الثلاثاء، 21 يوليو 2020

حروب من نوع آخر

جريدة الرؤية
17-07-2020
عماد أحمد العالم



لم تعد الحروب بمفهومها العام، ذلك الشكل التقليدي لخصام الدول والكيانات السياسية، حيث باتت التجارة حرباً وكذلك الصيدلة والأمراض.. جميعها حروب من نوع آخر تهدف للربح وتحقيق المكاسب، وبأشكال أكثر جدوى للرفاه وأسرع للغنى والسيطرة التي لا تعدو كونها اقتصادية فقط، وإنما تتعداها للتحكم والتوجيه ومن ثم ضمان التبعية.
فالقوي الذي يسيطر على الضعيف لا يحتويه بل يبتلعه ليضمن عدم خروجه عن الخط المرسوم له والمتوجب عليه اتباعه، في تكريس للإمبريالية الجديدة الهادفة لاستمرار الاستعمار الجيوسياسي والاقتصادي بدل القديم، الذي بات لا يلائم روح العصر الحديث، حيث لا المجتمع الدولي والشعوب ستقبل بالوصاية الدولية، التي مثلتها عصبة الأمم المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، والمستغلة لظفرها ففرضت وصايتها أولاً بالمفهوم القانوني، ومن ثم تحول ذلك لاستنزاف الأرض، وما فيها لصالح القوى العظمى، التي وإن منحت الدول استقلالها إلا أنها لم تتخلَّ عن مطامعها، لتعمد للرأسمالية المتوحشة التي نظرت لها مدرسة «شيكاغو».
وكان البنك الدولي ومؤسسة النقد ومنظمة التجارة العالمية، وقبلها اتفاقية الجات أهم منتجاتها، التي تولت بدورها عقد الاتفاقيات الثنائية والإقليمية مع دول العالم، التي بظاهرها تشجيع الدول النامية ومنحها مزايا تفضيلية، إلا أن الواقع يحمل خلاف ذلك، فبنودها مكرسة لسلطة الشمال القوي وضامنة لتدفق بضائعه ومنتجاته بدون قيود جمركية، تخفف من سيطرته على الأسواق، مع رفع الدعم الحكومي عن المنتج المحلي، ما يجعله غير قادر على المنافسة مع الأجنبي المستورد.
في الطب تحولت صناعة الدواء لتجارة مربحة أكثر من السلاح، ويكفي أن نعلم بأن أرباح إحدى الشركات الصيدلانية الكبرى تفوق الميزانية السنوية لعدة دول أفريقية مجتمعة، أما نفوذها فكبير جداً عبر لوبياتها الإعلامية القادرة على نشر الذعر الشعبي من مرض أو فيروس ما، فتهرع الدول لشراء اللقاح والدواء المعالج بالمليارات، لكنها ما تلبث أن تتلفه بعد سنوات من عدم استخدامه وتخزينه، لتعقب ذلك حرب فيروسية أخرى من صنع البشر، تثير بدورها استنفاراً عالمياً لمواجهتها، لتستمر عجلة الربح في الدوران جالبة مكاسب هائلة لشركات الأدوية، التي وإن كانت مملوكة للقطاع الخاص في الدول المتقدمة إلا أنها تخضع لسياساتها وقوانينها، وتسهم في اقتصاداتها عبر تشغيلها للقوى العاملة من المواطنين ودفع الضرائب.


