الأحد، 16 ديسمبر 2012

سيكولوجية الثائر العربي

مقاله تم نشرها في جريدة بوابة الشرق القطريه 15-12-2012

بقلم: عماد أحمد العالم


أظهرت ثورات الربيع في أربع دولٍ عربية غيرت نظام حكمها الشمولي إلى حكم الشعب، وما تلاها من هيجانٍ خلف نزعةً من الوطنية المحلية؛ غير القائمة على أيديولوجية فكرية، وإنما رغبة في التغيير، بعد أن فاض الكيل بالشعوب من أنظمة حكمٍ استبدادية، جثمت عقوداً على الصدور وأكلت الأخضر واليابس، ومارست القمع والحرمان، وأطرت الفساد. أظهرت لنا "الثورجية الجدد" وأغلبهم حديثي عهد بالسياسة، بعضهم من جيل "البلاي ستايشن" وشبكات التواصل الاجتماعي، لكنهم حولوا اتجاهاتهم فجأة للسياسة، فكانوا هدفاً سهلاً للاستقطاب من قبل مخضرمي الساحة، ممن لفظتهم الأيام (وغسلت يدها منهم)، وجدوا فيهم أتباعاً يسهل تسييرهم وتلقينهم وزرع الأفكار في رؤوسهم لتنفيذ الأجندة أياً كانت.
ما توفر للأجيال الناشئة لم تحظ به سابقاتها ممن عانت القهر والسجن والعزل إن عارضت؛ فقد ولدت في عصر التكنولوجيا والعولمة والانفتاح الإعلامي الفضائي، فسهُل عليها أخذ المعلومة جاهزة، دونما مجهود يبذل قائم على الاستنتاج الشخصي والقناعة أو التعمق في المسألة لفهمها من جميع الجوانب، ومن ثم الإيمان بالهدف المرجو. أصبحوا ملقنين، مسيرين، يسهل تحريكهم عبر دغدغة العاطفة لديهم أو التخويف أو إعطاؤهم حجماً أكبر لشخصهم، فأمسوا لعبةً بيد الإعلام وصناع القرار والسياسيين من معارضة وموالين. أُطلق عليهم مسمى الشارع العربي بعد أن نزع الوصف عن الأغلبية الصامتة، التي كانت سابقاً القوة المدمرة إن تحركت. إن وصفتُ فكرهم بالسطحية لن أظلمهم، فهم أشبه ببناءٍ عالٍ يتم تعميره في شهرٍ، سيكون آيلاً للسقوط في أي وقت، لأن أساساته الفكرية لم تبن بالشكل السليم، بل جمعت على عجل، فكانت في الواقع عمدان هشة يسهل كسرها والتخلص منها.
الثورات المتحضرة والناجحة تميزت بكونها قامت على أساسٍ فكري لم يكن وليد اللحظة أو عفويا، بل سبقتها ثورة فكرية وصراع أيديولوجي بين طبقةٍ حاكمة وأرُستقراطية وكنسية مثلت الأقلية المسيطرة، وأغلبية مقهورة وجدت نفسها أسفل الهرم الاجتماعي ومحرومة، تواصلت معها النخب الأدبية وبدأت حملة للتوعية بضرورة التغيير، مستشهدةً بواقع الحال والحرمان والتفرقة، مطالبةً بحقوق المواطنة والمساواة وإلغاء الامتيازات الإقطاعية وسطوة الفكر الديني المتشدد وتحكمه في الفكر، داعيةً لفكر الإنسان الفرد، صاحب الحق في الحكم والاختيار والممارسة، رافضةً الوصاية على العقول والتسليم المطلق للكنيسة وصكوك الغفران والتكفير والتجريم لمجرد الاختلاف في الرأي. فبدأت على إثر ذلك تتشكل تيارات فكرية عملت للتغيير عبر سياسة تثقيف العقول وتنبيه الناس للحقوق والواجبات المفروضة عليهم والمطلوبة لهم. تم ترسيخ مبدأ الدولة الحديثة عبر تنويع العمل وتقسيمه لمؤسسات المجتمع المدني التي وضعت الضوابط وشكلت الرقيب، والجهات التشريعية والتنفيذية، وهيئات الرقابة والمحاسبة؛ فما أن قامت الثورة، حتى بدأت بعدها مرحلة انتقالية وفق أسس سليمة، والنتيجة ما نراه الآن من ديمقراطيات متقدمة تشكل جوهر الحياة الحرة والعيش بكرامة. على النقيض، فالثائر العربي محدود الثقافة، مسير، وعجول، انفعالي لا يقبل بالرأي الآخر، داعٍ للتغيير دون أن يملك أجندة ما بعد التغيير، متحمس ولكن عاطفي لا يحكم العقل والمنطق، مستعجل لجني الثمار دون أن يحسن سقاية ما زرع، والمحصلة ثورات قامت لقهر الباطل وللتغيير، لكنها فشلت في بناء الدولة، فتفاقمت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وخلقت حالة من الإرباك والفوضى السياسية والاستقطاب والفراغ الفكري وسطحية التفكير والمطالب وزرعت بذور الفتنة وقسمت المجتمع بدلاً من توحيده واهتمت بالسفاسف وتركت الأصول، فأوجدت بيئة خصبة للطفيليات لأن تتكاثر وتفسد وتشغل العامة في مالا فائدة منه، ومن ثم تثنيهم عن أهداف التغيير المرجوة.إن أرادت شعوبنا أن تحيا حقاً في كنف المدنية الإنسانية، فعليها أولاً أن تثقف نفسها وتطور فكرها وأن تنمي داخل شخصيتها مبدأ التغيير للإصلاح وأن تتخلص من هيمنة الفكر المتعصب، وأن تؤطر العمل المدني والتطوعي والثقافي والاجتماعي، وقدسية المواطنة والتحفيز الذاتي ومحاسبة الذات، وأن تتخلص من فكر العائلة والقبيلة وجنون العظمة وسمو العرق، وأن تجعل من الإصلاح الغاية المنشودة وأن تترك عنها المصالح الفردية الفئوية للصالح العام.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...