الثلاثاء، 20 يناير 2015

حتى نرقى للشرف المنشود

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الرؤية 20-01-2015

 


في لحظات اليأس والقنوط نتذكر بأننا قد تناسينا أنفسنا ردحاً من الزمن، أشغلتنا فيه دنيا عنها فبتنا نلهث معها في سباق عقيم لم يكن ليقدم أو ليؤخر. نتوقف الآن للحظات وكل منا يرى الغصة في وجه الآخر، فيواسيه أن هم غيره ومرارة ألمه تفوقه وتتفوق عليه، لكنه وبطبعه الإنساني يرى نفسه من تعاني ألماً لا يحتمله سواه، وإن كان قد أنهكه، إلا أنه لم يقض عليه بسبب تلك الرغبة الانتهازية فيه لأن يراه حطاماً يمارس عليه جبروت قوته، ليرى في انكساره إشباعاً لجنون عظمته!
تمادينا في جرينا لسعينا وراء سراب السعادة، وفي سبيل ذلك وطئت أقدامنا كل المعاني الجميلة التي أعطتنا صفتنا كبشر، فتحولنا لمخلوقات آلية من دون مشاعر وأحاسيس تحفظ عن ظهر قلب ما عليها القيام به في ليلها ونهارها. حين تستيقظ صباحاً للذهاب لعملها، وحين يحين موعد عودتها للمنزل تتحرك بخطى ثابتة لتحضر معها ما تراه متمماً لنمط معيشتها. أثناء سيرها قد يتداعى أمامها جسدٌ لشخص لا تعرفه، فلا تحرك ساكناً أو تهب لنجدته، يستوقفها فقير يستجدي شيئاً ليسد به قوت يومه فتتجاهله، وإن أعطته تحرص على ألا تلمس يدها يده، فقد تكون متسخة أو أنداها عرق السنين وظلمة الليالي برائحة لا تمت للطيب بصلة، وقد تزكم أنف من تنعّم بالنعيم، ولم يذق قسوة الظروف التي تذل العزيز بعد أن تسلبه أو تمنع عنه كل ما يرفع من شأنه، ويثري حياته ويمتع جسده وروحه.
تعلمنا الأنانية وحب الذات فعميت بصيرتنا، وصرنا لا نرى إلا مصالحنا. ببساطة تحولنا لانتهازيين قانصين للفرص، وكأننا نعيش في غابة البقاء فيها للأقوى، وكلٌّ منا يسعى لأن يكون كذلك، حتى لو كان سعيه سبباً في دمار كل ما تطأه قدماه في لهاثها المحموم صوب الزعامة والريادة والتملك.
أصبح ما يحفزنا لنتقدم وننجز هو غريزة البقاء وليس حب الحياة والاستمتاع بها. لم نعد نرى صداقة حقيقة إلا في سبيل إضاعة الوقت والترفيه عن النفس، حتى ما إن ينفض اجتماعنا مع من خرجنا معهم؛ ننساهم وإن تذكرناهم علكتهم ألسنتنا ومضغتهم مراراً وتكراراً أفواهنا، وكأننا لم نقض معهم قبل دقائق ساعات كانت مملوءة بالضحك والتهريج ومشاعر المودة المزعومة.
إن أحببنا، فنهاية القصة باتت معروفة .. لم نعد نتمتع بأخلاقيات المحبين ولا شرف الكلمة، وإن خاصمنا فجرنا حتى باتت صفة النفاق لا تفارقنا، نزبد وتحمر وجناتنا، ونمطر من نختلف معه بأقذع ما يمكن أن يخطر على البال. تتعالى الأصوات للحدث الجلل، وتنقسم الجموع بين هذا وذاك، فيما آخرون يقفون كالمتفرج لمعركة على وشك أن تشتعل رحاها، فاستلوا هواتفهم وبدؤوا بتسجيل الملحمة، حتى إذا ما عادوا إلى منازلهم نشروها عبر فضاء التكنولوجيا الذي دمرتنا أخلاقياته، وملأناه بأخبار الفضائح.
لم نعد نعرف خُلقاً اسمه الستر، بل بات البعض منا يتلذذ برؤيته لعذاب الآخرين وفضحهم، والانتقاص منهم والتشهير بهم، لكنه والحديث هنا عن ذاك ناشر الرذيلة، قد ينهي يومه بركعتين ويمطر من حوله بنصائح عبر وسائل التواصل الاجتماعي جميعها تقطر تقوى وصلاحاً وورعاً، فيما هو طوال يومه يؤذي الخلق ويسيء إليهم، ويمارس عليهم عنصريته المقيتة وتعاليه وتكبره وتجبره.
هي ازدواج الشخصية، السمة الأقرب للعديد منا، ممن تظنه الحمل الوعيد إن تواصلت معه عبر الإنترنت وبرامجه، لكنه ذاك الضبع الغادر الذي يعيش على الجيف في واقعه، يمارس تُقيا الباطل لمن لا يعرفه، ويشقي من حوله ويجرحهم طوال يومه إن امتلك عليهم أدنى سلطة، أو وضع في مكانة يمتلك فيها أي صلاحية للتجبر على الخلق وإذلالهم.
مقولة «الناس مقامات» هي الأساس الذي يبني عليه البعض تعامله مع الآخرين، وعلى أساسه لا يولون اهتماماً للعالم أو الصالح لو كان بسيطاً أو فقيراً أو متواضعاً رث الثياب، فيما يعلون التافه ذا السلطة والجاه، يضحكون ويقهقهون إن تحدث بتفاهة ويولُونه جل اهتمامهم، مع العلم أنه لو دقق في أمره، لوجدته كالمتسلل خلسة من جمع إن نخوته وطلبت منه معروفاً أو مشاركة في عمل خير.
المادة هي فعلاً المقياس لمن تكون في مجتمع أصبحت فيه ثروتك الفعلية يحددها ما تملكه من مال وما تتمتع به من سلطان، عدا ذلك فمهما حظيت من علم وأدب وحسن خلق وميزات لا تعد؛ ستبقى من العامة التي لا يُحرك لهم ساكن إن تحدثوا، ولا تهب الأيادي لمصافحتهم إن حضروا.
مع ما ذكرت وإن أوجزت فيه ولم أسترسل: هل فعلاً نمثل كمجموع عام خير أمة؟ .. سؤال لا بد من طرحه على أنفسنا حتى نحصل على التغيير ونرقى مجدداً للشرف المنشود.



المصدر: جريدة الرؤية الإماراتية - http://alroeya.ae/2015/01/20/214321/%d8%ad%d8%aa%d9%89-%d9%86%d8%b1%d9%82%d9%89-%d9%84%d9%84%d8%b4%d8%b1%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%86%d8%b4%d9%88%d8%af/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...