سباق السرعة.. والبطء

جريدة الرؤية
03-07-2020
عماد أحمد العالم



ليس كل فكر سريع حميداً وإيجابياً، والمثل كمحصلة ينطبق على من يعتنقه، أي المفكر السريع، والذي لا يعني بالضرورة كما سيتبادر لأذهانكم الأشخاص ذوي الفطنة والمقدرة على استحضار الحلول والأجوبة، فالمعني هنا ثقافة العجلة والسرعة التي ألغت الرويَّة والتمهل من حياتنا وجعلتنا دوماً في عجلة من أمرنا، فنحن مشغولون ولا وقت لدينا، ونتذرع بضيق الوقت وقصره رغم أننا نقضي في غير المفيد ساعات طوال، ومع ذلك عادة ما نشير للساعة كعذر نسوقه دوماً للتدليل على تقصيرنا واستعجالنا غير المبرر في كثير منه وإن كان بعضه حقاً.
غير أن الطابع العام بات عصر السرعة لنا في كل شيء، فحين نتحدث ستلاحظون سيلاً من الكلمات دون منصت، أما في العمل فستجدون الوتيرة المتسارعة، الصفة التي يروج لها المديرون التنفيذيون في تنظيرهم وخبراء التنمية البشرية، حاضين الموظفين على الإبداع الخلاق، ونبذ الخمول العملي الذي يرونه في الإحجام عن القبول بالمزيد من المسؤوليات دون الأخذ بالاعتبار الصحة الجسدية والنفسية، ومآلات عبادة العمل على الحياة الشخصية.
«كلاوس شواب» مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي ورد عنه قوله: «إننا ننتقل من عالم يأكل فيه الكبير الصغير إلى عالم يأكل فيه السريع البطيء»، فلم تعد القوة والجبروت صفة الغالب، بل باتت السرعة معياراً للتقدم والإنجاز، دون الأخذ بالاعتبار المجمل وليس المحصلة الآنية فقط، التي في باطنها مفيدة لقلة على حساب الأغلبية الضائعة في رتم الحياة السريع من بداية يوم أفرادها، حيث استيقاظهم في ساعة محددة للذهاب إلى العمل وإيصال الأبناء إلى المدرسة، ومن ثم الانصراف بسرعة عند نهايته والعودة إلى المنزل لتناول وجبة الغداء وقيلولة، يليها التسوق مساء، ومن ثم العودة بسرعة إلى المنزل لتناول العشاء ومشاهدة فيلم أو زيارة أصدقاء.
علينا القول إذن: «لا تكتف بالفعل، اجلس» ، فالاسترخاء والتأمل وأحياناً في الفراغ أو في سقف الغرفة ـ كما دأب ألبرت أينشتاين ـ فعله مفيد جداً للعقل ومحفز للإنتاجية وصاقل للذكاء، فليس الانشغال والسرعة دلائل النجاح والتفوق والإنجاز، بل العكس، فربما البطء والخمول الخلاَّق هما لبنتا البناء والتطور وفوق ذلك كله الاستمتاع بالحياة واللحظة والأجواء والبيئة المحيطة، وحتى الطعام الذي بتنا نمارسه كعادة بدلاً من أن يكون متعة وعافية.


التواصل الاجتماعي ودوره في التغيير

جريدة الرؤية
26-06-2020
عماد أحمد العالم



كثيراً ما يُعزى لوسائل التواصل الاجتماعي السبب بإشعال ثورات الربيع العربي بموجتها الأولى والثانية، لكن من النادر جداً أن تجد أحداً يتحدث بواقعية علمية عن أسباب فشل البعض منها وحتى الناجح عن الاستمرار وتحقيق المطالب المرجوة منها.
إن التكنولوجيا والتواصل الفوري التي وفرته الهواتف الذكية، كالإنترنت والمواقع الاجتماعية والأخبار لم ولن تصنع ثورة حقيقية، وإن بات يُنسب لها الفضل في التحشيد، والسبب ببساطة لهذا اللبس يكمن في عدم فهم طبيعة الثورة وارتكازها أساساً على المكونين المتمثلين بالثقافة الجمعية والفردية لجماهيرها ووعيها حيث قوة الفرد من الجمع، وكذلك تستقي الجماهير قوتها من أفرادها، التي ستتمكن التكنولوجيا من تسهيل المهمة عليها عبر سرعة جمعها وتحفيزها ونشر الأنباء ذات الصلة بها، لكنها لن تصنع بالمطلق من الجماهير ذاتها صاحبة وعي مدرك وقادر على التخطيط لمرحلة ما بعد الثورة بعقلانية تحقق التغيير المرجو والمطلوب، بل ستجد نفسها تدور بحلقة مغلقة من الفراغ الثوري بشعارات ترددها عبر مظاهرات وتجمعات تفتقر للفكر، وهو العامل الأساسي والفارق بين شعوب واعية تدرك ما تريد حين تنتفض وكيف تحققه وتحافظ عليه، وبين أخرى عاطفية انفعالية آنية يثيرها حدث وظرف ما، أو حالة اقتصادية متردية وانعدام للأمن، لكنها وبعد نفاذ مخزونه تنطفئ حدته وتسلم أمرها مجدداً لمن يتمكن من تطويعها واستغلالها عاطفياً للسيطرة عليها، بخلاف الجموع التي خضعت لسنين وعقود لتيار لا ينقطع من الإعداد الفكري التوعوي المشكل لكينونتها والحريص على حضور الوعي الفردي فيها القائم على العقل والإدراك، والناتج كذلك كمحصلة عن حرص جمعي على الاطلاع والقراءة والبحث عبر النقاشات الجادة والكتب الرصينة التي تقدم الأفكار وتطرح المشكلة ومن ثم تتطرق لأسبابها وطرق حلها، كما عمل على ذلك جان جاك روسو في كتابه العقد الاجتماعي الذي قدَّم مبحثاً للعلاقة بين الفرد ودولته، وواجباتها تجاهه وحقوقه المفروضة عليها، ليمهد الطريق بعد ذلك للثورة الفرنسية التي استلهم مفكروها ومنظروها من كتاباته أسس ثورتهم.
لذا، فقد سهَّلت التكنولوجيا حشد الجماهير ونقل ما يجري معها للعالم، لكن افتقارها للوعي هو ما يجعلها غير كافية لأن تنجز المهمة المنوطة طالما افتقر الثائرون لثورة فكرية تحضرهم لبناء الأسس القويمة لتغيير ما ينشدونه، يقوم عليها كتاب ومفكرون، فالأمة التي تحترم الفكر وترعاه يكون صداها جماهير واعية.


