الخميس، 29 أكتوبر 2015

التعليم رسالة وليس وظيفة فقط

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 28-10-2015

 
 
أكثر ما أثار رعبي في أحلامي حين تخرجت من الثانوية العامة هو أن أدرس تخصصاً يكون مآلي فيه أن أصبح مدرسا بعد تخرجي، فمجرد أن أتخيل نفسي واقفا أمام نفر من الطلبة كان كافيا ليبث في نفسي اشمئزازاً مخيفاً لما قد يُصبح عليه حالي، وأنا أكافح وأنافح للسيطرة على ضجيج طلابي الذين فقدوا حس التعلم، واستبدلوه بغوغائية أجهزة الأمن السلطوية، حين تقمع مظاهرة وصفوا أفرادها السذج من أقاصي الريف أن القائمين عليها إما شيوعيون كفرة أو إسلاميون متطرفون!
 
هذه العقدة التي بت أتذكرها نادما لمصير أولئك المشاغبين من الطلبة، ومما سيؤول إليه حالهم لو مارست ديكتاتوريتي عليهم، دون أن أخشى دليلاً يدينني صوره طالب آخر ناقم بكاميرا جواله، فأيامنا تلك كان أقصى تكنولوجيا متوفرة هي لعبة "أتاري ساجا" بأشرطة، كانت تشكل هي ومتابعة "غرندايزر" أقصى لحظات متعتنا الطفولية، إلى جانب كرة القدم في الحارة التي تبدأ بعد العصر وتنتهي مع أذان صلاة المغرب، التي لم تكن بذاتها ما يوقفنا عن اللعب بمقدار رؤيتنا لسيارة الهيئة تقترب منا، بعد أن لاحظت عدم توقفنا عن اللعب وأداء الصلاة، أتذكر كنا نضع طرف الثوب في فمنا وننطلق كالغزلان حتى لا يُقبض علينا، فينتهي بنا الحال في خزيٍ مجتمعيٍ نوصف به "باللا مصلين"، في تلك السن المبكرة، كنا نحسن فن المناورة والاستخباء والنفاد بجلدنا سالمين دون أن نتعظ، فنعيد في اليوم التالي الكرة ويتكرر مشهد الكر والفر، إلا أنه وكما يقول المثل الشامي "مش كل مرة تسلم الجرة"، كنا نلاقي عقابا أشد غلظة في المدرسة، فبعد أن تضعف نفس أحدنا ويستسلم للخوف تارة أو يتملق للمدير بأخرى، كان يشي بنا من كنا نسميه "دبوس" أي مخبر، وفق المصطلح الأمني العربي، فبعد طابور الصباح يُنادى على أسماء تلك الزمرة من الطلبة، فيعي الجميع أن لحظة العقاب قد حانت، يُسار بهم لمكتب المدير الذي يلوح بالخيزرانة في الهواء، فتحدث صوتا لا يشبه موسيقى "الهارمونيكا" الزجاجية بشيء، وبعدها تبدأ الحفلة التي تحمر بها الأيدي الغضة، دون أن تدمع أعين أي من المذنبين، فذاك عارٌ مجلجلٌ سيلحقه لو افتضح أمره، وأشد وطأةً عليه من أن يعرف أحد الطلاب في المدرسة اسم أمه أو أخته فيناديه به، فيوصم بالخزي الذي يضطر بسببه إلى العراك والاقتتال طوال الوقت.
 
قديماً، كان للمدرس سطوة يمارس بموجبها أسلوبه التربوي الذي يراه مناسباً دون رادع، فمن الكف على الخد، لما يسمى "الفلكة"، حيث تُضرب الأقدام بعصا "الخيزرانة" آنفة الذكر، إلى الرفع من أعلى طرف الثوب من الخلف، والقذف بالجسد تجاه "الصبورة" لحل مسألةٍ حسابية سيخترع لها حلا، حتى لو لم يعرف أملا أن يخف عقابه الذي لا يستبعد أن يكون ركلة بقدم الأستاذ، أو لكمة على الظهر الصغير بقبضة اليد (بُكس) تنقله مباشرة لأن يتقمص دور جنديٍ فرنسي أثناء الغزو الألماني لبلاده في الحرب العالمية الثانية، وهو يصرخ أمام سارية العلم مرددا لفيلسوف فرنسا وأديبها وشاعرها المقاوم لويس أراغون "لست منهم"، ومنشداً أبياتا من قصيدته الأولى القائلة:
 
لأن لحمي الآدمي ليس بفطيرة.. حتى يقطع بالسكين.
 
بكل صراحة لم أر في أغلب دولنا العربية تجربةً تعليميةً تُثلج الصدر ولا تُثير الجدل، فنحن إما قُساة في التعليم لا نعرف إلا الضرب كأسلوب تعليمي، أو متساهلين متراخين كما شاهدنا في مسرحية "مدرسة المشاغبين"، أما لو حاولنا اللحاق بركب دُعاة التجديد في التعليم؛ فللأسف نحن مقلدون، نطبق أنظمة بلا روح على طلبة بلا رغبة في التعليم وبعضهم مجبرون.
 
التعليم أولا وقبل كل شيء المهنة التي يجب أن يعمل بها فقط النابغة المؤهلون من الصفوة، كما يحدث مثلا في اليابان وفنلندا، فمن متطلباتها دراسة أكاديمية تربوية قاسية، ومتابعة مستمرة تضمن أن من يحصل على رخصة المعلم فيها قادرٌ على التعامل مع جيل سيكون دعامة حاضر ومستقبل وطنه، جيل من الطلبة ستكون المدرسة بالنسبة لهم فسحة العقل وتمدنه وثقافته وعلومه. هي المكان الذي يتعلم منه ما يؤازره لخوض مستقبله، وهي المكان الذي يكون فيه شخصيته، ويكتسب أصدقاء جددا، ويرفه فيه عن نفسه، ويختار مهمته في الحياة وأهدافه، هي المكان الذي يستيقظ صباحا ممتنا للحظة التي ساقته إليها، يدخلها مُبتهجاً ولا يغادرها إلا بأملٍ في غدٍ قادم يسوقه إليها، أستاذه فيها يشرح المادة بحب وشغف، يقيّم قدرات طلبته ويوجههم، ويحاول دوما إرشادهم لاتخاذ قرارهم بأنفسهم وبقناعةٍ منهم، لا اقتيادهم لجادة العلم والمعرفة رغماً عنهم وبالقوة!
 
لو كان هذا الحلمُ الموغلُ بالتفاؤل نمط التعليم في دولنا، لتحولنا كما سبقنا الآخرون لدرب الحضارة التي لا تجد فيها مدرسا يضرب تلميذا بعنف، أو طالبا يتنمر على أستاذه، ولأصبحنا كمحصلة أمةً مثقفة وأخلاقية قويمة، نقارع الأمم الأخرى في الريادة والإنسانية والتقدم والاستمتاع بدنياها وحاضرها، الذي لا ينسيها أبدا مستقبلها، الذي ستحياه أجيال أخرى تسير على الدرب نفسه، هو درب لا نرى فيه المدرسة تربي العقد لدى أبنائنا وبناتنا، وتنشئ جيلا معقدا ملوث الفكر، يستغله المتطرفون دينيا وفكريا، بل يجد فيه المجرمون معززا لإجرامهم، ومسوقا لبضاعتهم وإدمانهم وفسادهم وانحلالهم!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=307798

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...