الخميس، 29 نوفمبر 2012

جوستيتيا

مقاله تم نشرها في جريدة بوابة الشرق القطريه 27-11-2012

بقلم: عماد أحمد العالم

 
أحد أهم مظاهر العدالة أنها عمياء؛ وعماها لا يعني تغاضيها عن الحقيقة وإنما كونها لا ترى المظاهر, والتي تعني بدورها سطوة القوى السياسية والمالية. لذا ستجد "سيدتي العدالة "عمياء أو معصوبة العينين, جميلة تظهر في هيئة فتاةٍ أنيقةٍ مهيبة تمسك بيديها رمز العدالة؛ بيمناها سيفا لتطبيقها, وبيسراها تحمل ميزاناً يمثل روح الإنصاف وتوازنه وحياديته.
العدالة امرأة؛ قد يكون مستفزاً للبعض منا معشر الرجال هذا القول, لكن تفسيره (كما قالوا) يكمن بأن المرأة وخصوصاً الأمهات, يجسدن العناصر الأساسية للعدل؛ والمتمثلة بوحدة القواعد اليومية, العدالة والحكمة والقانون، المحبة والتصرف بعدل, كما القدرة على التطبيق دون مبالغةٍ أو تجن أو شخصنة.
جوستيتيا Justitia : الهة مجازية تمثل العدالة عند الرومان, ومنها اشتق اسم العدل ((Justice , وصفوها بالرحمة وعدم التحيز, تراها مجسمةً في دور القضاء ووزارة العدل, لتنبه الزائر لحلوله ضيفاً عليها.
القضاة جُزءٌ من منظومة العدل وركنٌ أساسيٌ للحرية, فما قامت ثورة وأحققت مظلمة إلا كان وراؤها قاضٍ نزيه, وما دام حكم التسلط إلا بوجود قضاءٍ فاسد, أشاح وجهة عن العدل, وحلل الحرام للحاكم والقوي وطبق العدل على الضعيف, فانتشر الظلم والضيم وانعدمت المساواه. حتى وإن كان في مجتمعاتنا المؤمنة, فقد ابتلينا بكثيرٍ من قضاة الباطل. وجودهم واقعٌ لا يُنكر, فحبيبنا المصطفى علية صلاة الله وسلامه, قد أخبرنا عنهم ونبأنا القول " قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار ", فهم القائمون على العدل, والذي بدوره هو قاعدةٌ اجتماعية أساسية لاستمرار حياة البشر مع بعضهم البعض.
تحول نفرٌ من القضاة في بلدان الربيع العربي لضيوفٍ دائمين على البرامج وأمسوا خبراء دستوريين ومنظرين ومحللين؛ فمتحيزين لجهةٍ على أخرى, فمؤيدين لطرفٍ ضد الآخر؛ حينها خرجوا من واقع كونهم قضاة, ليكونوا طرفاً في النزاع, فضاعت النزاهة وغابت القدسية واختل ميزان العدل, فوقع على رؤوس الشعب, وأُسقط بأيديهم, فتاهت عنهم الحقيقة, ووقعت القطيعة ودب النزاع, وتحول القاضي لجلاد والمجرم لبريء, فضاعت الثورة وتشتت أفكار ثوارها, فانقسم المجتمع بين مؤيدٍ ومعارض.
هذا هو حال القضاء المصري بعد الثوره, وعقب الإعلان الدستوري الأخير للرئيس مرسي, والذي منح فيه الحق المؤقت المشروط لنفسه لتحصين بعض قراراته السيادية لفترةٍ محدودة لا تتجاوز الشهرين وقد تقل, حتى الانتهاء من الدستور الجديد وعرضه على الشعب في استفتاءٍ عام, وانتخاب مجلس شعبٍ تعود إليه السلطة التشريعية؛ كما أكد على عدم سقوط التهم عن من بُرئوا مؤخراً من قتلة الثوار, وضرورة إعادة محاكمتهم حال توفر الأدلة اللازمة, فالجرم لا يسقط بالتقادم ولا يراعى فيه البند القانوني المعفي للمجرم من محاكمةٍ ثانية في حال بُرئ في الأولى. لا ضرر في ذلك, فنحن لا نتحدث هنا عن جرائم فردية وإنما مذبحة اقترفها نظام جائر في حق متظاهرين عزل, يعي الجميع ويعلم أنهم فيها الجناة, ومن حق الشعب استخدام المحاكم الثورية لتقديمهم للعدالة.
