السبت، 22 سبتمبر 2018

الاكتئاب.. «القاتل الصامت»

جريدة الكويتية
15-09-2018
عماد أحمد العالم



روبين وليامز أضحكنا وعاش الملايين مع أفلامه متعة الضحك والدراما والفن الجميل، لكنه عاش حياةً أخرى محبطة سلبت قواه فأنهاها منتحراً، بعده بأعوام سار على ركبه الطباخ العالمي ومقدم البرامج الأشهر آنتوني بوردين، وقبلهم جميعاً أنهى حياته منتحراً آرنست هيمنجواي، وكذلك فعلت فرجينيا وولف ويوكيو ميشيما وسيلفيا بلاث، من العلماء قضى بنفس النهج هانز بيرجر وديفيد كيلي وفيكتور ماير وقبلهم وبعدهم العديد من المشاهير من علماء وكتاب وصحافيين ورواد مجالهم، لكنهم وفي النهاية اختاروا الخلاص من معاناتهم ومعهم مقولة المتشائم كافكا «ان الانتحار هو الحل الوحيد الممكن».
يقول الفيلسوف والكاتب الفرنسي ألبير كامو أن الانتحار هو المشكلة الفلسفية الوحيدة، وأقول ولست ببارعٍ في البحث فيه بأنه الحد الفاصل بين الإرادة ونقطة اللاعودة، حيث تتغلب الأخيرة وتقطع الطريق على أي حلول أو آمالٍ ممكنة، فتضحي هي نجاة المنتحر من مزيدٍ من الشقاء.
قد تستوعب أن أحد أباطرة المال مثلاً قد انتحر بعد إفلاسه ولكن ما لا يمكن استيعابه هو أن يقدم على الأمر شخصية ظاهرها السعادة والنجاح والتوفيق والراحة والاستقرار، حيث حياة أسرية مستقرة ومريحة مع زوجة وأبناء وظهور دائم ببريق يخفي خلفه ما لا يعرفه ربما أقرب الناس اليه من معاناة تعذب صاحبها وتمزق ما تبقى من قوته التي تتنازعها قوى الظلام والجانب المشرق من شخصيته التي نراها.
محزن جدا أن يحيى مثلهم في عالمين ظاهره ما يرغب المشاهد برؤيته وآخره نزاع بين ثناياه يستولي في كل جولةٍ على شقٍ أكبر يجعل له الغلبة التي ستكون جولتها الفاصلة إقدامه على أن ينهي حياته بعد اللا عودة!
من منظور علمي وبناءً على رأي الطب النفسي فالعديد ممن أقدموا على الانتحار، مصابون بأمراض نفسية مزمنة تتراوح بين الاكتئاب الحاد وثنائي القطب ونوبات الذعر الشديدة والوسواس القهري.
جميعها تصب في مصطلح واحد يقود الشخص في النهاية للخيار القاتل؛ الاكتئاب والذي يملك قوة تستطيع التغلب على كل نظريات علم النفس بأدويته وممارسيه وكذلك تقنيات العلاج السلوكي والنفسي، فمقدرة عقل بشري واحد سيطر الحزن المرضي على دماغه، قادر على أن يصمد في وجه قدرات الطب النفسي ويتغلب عليها بأن لا يدع لها مجالاً لإصلاحه.
قبل فتره سمعنا عن مدونٍ تونسي ترك خلفه رسالة انتحاره التي فاضت معاناةٍ لم يستوعبها من حوله وكذلك فعل شاب مصري وصف في رسالة انتحاره هواءه الذي يتنفسه بالنيكوتين، فتيات عربيات وغربيات ومن مختلف الجنسيات أقدمن على الخطوة ولكلٍ مبررها وبعضهن أقدمن عليها علانية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكنهن جميعاً اتفقن على قرار اللا عودة الذي ينهي وجودهن في عالم بات العيش فيه بغض النظر عما يكدرهن، أقسى عقوبة تقع عليهنّ.
من الصعب أن يشرح المُكتئب معاناته التي في الغالبية العظمى لا تجد صدى استجابة فعالة مساعدة ممن حوله عدا النصح بزيارة الطبيب أو تناول الأدوية، لتُخلق الفجوة بينه ومن حوله حيث تزداد معاناتهم وانفضاضهم وتجاهلهم أو انشغالهم، فيبقى وحيداً يصارع وحشاً يشاركه جسده وعقله، ويفسد ما تبقى من قوته ويحوله لأسير أفكار ووساوس وهواجس وظنون تُحكم قبضتها عليه فيصبح أسيراً مغمى العينيين تُسيره كيفما شاءت لهلاكٍ من غير الضرورة أن يفتك بحياته، وإنما يجعل من البقاء فيها الماً لا شفاء منه ولا مُسكن له، ليفقد صوابه كنتيجةً لذلك بعد أن ينفض الجمع والمجتمع ويصنفه كمجنون!
قبل فترة نشرة سيدة أمريكية صورة تجمعها وزوجها وأبناؤها أثناء رحلتهم الأخيرة، وعلقت عليها قائلةً «نظراته لم تكن توحي لي ولا لأحد بما أقدم عليه بعدها بأيام فقد أطلق النار على نفسه وانتحر»!!
حجم الألم في القصة السابقة أن الزوجة تفاجأت بانتحار زوجها التي كانت تظن بعض لحظات ضيقه وسكوته ووجومه السابقة عابرة، لكنه كان قد وصل لنقطة اللا عودة عن قرار انهاء حياته حتى يتخلص من الامه التي لم يُقدِّر أقربُ الناس اليه ومنهم زوجته درجة خطورتها واستحواذها عليه.
يعتبر الفرنسي اونريه دي بلزاك أن كل انتحارٍ هو نظامٌ راقٍ للحزن، كما سعى إلى ذلك الكاتب الياباني يوكو ميشيما ومارس طقوس الانتحار في اليابان بنهج السيبوكو أو الهاراكيري وهو الانتحار بالسيف.
كثيراً ما يربط الباحثون بين الاكتئاب والانتحار لكن الواقع يسير لأسبابٍ أخرى كالمرض والإحباط والظروف الاجتماعية والصدمات الحياتية والعاطفية والأخلاقية والسياسية وحتى الهم الوطني كما فعل الشاعر اللبناني خليل حاوي والذي سجل اعتراضه على الحصار الإسرائيلي لبيروت سنة ٨٢ عبر إطلاقه النار على رأسه جهة عينه اليسرى من بندقية، وكذلك فعل قبله تيسير السبول والشاعر والرسام العراقي إبراهيم زاير.
يقول الطبيب المصري هشام عادل صادق أستاذ الأمراض النفسية والعصبية في كلية طب عين شمس، «أنه تعامل مع مختلف حالات المرضى، الذين لم يقدم أحد منهم على الانتحار، عدا مرضى الاكتئاب الذين أقدم البعض منهم على الانتحار بسهولة وتخطيط للوسيلة الأنجع لتحققه وضمان حصوله»، وهذا مما يجعلنا غافلين عن قاتلٍ صامت سيفتك بالبشر أكثر فأكثر
.


المصدر: جريدة الكويتية -  alkuwaityah.com/Article.aspx?id=473356

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...