نكديون.. بلا حدود

جريدة الرؤية

19-06-2020

عماد أحمد العالم



ما هي مشكلتنا مع الفرح، ولماذا نتفنن في إظهار مظاهر الحزن، التي تعيدنا لاختراع طرق فريدة من نوعها في زرع الكآبة.
النكد هو الصنعة التي يجيدها الكثير والعديد منا، وهم بما يفعلون يظنون أنهم يحسنون صنعاً، بينما هم مفسدون ومخربون وقتلة لمظاهر السعادة المرتبطة بالبشر، والتي يجب أن يتحلوا بها ويستمتعوا! في مقاطع الفيديو المنتشرة عبر أثير الإنترنيت، ستجد الخلفيات مصحوبة بهمهمات وأصوات مبحوحة وعواصف تُبشر بنوعية ما أنت مُقبل على رؤيته وسماعه! بعضهم يظن أنه بما يفعل يُضيف المؤثرات الصوتية اللازمة لذاك المحتوى، الذي أنفر منه فأقوم بتجاوزه ومسحه أياً كان محتواه، فقد مللنا وعفنا مثل هذا النمط الترهيبي! نحن احترفنا الغمّ بامتياز بخلاف شعوب أخرى سعيدة ترقص طرباً ومرحاً، وتحيي ليالي سنواتها احتفالاً وضحكاً، أوقاتها مقسمة بين الجد واللعب والمرح والحزن، لينعكس ذلك على كل ما حولها، من معابدها لمدارسها ودوائرها الحكومية لشوارعها المزدحمة المليئة بالمتناقضات التي لم تنجح في تحويلها لشعوب غاضبة مكفهرة، وإنما على النقيض لأمم مُحبة للحياة رغم ما فيها! العديد من دعاتنا وعلمائنا تَغلب على مُحيّاهم مظاهر الجدية المُبالغ فيها، وتغيب عنهم الابتسامة ويندر أن ترى منهم خفة ظلة وممازحة، بل شدة وصرامة وكأن محبة الحياة والاستمتاع بها ذنب عقابه شديد.
أحاديثهم يغلب على الكثير منها الترهيب دون ترغيب وكأن الدين وُجد للعقاب فقط، بينما هو ومن جماله اصطفاه الله سبحانه وتعالى وأوجده وسطاً معتدلاً غير مفرِّط ولا متشدد، يمزج في محتواه بين ترغيب العباد لعمل الصواب وترهيبهم من عمل الخطأ ليجتنبوه، فينعموا برحمة المولى الكريم! إذا مشى الغريب في طرقاتنا يسهل معرفته حتى لو كانت سماته ولون بشرته مماثلة لنا، فنحن أصحاب كشرة وكأننا نتأبط شراً، نمتعض لأقل نظرة، فالبحلقة ولو كانت غير مقصودة في مفهومنا بداية لاشتباك بالكلمات قد يتطور لحرب وتشابك، بينما في بلاد أخرى لن تجد أحداً إلا ما ندر يقضي وقته في المقهى مثلاً أو المطعم أو أي مكانٍ عام وهو ينظر لما حوله، فيركز في هذا ويكاد تبتلع عيناه تلك، وإن صادف أن تلاقت نظرات عيناكما، سيبادرك بابتسامة لطيفة، بخلاف ما قد ينتج عن ذاك التلاقي غير المقصود لدينا من تبعات عافانا ربنا وإياكم منها!


