الثلاثاء، 31 مارس 2015

التجربة النيويوركية

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الرؤية 31-03-2015



اختارت قناة فضائية شارع الأعمال أو ما يسمى داون تاون في نيويورك لترى ردة فعل المارة في يوم شديد البرودة تجاه طفل مشرد بملابس ممزقة ويلتحف كيس نفايات علّه يقيه البرد.
رغم ازدحام الشارع، إلا أن أياً من المارة لم يلتفت إلى الطفل ولم يوله أي انتباه، ولبث يتصنع رجفة البرد والبكاء حتى توقف له متشرد آخر جلس إلى جانبه وخلع معطفه الوحيد الذي يلبسه وأعطاه الطفل ومنحه ـ على ما بدا ـ ما معه من مال!
المُحبط أن سمات أغلب من كانوا يمشون في الشارع هي لأثرياء أو ميسورين، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من طبيعة لبسهم؛ لكن لم يتوقف أي واحد منهم حتى للمساعدة، والوحيد الذي لم يستطع أن يتحمل المنظر هو متشرد مثله، وعند سؤاله عن سبب فعله أجاب:«لا يعرف ألم الجوع إلا من عاناه، أما من لم يزعجه أمر الطفل من المارة فهم من نشؤوا في ظل ثقافة الرأسمالية التي بمقدار ما حررت القوانين وكرست الحريات قانونياً، إلا أنها إنسانياً نزعت الإنسانية وقسّت القلوب، فصارت لا مبالية وشعارها اللهم نفسي».
التجربة السابقة نفسها قامت بها قناة نرويجية لاستطلاع تصرف المارة تجاه طفل يقف بموقف باصات في نهار مثلج. النتائج كانت بخلاف التجربة النيويوركية وتعكس بالفعل ثقافة إنسانية جديرة بالدراسة، تم زرعها في الشعب وتربيته عليها وتأصيلها فيه، حتى باتت الإنسانية تشكل روح التعامل وسمة بارزة للدولة وشعبها، وجعلتها قبلة لمهاجري العالم من مشردي الحروب والساعين لحياة كريمة لم تتحقق لهم في بلدانهم الأم.
حظي الطفل النرويجي المشرد بخلاف النيويوركي بانتباه واهتمام كل من مرّ بجانبه، ومن دون سؤاله ألبسوه معاطفهم، فيما جلس آخرون بجواره لتهدئته وتطمينه، وبادر البقية للاتصال بالجهات الرسمية للتدخل ولم يتركوا الطفل إلا بعد أن كُشفت لهم حقيقة التجربة.
كمسلمين، فرض الله سبحانه وتعالى علينا الصيام حتى يُعزز فينا روح الشعور بالآخر ممن لا يملك ما نمتلكه، وساوانا به طوال شهر كامل، وأمرنا أن نجرب ألم الجوع والعطش والحرمان حتى نستشعر عظيم نعمته علينا ونُحسّ بمن هم في حاجة ولا يمتلكون قوت يومهم، فنتعلم كيف نبذل ونعطي بأريحية وسعادة، وبحافزٍ ذاتي من تلقاء أنفسنا لنسعى ونبحث ونسأل ونتصدق.
الإنسانية ـ وإن كان ديننا الحنيف قد أصلها وأمرنا بهاـ إلا أنها أيضاً سمةٌ خلقها المولى في عباده، ومن تخلى عنها أو نأى فهذا نتيجة لهوى نفسه المخيّرة والأمّارة بالسوء، إلا أنها بذرة ستبقى دوماً رطبة وتنمو بسقياها، لكنها لا تجف ولا تفنى ولا تعطب، وإنما تزدهر وتضمحل، حسب روح صاحبها.



المصدر: جريدة الرؤية الإماراتية - http://alroeya.ae/2015/03/31/232871/%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ac%d8%b1%d8%a8%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%8a%d9%88%d9%8a%d9%88%d8%b1%d9%83%d9%8a%d8%a9/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...