في مصر, لم تقدم النيابة العامة وهي جهة الاختصاص, ما يكفي من أدلةٍ لازمة للمحكمة لإدانة الجناة, في وقتٍ يعلم الجميع, أن المتهمين مذنبون, فكان الخيار أمام القضاة: إما أن يحكموا بالبينة والقرائن والأدلة, أو القناعة الفردية المعلوم الحكم فيها مسبقاً. جاءت الأحكام على غير رغبة الشعب, فبراءة العديد بناءً على ما قُدم لها من النيابة, التي بدورها كان لها ضلع في المؤامرة عبر إغفالها حقائق قانونية بديهية, واعتمادها على التقدم بقرائن, يسهل على محامي الدفاع دحضها.
من هنا بدأ المشكل, فإما ألا نعترض ونسلم بقرار القضاء (ونحن نعلم خطأه ويتناسى ما حدث من جرم, أو يعترض الشعب, ويقوم قضاؤه ويعزل المتخاذل من نيابة وشرطة ويكلف جهات أخرى نزيهة تقدم المتهمين للمحاكمة؛ في فعلٍ أحدث تصادماً مع ما سماه البعض "قدسية القضاء" (غير المنزه بنظري عن الخطأ)؛ لكن بقايا قضاة النظام السابق, من عُينوا من قبله, وجودها فرصةً لخلق أزمةٍ للرئيس, فتآمر البعض منهم مع نفرٍ من الفلول وأحزاب المعارضة الكرتونية وبعض الخاسرين في الرئاسة, لشل الحياة العامة, وإلهاء الشعب بكلامٍ أقل ما يقال عنه "فارغ", يردده المتظاهرون دون أن يعوا معناه, في وقتٍ يشهد تشابكاً للأيدي بين بعض القضاة ممثلين بنادي القضاة "الاجتماعي" وأتباع الحزب الوطني والمال السياسي الفاسد وبعض التيارات السياسية المعارضة (والتي أغلبها لا يملك حظوة), تجمعت جميعها لإلغاء الإعلان الدستوري المكمل وإدخال البلد في حالة الفوضى اللامتناهية, وتناسوا أنهم من كان يتشدق سابقاً ويطالب الرئيس بما يعترضون علية الآن!.
موقف بعض القضاة مشين ولا يمت للقانون بصلة, بل يعكس حجم الفساد الذي زرعه النظام السابق في هذا القطاع السيادي. فعبرة حل مجلس الشعب وخطط لقرارٍ مماثل لحل التأسيسية ومجلس الشورى, في قرارات مسيسة, الهدف منها إسقاط الحكم الحالي عبر إحداث حالةٍ من الفوضى الاقتصادية والسياسية, ليتبعها فيما بعد مظاهرات ثورية مطالبة بانتخابات جديدة.
لن يستقيم الحال في مصر إلا بعد ثورتين, إحداهما تنال من الإعلام المتصهين وملاكه رجال أعمال الحقبة البائدة, وثورة عدلٍ يقوم بها قضاة مصر ودستوريوها ومحاموها الكرام, لتعرية قضاة الباطل وإعادة هيكلة قطاعهم بما يتوافق مع المرحلة, ويضمن النزاهة والحيادية المفترضة والمؤطرة لقيام الدولة المدنية الحديثة.
 
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...