السيلفي.. وصناعة الواقع

جريدة الرؤية

12-06-2020
عماد أحمد العالم



كثيراً ما استوقفتني مشاهد أشخاص «السيلفي» وهم يحركون هواتفهم وكاميراتهم يمنة ويسرة بغية التقاط صورة، في خلفيتها يقبع مبنى أو شارع تجاري أو معلم أثري، لا يلبثون بعد توثيق وجودهم بجواره وزيارتهم له تركه لأخذ سيلفي آخر في يومهم القصير الحافل بالصور، التي ما تلبث بدورها التوجه مسرعة صوب نشرها في وسائل التواصل الاجتماعي.
حيث أغلبها ليس لقبيل طرح نقاش جاد أو نشر معلومة، وإنما لقول: «لقد كنت هنا بينما أنتم قابعون في بيوتكم خلف شاشات حواسبكم وهواتفكم تتابعون ما أنشر لكم، ومرسلين عشرات اللايكات والإعجاب لما عرضته لكم»، وبذلك يكون المرسل والمستقبل جزءاً من عالم افتراضي موازٍ للواقع، ولكنه مختلف عنه من حيث المبادئ المشكلة لأخلاقياته وتعاليمه الإنسانية والقانونية والعرفية، فزِر الإعجاب الممثل افتراضياً للاستحسان بات وسيلة مجاملة رقمية أكثر من كونه مشاعر بشرية حسية صادقة تلهج بها الألسن وتظهر بها الوجوه، فيما عدم الإتيان به يثير السخط والغضب والنقمة، ليشعل حروباً افتراضية فحواها الأنا الغارقة في الشهرة والتمظهر بما لا يعكس الواقع.
التكنولوجيا الرقمية التي صنعتها رغبة في مشاركة المعلومة حين بدأت؛ تحولت لمنجم يدر ماساً على الشركات الكبرى في العالم التي تسيره، فكل شيء بات لتسويق منتج، لا يقتصر وجوده على السلعة الاستهلاكية بمعناها المجرد، فالفكرة والأيديولوجيا وحتى التاريخ والعلم والثقافة تمت رقمنتها لا لنشر المعرفة، وإنما للتوجيه والاستقطاب وبث الشائعة والكراهية وتحقيق الانتصارات بعيداً عن حروب تقودها جيوش تقليدية.
في العالم الافتراضي الذي غزته برامج الدردشة والحوار المصطنعة بات الكلام من أجل الكلام لا في سبيل النقاش، وأضحت الصورة رمزاً للابتذال بدلاً من الذكرى، التي أُفرغت من فحواها الماس لجوهر أرواحنا التواقة لنوستالجيا الماضي، ليدخل على حسابها فئات من المشاهير الجدد للساحة حاملين معهم خصوصياتهم التافهة، ومستعرضين بها للجموع المتفاعلة معها بالمشاهدة والتقدير الافتراضي، الذي ينال جزءاً يسيراً منه حاملو لواء التفاهة الذين يظهرون بها، فيما المستفيد الفعلي هو القوة الحاضنة للوسط الذي يظهرون فيه، والمليء الدعايات والإعلانات، التي بدورها تحرك الدولاب كل يوم بوسيلة جديدة تضمن لها انتشار التفاهة المستقطبة لجيل التكنولوجيا السطحي، والمهمشة في الوقت ذاته لأصحاب العقول والفكر الذين انحسرت إضاءاتهم وسط الإيقاع السريع.


اقرؤوا.. تصحوا

جريدة الرؤية

29-05-2020
عماد أحمد العالم



ما الفرق بين الأمم التي تقرأ والعازفة عن القراءة؟ وهل هو في كون الأولى متقدمة إنسانياً ومعرفياً حقيقي وواقعي، أم أن المسألة لا تعدو أن تكون ثانوية في مقاييس التطور؟ بل ربما هي كما يبرر المشككون المقللون من شأنها بينهم.

