الخميس، 6 سبتمبر 2018

حلم آثر الهوى أن يطيله

جريدة الكويتية

 03-09-2018
عماد أحمد العالم



يبحث عن صوت المطر، وقصيف الرعد الصاخب ولمعان البرق، عن انعكاس وهجه على أضواء الشوارع الخافتة المنسية، عن تساقط حبيباته البلورية المتسارعة على أرض مرتوية ضاقت ذرعاً به بعد أن فاضت منه، وعن هدير رياح الشتاء الموسمية العاصفة الباردة القادمة من الشمال، وعن تساقط أوراق الأشجار الذابلة المتراكمة فوق بعضها البعض في فصل الخريف حين تتكسر من دون صراخٍ مستسلمة لقدرها بعد نفاذ الروح منها بعد أن وطأتها قدماه، يطربه حسيس النار المنخفض وجرجرة الحطب المحترق المتكوم بموقده وفرقعته.
ينسجم مع صوت عجلات سيارته المرتبكة المبرمجة لطريق تسير فيه كل يوم، يقودها على جسر خشبي ضيق قديم لا هندسة فيه بناه مزارع بسيط نشأ بأرض يرفض تركها لحياة سريعة توفرها المدينة، أراده ليكون همزة الوصل بين منفاه المحبب والعالم المشغول بجدول أعماله الروتيني، يمر عبر أشجارٍ مرصوفة بقوام معتزة بعلوها الشاهق الزاهية بأغصانها المتدلية منها دون هدى على جانبي طريق ترابيٍ شبه معبد من وقع المرور المتكرر عليه، امتداده يقوده لمنزله الخشبي الواقع بأطراف منسية من المدينة بعد أن هجرها القلة من قاطنيها بعد أن غررت بهم فرص الحياة الراغدة التي توفرهم لهم المدينة، لكنها تنعم بسلام الخالدين المطمئنين خاليي الوفاض، وعذوبة الطبيعة العذراء التي لم تدنسها يد مدنية البشر الأنانية الماكرة الملطخة بمعاناة الآخرين، والناقمة على هجرانها.
بحثه مصدره الحاجة لحياة أخرى يعيشها بخلاف التي يحياها منذ أمد، لكنها لم تعد تواقة للالتزام بالعهد الذي قطعته للقبول بالواقع، الذي قد يرضي غيره، لكنه لم يعد بحاجة للتصالح معها والقبول بالواقع، فلا مقدرته على التحمل تحتمل المزيد ولا الواقع يريد أن يتغير، في مجابهة الغلبة فيها للواقع الذي يملك خيوط اللعبة، فيما هو متفرج لا يملك من أمره شيئاً عدا الاستمرار بأحلام يقظته التي لا يريد الاستيقاظ منها أبداً، حيث المكان الأنسب له لكي ينغمس في رؤاه المتكررة كيفما شاء وإلى ما لا النهاية.
يعشق الهدوء والموسيقى والسكينة واخضرار ما حوله والبحر والشواطئ الرملية وفنجان قهوته وكوب الشاي ودخان غليونه التي انعكست على وحدته فعززت من تفرده ليكون من القلة القليلة من البشر التي لا تكترث لأوصافهم التي يطلقوها عليه، لا يلقي بالا لجنون يصمونه به، ولا كونه بنظرهم معقد وغامض وأناني وانطوائي.
هو كما أراد لنفسه بأن يكون معها فقط، فلا حياتهم في شيءٍ تعنيه ولا سمعته لديهم تشكل عائقاً سبب له الأرق يوماً.
يجلس على كرس خشبيٍ استهلكه الزمن على شرفة كوخه الذي يهتز مع حركته المتواترة من دون انقطاع لساعات، فيما الصمت يطبق على المكان الذي أبت حشرات المساء إلا أن تنتهكه، تحوم حول إضاءة خافتة تصدر من مصباحٍ معلق خلفه فيما هو محدق بما يوازي نظره، أصبح جزء من هذا المنظر الذي يمثل خلوته المعتادة ورغباته الجامحة في الهيام بمملكته.
على الجانب الآخر منه وعلى بعد أمتارٍ قليله تتكسر بعض الأشجار تاركة ممرا ضيقا صنعته يد بشرية، تتجه نحو ضفة البحيرة القريبة، حيث قاربه المتواضع يقبع على يمين لسان من خشب يمتد لمسافة قصيرة داخل المياه، حيث يمارس هواية الصيد بالسنارة، مدلياً قدميه العاريتين الملامستين لحركة التيار التي تحدثها أرجحتهما الخفيفة.
يسهو قليلاً فترتسم على شفتيه رعشة خفيفة بللتها دمعة هربت سريعاً من محراب عينه المنهكة وجسده المتعب وروحه المُعذبة بغياهب الجُب، فيما ابتهالاته وطنين الألم يستحضر الحوار الأخير للجلاد الصالح والمجرم البريء في رواية ستيفن كينج «اللحظة الأخيرة»، حيث يُخاطب السجين رئيس عنبره قائلاً:
«أنا متعب يا سيدي من كوني وحيداً بالطريق كعصفور يتخبط بالمطر، متعب لعدم وجود رفيق لي يخبرني أين أذهب، متعب في الغالب من البشر ومن قبحهم في تعاملهم مع بعضهم البعض، متعبٌ من كل الآلام التي أشعر بها كل يوم في هذا العالم وهناك الكثير منها، أشعر بها جميعاً كقطع زجاجٍ متكسرة بعقلي».



المصدر: جريدة الكويتية - www.alkuwaityah.com/Article.aspx?id=472419

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...