الأربعاء، 27 يناير 2016

مطاوعة الواتس

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الكويتية 27-01-2016

 
 
مقطع مؤثر جداً وعليك الاستماع إليه وحيداً، ولا مانع أن تطفئ جميع الأنوار وتقفل باب الغرفة عليك، أو تذهب إلى صحراء الربع الخالي، أو أقرب مكان مهجور وموحش، ويفضل أن يكون خرابة أو أطلالا لمنازل من طين تسكنها الجن والشياطين والبعبع والغول "وأبو رجل مسلوخة"!
 
باختصار السطر الأول هو ما وصلني عبر "واتسابايه"، والباقي من خيالي وأنا أتقمص شخصية المخرج "هيتشكوك" ملك أفلام الرعب، محاولاً أن أضفي مؤثرات تخيلية لما حاول مرسل الرسالة عبر برنامج "الواتس أب" أن يمارسه بالدعوة الدينية، عله كما اعتقد ينال الأجر والثواب من ورائها، لكنه وأشك في الأساس أنه قد استمع إليها؛ قد أرسلها كالعادة دون أن يعلم أن فيلم الرعب الذي مهد له قد تم مسحه دون الاستماع إليه، مع حظر مرسله حتى لا يمارس علينا كآبته التي يظنها من أصول الدعوة، والدين براء منها ومن ممارستها بهذه الطريقة الوحشية، التي تبث رسائل الخوف والرعب في النفس، بدلا من أن تمنح الترغيب المطلوب، الذي لا ينفي أبداً الترهيب، ولكن بإطاره الصحيح، وعلى لسان من يمتلك ملكة الدعوة الدينية دون مغالاة، وإنما يوازن بين الترغيب والترهيب.
 
مقاطع فيديو يصلك منها العشرات يومياً، العامل المشترك فيها تلك الخلفية الدرامية، والمؤثرات الصوتية البشرية البغيضة المحبطة التي تم دمجها من صنع المشاهد، وأغلبها تحمل النغمة "ها ها ها ها" أو "هم هم هم هم"، بصوتٍ موغل في الكآبة والحزن، أفضل ما يمكن تشبيهه باللطم ولكن بطريقةٍ شرعية، يظن من ابتدعها أنه بما فعل لا يرتكب إثم وضع الموسيقى في المقطع!
 
لانزال نعيش في ظل سيطرة كهنوت موغلٍ في التشدد الديني، قائم على زرع الخوف الشديد في النفس البشرية المحبة للحياة، ظاناً منه أن أفضل طريقة لهداية البشر هي عبر إرعابهم، بل زرع القناعة في أنفسهم بأنهم سيكونون من أهل النار المعذبين، إن لم ينصتوا لهم، ويتبعوا دون نقاش ما يرونه ممارسةً دينية، هي في العديد منها تتعدى الاجتهاد الشخصي والزهد والتدين؛ ليصبح غلوا وتطرفا وابتداعا لما ليس في الدين، هو الضلال بعينه وليس الحق، فسمو الهدف لا يعني دناءة الوسيلة وتطرفها، وإلا ساد الظلم والقمع والخرافات، ظناً من مرتكبيها أن حسن النية وشرف المقصد وسموه، تبرر الوسيلة أياً كانت!
 
وكأننا إن أقررنا بذلك نعيد سيرة ميكافلي ونعمل بها ونقتدي.. لا، فالغاية لا تشفع لسوء الوسيلة، ولا نحن بحاجة لروبين هود الذي كان يسرق من الأغنياء ليعطي الفقراء، لأننا لو سمحنا بذلك لسادت شريعة الغاب.
 
الدعوة فن وأسلوب ومقدرة ودراية وعلم وعمل، هي أمر مطلوب بيننا كمسلمين، ونحتاج فيه لمن يذكرنا إن نسينا وتغافلنا، فيرشدنا بود ومحبة وحسنى دون أن يفرض علينا رأيه، بل ينصح ويترك الهداية للهادي سبحانه، فكل ما عليه عمله هو التبليغ دون فرض ذلك بالقوة، ودون التشكيك في النوايا والبحث في الخفايا، فقد نُهينا عن ذلك، وطُلب منا إحسان الظن وعدم التدخل في سرائر الآخرين.
 
مرة أخرى ومع الواتساب ومن قبله كان البريد الإلكتروني؛ تجددت ظاهرة محبي الصلاح ودُعاة "انشر تؤجر"، وأستحلفك بالله أن تنشرها، ليمطرونا في كل دقيقةٍ وساعة برسائل وعظية طويلة، وأدعية كُتب عنها أنها مخصصة لأمر بعينه، وأحاديث يتم تداولها دون التأكد من صحتها، وقصص مخيفة لعصاة "كما يصفونهم"، وذكر ما تعرضوا له، وجميعها تصب في دائرة واحدة بدايتها لا تختلف عن نهايتها في المقصد، وهو الرسائل ذات الصبغة الدينية، التي يتم تناقلها بحسن نية وطمعاً في الأجر لناقل الخير وأحياناً بسذاجة، وأخرى خوفاً من الوقوع في الإثم إن تم تجاهلها، فيتم إعادة نشرها من باب السلامة، ودون توثق من صحتها ومدى فائدة نشرها!
مثل هذه الرسائل تصلك على مدار العام، ولكن شأنها كأسعار تذاكر الطيران خلال الإجازات، تمر بمواسم ينشط ناشرها "ذكرا كان أو أنثى" في تداولها، كأيام الجمع ورمضان والموالد والمواسم الدينية، أغلبها مكررة وطويلة وتفتقد ما يجذب القارئ لها بسبب ضحالة أسلوبها ونهجها، وافتقارها للتوثيق المطلوب، الذي يجنبنا أن نبتدع في الدين ما ليس فيه، وفي بعضها تكفير وتضليل وتفسيق وزندقة لكل مخالف في الرأي، بأمر مختلف فيه أو محل إجماع، وكأنهم قد منحوا لأنفسهم مكانةً هي فقط للحكم العدل سبحانه وتعالى، ستسمع في بعضها وتقرأ من يخرج أشخاصاً من الملة، وآخرين قد حكموا على المخالفين (أي العصاة) بأنهم لن يدخلوا الجنة ولن يشموا ريحها!
 
 

المصدر: جريدة الكويتية - http://www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=342745

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...