وهل هي عادة وطبع وفضول غير ذي بال، ولا يرقى لهالة الأهمية التي تمنح لها، ولا تُقدم في كلا المثالين في السؤال السابق من حيث معايير أخرى حقيقية وواقعية كالأمية والشفافية والنزاهة والرفاه؟ فهم - على حد قولهم - المعيار الحقيقي لتقدم الأمم، وبالتالي مواطنوها هم الأكثر وعياً ورقياً، وليست القراءة هي التي قادتهم لما هم فيه بل الوعي والعدل والأمن والاستقرار الاقتصادي!

القراءة والثقافة والوعي والرفاه والأمان.. جميعها على حد كبير من الأهمية التي تكمن بترابط الناس، فهم حلقات في السلسلة ذاتها تقود جميعها لبعضها، مُشكلة ومُكونة قوتها وتماسكها، فبغياب إحداها تتفكك وتهوى البقية، لذا لا يمكن الحديث إلا عنها مُجتمعاتٍ، وإن كانت القراءة برأيي المشكل الأول والأساسي لأولى الحلقات، فالوعي مثلاً لا يتحقق إلا بالاطلاع ولا يكفيه الاستماع فقط والمشاهدة، كما أن الثقافة بدورها لا تتحصل إلا بالقراءة، ‏ومن هنا تكمن أهميتها بكونها المعيار الأساسي لكل ما هو متقدم وخير ونفعي وإنساني، فهي التي تهذب السلوك عبر إثرائها المعرفة، وتسهم في التطور الذي يتحصل بعد توسيع المدارك وخلق آفاق فكرية واحتياجات جديدة، ومن ناحية صحية لها فوائد علاجية، فهي تجعل للحياة متعة، وللأداء فيها صبر وللكلام خلالها جمال ووقع حميد على النفس.
الإنسان الذي يقرأ وإن مر بمراحل انهزام وكبوة، لا بد له أن يقف مجدداً وأن يواصل حياته، وإن فاتته علوم ومعارف إلى حين نتيجة ظروف معينة فسيتحصل عليها لاحقاً بالقراءة، كما أنه وإن كان جزءاً من بوتقة اجتماعية معينة إلا أنه يبقى محافظاً على الوعي الفردي وغير منقاد بالكامل لثقافة الجموع بدون دور بها، بل يحظى بتأثير فيها عبر امتلاكه للمعلومة والفكرة، كما أنه ومهما كانت درجة تعليمه وواسع اطلاع لديه حصيلة وافرة من المعلومات، تمكنه من فهم ما يدور حوله والمشاركة برأيه فيه.

القراءة عوالم لا حدود لها، يبحر فيها ويجول من يملك سلطانها مستمتعاً، متنعماً بنعيمها، أما خاسرها فلا عزاء يكفيه وإن امتلك الدنيا وما فيها.


هاجس السرعة

جريدة الرؤية
22-05-2020
عماد أحمد العالم



«بسرعة، لا تتأخر، مشغول، مستعجل..»، كلمات عادة ما نسمعها من أفراد وهم يقفون في طابور بانتظار إنهاء معاملاتهم، سواء في بنك أو دائرة حكومية أو حتى متجر لبيع البقالة، أما الذين لم يتفوهوا بها فغالباً ما تتحدث وجوههم بها دون أن تنطق، ويمكن ملاحظتها بتململهم ووقفتهم المضطربة، وهرش للرأس وبحلقة بالعين غاضبة، وبتمتمات غير منطوقة ترتعش بها الشفاه مشيرة لما يعتمر في النفوس بالانتظار، والمستعجلة في أغلبها بعد أن تطّبعت بالسرعة دون أعذار منطقية للعجلة من أمرها.

في الشارع، وحيث تقود بتأنٍ في شارع ضيق قصير ينتهي بإشارة ضوئية، يمر بجانبك مسرعاً أحدهم لتنتهي به الحال بالوقوق بجانبك بعد ثوانٍ سبقك بها بجانب الإشارة، التي ما إن يخرج ضوؤها الأخضر معلناً السماح بالقيادة حتى تتعالى أصوات بوق سيارته في أوامر غير منطوقة متبرمة مطالبة من سبقه بالتحرك، ولكن مرة أخرى صوب الإشارة المقبلة، في مشهد لا مبرر فيه للعجلة سوى اللّهم كرهه لانتظار مستحق، يدل إن تحلَّى به، على احترامه للآخرين ولنفسه قبلهم، ولقبولها بدقائق مسروقة منّا جميعاً دون استثناء، في زحمة الشوارع والمكتظة دونما حل لها طالما نعيش في المدن الكبيرة الممتلئة بالسيارات ووسائل النقل المختلفة، ليس فقط لسكانها، وإنما لمن جاورها من الضواحي والقرى ومن قدموا إليها للعمل والمتعة.

