد فقط حول فكرة أن أحدهم مغالٍ في الدين، والآخر مفرطٌ فيه على حدِّ زعم كلٍ منهم.
 
تابعهم في جميع وسائل التواصل والمنتديات ستجد أن المنظرين وأتباعهم لا يدخل في اهتمامهم مناقشة الآخر بهدوء، وتفنيد الكلام بالحجة والبرهان؛ وإنما تركه يسترسل في حواره، ومن ثم تتبع أخطائه وزلاته واقتباسها لاستخدامها لاحقاً في الصراع نحو تحقير الآخر وتخطيئه والنيل منه، أملاً في زيادة الأتباع من جهة؛ وأخرى لإثبات أن أهل ذاك التيار هم الكارثة التي تتسبب بكل المصائب التي يعاني منها الشعب!
 
غياب مفهوم الوسطية هو اللعنة التي ستحل بأي مجتمع، وتؤدي به لصراع التجاذبات بين قطبين فقط، هم من سيعلو ضجيجهم، وإن كان لأحدهما أكثر من الآخر، إلا أنهما سيكونان الطاغيين وسط أغلبية صامتة تنأى بنفسها عنهم، وإن كانت بين حين وآخر تتذبذب مواقفها بين هذا وذاك، إلا أنها تؤثر السكون في حلبة صراع الديكة الجاري رحاها، وتتخللها ما تلفظ به الألسن الغاضبة لا إلى سبيل التشجيع البريء، وإنما للفوز في المعركة التي يجب أن يخرج منها أحدهم "مقصوف الرقبة"!
 
حتى في الاختلاف ووفق فن الحوار؛ يجب أن يخرج كلا المتناقشين مودعين بعضهما بابتسامة لا تعني تقبل فكر الآخر، وإنما احترامه أياً كان، عندنا، العكس هو الحاصل، فبعد كل نقاشٍ حول شأنٍ بعينه، تبرز الحماقة والعداوة والضغينة والتجييش الأهوج للأتباع، لخوض غمار المعركة المقبلة، التي لا بد أن تكون حامية الوطيس أولاً، وثانيا تنتهي بالإقصاء الكامل للرأي المخالف، حتى لو استدعى السبيل لذلك تكفيره وزندقته أو "دعشنته"، ووصفه بالإرهابي المتطرف!
 
الغريب فينا كعرب أولا قبل كوننا ذوي أغلبية مسلمة؛ هو ازدواجية الشخصية التي نعاني منها، وأختصرها باللفظ الطبي "double personality"، فنحن كما أحسن وصفنا علي الوردي بالقول: لو خيروا العرب بين دولتين هما الدينية والعلمانية لصوتوا للدولة الدينية، وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية!
المشاركون في الاستبيان أعلاه سيكونون في أغلبهم من فئتين هما: جماعة "محبي الصالحين" "والليبروفاشية"، كما يتصارعون ويتنابزون ويطلقون على بضعهم.
ما يجب أن نعيه جيداً هو الفرق بين أن يكون المرء ليبرالياً متفتحاً، لكونه متعلما مثقفا واعيا وإصلاحياً، لا لكونه فقط يحمل عداء للأيديولوجيا الدينية، أو من أصحاب السوابق الأخلاقية، ونسميه "الداشر"، الليبرالية ليست كما يُروج لها بأنها البعد عن الدين وخلعه من الجسد والروح، والاقتداء بشرور الغرب "الكافر" والعمل بأخلاقه، وإنما هي لكل مسيءٍ لفهمها رفضٌ للانقياد الأعمى والكهنوت، ومنهج "الأكليروس" في عصور الظلمة الكاثوليكية، هي سلوك ومنهج وفكر، لا تعري، وانحلال أخلاقي وتفسخ اجتماعي ومادية بحتة!
 
كذلك هو التيار المحافظ والمتدين، الذي لا يعبر عنه "وإن أساؤوا" قلة من الملتحين، فقصروا ثيابهم بتنطع ومغالاة حتى بانت ركبهم، في عمل معاكس لما ورد عن الرسول الكريم وحدده بألا يتجاوز الكعبين، التدين هو الإيمان بعقيدة ارتضتها النفس البشرية لأن تكون فيها تابعة ذليلة لجلال الله سبحانه، تلتزم بفعل ما أمر به، وتنأى عما نهى عنه، أملاً في الجنة وفي رضى المولى، ولكن دون أن تبتدع في الإسلام وتُدخل ما ليس فيه من باب الظن والغلو، وسد الذرائع الذي بات البعض يستغله للتحريم، متناسين أن الأصل في الأمور هو الحلال، وما تم تحريمه والنهي عنه والزجر أمور لا تتعدى العشرات!
 
ما يجب أن نعيه جيدا هو التفريق بين كل مدع، وفي المقابل داعية وإصلاحي، فلا جُلُّ من نادى بحقوق المرأة والحرية المنضبطة هو ليبرالي، ولا كُلُ من خصص نفسه بلباسٍ بعينه وأسلوبٍ ومظهر هو داعية ديني، ستجد من الأولى من يركبون الموجة، وفي الثانية من التزم بالأمس، لكنه اليوم بات طامحاً لأن يكون من الدعاة دون العلم الشرعي والأسلوب والفكر، فأساء كلاهما بما فعل ونفر الناس منه.
 
أضف إلى ذلك ضعف الخطاب الشعبي الموجه للعامة، وتكراره وابتذاله أحيانا من كلتا الفئتين المتناحرتين المسيئتين بما تفعلان، وافتقاره لمفهوم الوسطية والمنطق وضرورات المرحلة، ومحاكاته للعقلية الإنسانية التي لم تعد مغيبة كما كانت سابقاً، ولا تابعة كالقطيع تُساق إلى المذبح دون أن تعترض، أو تغير طريقها نحو ما تطمح إليه بأن يكون وجهتها ومصيرها، لا ما يُراد لها كما كان يفعل بها سابقاً دون أن تعترض!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=335277

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...