ثقافة السرعة التي كانت أولى بوادرها مع اختراع الساعات بشكلها الحديث، باتت السمة لطبائع البشر ونمط حياتهم التي لا نُعد فيها الوحيدين، فالاستثناءات وإن بدأت بالظهور مع حركات البطء في العالم، إلا أنها في بداياتها، رغم وجود بوادر إيجابية مدللة على رغبة بتخفيف حدة الإيقاع، والدعوة للاستمتاع بالوقت في جميع المناحي، من الطعام للنزهة والرياضة وحتى العمل والعلاقات الحميمة.
جميعها جرفتنا في تيارها حتى تحوَّلنا لآلات بشرية مبرمجة على أنماط سلوكية محسوبة، اتسمنا بها ونمارسها، مفتقدين لمتعة التأني والإبطاء، وعدم الخوف من انقضاء الوقت دون القيام بأعمال أخرى تداخلت مع بعضها في جدول مواعيدنا المزدحم بالضروري وغير المهم.

العشوائية على ما تبدو عليه من صفة غير حميدة، كونها ارتبطت بأذهاننا بعدم النظام، ضرورية بل مهمة لبشريتنا وإنسانيتنا المحتاجة للانعتاق مما يكبلها ويجعلها حرة بالاستمتاع باللحظة دون الخوف من هاجس انقضاء الوقت بسرعة!


«الحضرنة».. بناء أم هدم؟

جريدة الرؤية

15-05-2020
عماد أحمد العالم



أصبح أفراد وقاطنو المدن الجديدة والمستحدثة على أنقاض القديمة والتاريخية، نتيجة التوسع الكبير في الحضرنة المعمارية والاقتصادية والثقافية التي تسببت بتغيير أسلوب ونمط حياتهم، أكثر انعزالية وقلقاً وعرضة للاضطرابات العصبية والضغوط والمشكلات النفسية والاجتماعية رغم مظاهر الرفاه والنعيم البادية.

فقد غدت وأصبحت مقسمة ومشرذمة وعرضة للصراعات دوماً، مكونة من أحياء غنية تتوافر فيها جميع مقومات الحياة من نظافة ومتعة وأمن، ومدارس مثالية وحدائق نخبوية ومرافق خدمية وصحية، فيما تفتقر الأحياء الفقيرة إلى أدنى المقومات السابقة التي يحظى بها الفريق الأقل عدداً والأوفر حظاً، ويمكن ملاحظة ذلك كمثال حي بإلقاء نظرة على ناطحات السحاب التجارية والسكنية الحديثة في مدينة مومباي الهندية، والتي يقابلها آلاف المنازل العشوائية المركبة من الصفيح والخيام، والتي تفتقر إلى الخدمات العامة كالكهرباء والصرف الصحي والمياه، وليس بمختلف عنها مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، التي تضج بنقيضي الحياة من عصرية مترفة، وفقيرة معدمة!

عملية الحضرنة، الرأسمالية الطابع، والاقتصادية المتسرعة للمدن والمناطق، قامت باقتلاع الطبقات الشعبية والبسيطة والفقيرة من بعض الأماكن، التي استوطنتها لفترات طويلة وسكنتها عبر أجيال عديدة، فهدمتها وأعادت تخطيطها لإعادة إنشائها وبنائها بحجة المصلحة العامة والتنظيم والاستفادة المثلى من المكان وإلغاء العشوائيات التي توصف بتشويهها للوجه الحضري للمكان، كما تمّ تحسين البنية التحتية وتطويرها، واستغلال المكان لأغراض تجارية أو سياحية ذات طابع عصري، لكنها لم تولِ في الوقت ذاته العامل الإنساني ما يستحقه من أهمية تماثل أغراض التطوير، فتركته بدون تأهيل ساكنيها لحياة كريمة تنقلهم على الأقل للطبقة المتوسطة، أو ضمن نطاق ما فوق خط الفقر والحد الأدنى للأجور والمعيشة، بل قامت بزجهم بأماكن جديدة مستحدثة سريعاً لإسكانهم بشكل عشوائي، لم يتم التخطيط له ليكون توطيناً مدروساً بتأنٍ وبنظرة مستقبلية تضمن عدم بروزه كبؤرة تحمل في طياتها، وتتسبب بظروفهم السابقة ذاتها في أحيائهم التي تم تهجيرهم منها إن لم يكن أسوأ!
العديد من مدننا العربية حديثة نسبياً بمقياس الزمن والنشوء، ومع الطفرة الاقتصادية يتحتم علينا عدم الانجراف صوب الحضرنة المهتمة فقط والحريصة على المظاهر الجمالية والعمرانية غير المدروسة، وإنما مزامنتها مع الأصالة والحفاظ على الهوية الروحية الإنسانية، التي تضمن تماسك المجتمع فيها والعدالة في توزيع الخدمات والتمسك بطابعها الثقافي.


الفن.. والأدب

جريدة الرؤية

08-05-2020
عماد أحمد العالم



للفن علاقة بالأدب، وأفضل تشبيه يمكن وصفهما به كالتابع الحر والمتمرد للسيد النبيل، حيث يستفيد أحدهم من الآخر في علاقة مصلحية غير متكافئة، يُكافح الأدب فيها لشق طريقه كي يرى النور في ظلمة سرمدية إن انجلت للمحظوظين فيه؛ ينبري لهم الفن سارقاً أو -ربما بلفظ أكثر تهذيباً- مستغلاً ذاك النجاح المستحق، بعد جهد جهيد لم يكن ليكون له لولا عظمة أسبغت عليه فنال استحسان النقاد والمتخصصين، ولاقى إقبالاً جماهيرياً كبيراً على اقتنائه وقراءته.

هناك فرق بين الأعمال الروائية التي تكتب لتكون سينمائية وتليفزيونية وبين تلك التي سطرتها أيدي رواتها لتقرأ فقط دون أن يضعوا في اعتبارهم تحولها لأعمال مرئية، ومع ذلك وبسبب ما نالته من شهرة تم تحويلها لفيلم على يد مخرج لا يمكن مقارنته بالطبع مع الراوي، فكلاهما وإن كانا من عرابي العمل، إلا أن من كتبه وسرد تفاصيله وعبر عما فيه من مشاعر وأحاسيس ورسائل بجمل وعبارات وكلمات مكتوبة لكن متصورة لقارئها؛ سيختلف عن تصوير مخرج قرأ العمل، فعمد على انتقاء ما يناسب الرؤية السينمائية مع اقتباسات محددة لنصوص منها معروف وقعها المسبق وتأثيرها على المشاهد، وضعها جميعاً بساعتين أو أقل لتكون مرئية، وهو ما قد يتسبب بصدمة بالذات لمن قرأ العمل سابقاً، وعاش طوال تفاصيله ساعات من الخلوة معه، والتخيل الذاتي لمجراه وحواراته ومشاهده، والعزلة مع شخصياته، بضمائرهم وما يعتري نفوسهم، بأفكارهم وظنونهم، بشرهم وخيرهم، بتأنيب الضمير وصحوته، وباستحضار للبيئة المحيطة بأجوائها وطقسها وزمانها ومكانها وتفاعل الآخرين معها، ودورها في التأثير بهم وعليهم، جميعها قد تظهرها الصورة، ولكن ستكون فعلياً مجردة من الإحساس الفريد من نوعه الذي يعتري القارئ حال قراءتها، ويصعب استحضار مثيله بالنظر فقط.

العديد من الأعمال السينمائية المستوحاة من روايات عالمية فريدة وعظيمة؛ طواها النسيان وتجاهلها المشاهدون، وغابت عن الذاكرة، ليبقى العمل الأدبي وحيداً وبعيداً عنها متفرداً بأصالته، ومجسداً لما أراد كاتبه روايته، لا ما ظهر عبر طاقم فني من مخرج بارع جداً، ومصورين محترفين، وممثلين أداؤهم بلا روح رغم ما في الصورة من جودة، والأداء من إبداع، والموسيقى التصويرية من أذن موسيقية لم تكن كافية رغم جمال وقعها في إحداث أثر يشبه ذلك الذي اعترى قارئاً صامتاً.


أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...