الأربعاء، 19 فبراير 2014

بوابة أمريكا اللاتينية

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في مجلة فكر الثقافة العدد السادس 19-02-2014


لا أجد متعةً تضاهي أن أكتب ما أشعر به حين أقرأ لغابرييل غارسيا ماركيز، الأديب العالمي وبوابة أمريكا اللاتينية، الروائي الذي أدخل الحب والجنس والسياسة والخرافة والواقع والسحر في مزيجٍ غريبٍ في العديد من رواياته، وربطه بالرغبة الجامحة التي لا تعرف الحدود ولا الأخلاقيات، وإنما سعى ليظهرها كغريزة متحررة من كل القيود، حتى إن كانت بين أفراد الأسرة ذاتها كما سرد في روايته "مائة عام من العزلة".
الحب في عُرف ماركيز له رونق خاص، ولذة أفلاطونية نرجسية سرمدية، لا تقدر أن تتخيل أن بين بني البشر من هم بهذه القدرة على التمسك به أو حتى مجرد الحلم!
في روايته "الحب في زمن الكوليرا"، تناول قصة حب امتدت لأكثر من خمسين سنه، ابتدأت بطرفين لكنها ما لبثت ان انتهت، لتكون من جانب عاشقٍ بائس، أضمره في قلبه لخمسين عاماً حتى يحيى ما عاش من أجله. استوحى قصته من كفاح والده للزواج من أمه في ظل رفض أهلها له، الذي قابله إصرارها لتكون زوجةً له!
حين يصف غارسيا يجبرك على أن تعيش معه الأحداث بكل تركيز، يجعل من القارئ رهن كلماته، غير قادر على أن يترك ما ببن يديه، ليستمر في تخيل الأحداث بطريقة تشعرك وكأنك طيفٌ يشاهدها عن قرب، فيما الشخصيات تمر أمامك كشريطٍ سينمائي لا متناهي. تعتري القارئ حينها الرغبات المحرمة، أو الكره أو الحقد أو السعادة بناء على الحدث الذي يمر به، فيما تجعله تركيبة الشخصية المسرودة رهن جمالها وحتى إن كانت شريرة ومتجبرة.
استوحى ماركيز في بعض رواياته الشخصيات من سمات بعض من عاصرهم، كما يبدو التحرر الفكري اليساري جلياً في كتاباته، مع نفيه الدائم لمن وصفه بالشيوعي ووصفه لنفسه بالا منتمي لأي حزبٍ سياسي وإن كانت صداقته المعروفة بياسر عرفات والزعيم الكوبي فيديل كاسترو تشير عكس ذلك، لكنه كان يصفها دوماً بالأدبية البعيدة عن السياسة.
ما تقرأه له قد لا يعني فقط ما يخطر ببالك لحظتها، وإنما من الواجب أن تدقق في المعنى العام والفكرة التي يريد إيصالها لك!
استخدم في روايته الأولى المونولوجات النوكنرية الثلاثة، حيث تشاطر ابطال الرواية الثلاث وهم الاب والابنة والحفيد دور الراوي في روايته الأولى عاصفة الأوراق التي نشرت له في العام ١٩٥٥. فيها ورد أول ذكرٍ "لماكوندو"، وهي البلدة التي ستشهد تلك الأحداث العظيمة والقصص المستوحاة من الواقعية السحرية في رائعته "مائة عام من العزلة".
بعض أحداث قصصه ترجع لتأثره بتاريخ عائلته العسكري والثوري وعيشه لبعضها وخصوصاً من جهة جده لأمه، إلا أن الطابع الغالب له هو تجرده من الموروث الديني وتبنيه الفكر التحرري، الذي طغى على فترة الاقتتال في جمهوريات أمريكا اللاتينية أو ما عُرفت بجمهوريات الموز.
لم يجمل ماركيز في رواياته واقع الحياة اليومية ولم يضفي عليها صفاتاً لم تكن فيها، بل كان موضوعياً في نقله للنمط السائد وقتها. استخدم في سبيل ذلك خليطاً من أحداثٍ حقيقةٍ وقعت وأخرى كتبها من نسج خياله، فخرج علينا بصورةٍ هي الأكثر شبهاً لتلك الحقبة الزمنية، وما تخللها من صراعات فكرية وعقائدية وثورية وارستقراطية واقطاعية، كما تطرق للفساد السياسي والمالي وجنون السيطرة والتحرر الوحشي اللاإنساني الذي اتسم به البعض كنهج لتحقيق مطالبه.
لم تغب الأقليات عن كتاباته، فقد نالوا هم ايضاً قسطاً أوضح ما كانوا عليه. تحدث عن الغجر بإسهاب ونبوآتهم وترحالهم الدائم والهنود والسود والمستوطنين الاوروبيين وحتى المهاجرين العرب كالحلاق السوري في رواية "في ساعة نحس"
شعورك بالبلل والضيق من ارتفاع الحرارة والرطوبة هي ما تشعر به وأنت منسجم في القراءة له، وهي نفس الأجواء التي ميزت قصصه وهي في الواقع طقس بعض مدن أمريكا اللاتينية التي جرت فيها أحداث رواياته.
استرساله في السرد ودقة وصفه وجمال تعبيره يشعر القارئ بأنه جزءٌ مما يقرأ، فيحدث اندماجاً روحياً وعقلياً يجعل الجسد متأثراً بما يدور ويخرجه عن الواقع المختلف الذي يكون فيه.
بالضبط، هذا ما سيحصل وأنت تقرأ عن واقع حياةٍ لناس عاشوا حياةً بعيدةً عن الرفاهية وتأقلمت أجسادهم على الأجواء الاستوائية الحارة الرطبة الممطرة، لكنهم استمتعوا بهو لتترك أثرها على عاداتهم وطبائعهم وسلوكهم وتعاملهم الإنساني ونمط حياتهم اليومي. مزيجه الدائم الذكر كان يتجلى في تطرقه للكاريبي والبحر والعزلة.
شعوب أمريكا اللاتينية إن لم تعاشرها أو تزرها سائحاً أو مقيماً فيكفيك بظني أن تبحر في بحر روايات ماركيز، لتكتشف أهمية العائلة في تكوينها وقدسيتها لدى الطبقات الفقيرة والمهمشة والمتوسطة، وتأثرهم بالكنيسة الكاثوليكية وما دخل عليها من معتقدات هي أقرب ما تكون للوثنية، وهو ما تمرد عليه اتباع الطائفة الارثوذوكسية والبروتستنتية.
التدين لدى البعض فيما كتب قابله تحرر فكري لا ديني وجد صداً واسعاً لدى القارة اللاتينية، فازدهر التيار اليساري والشيوعي وتكاثرت الثورات التحررية، لتعاني على أثرها دولها ويلات الحروب الأهلية ووحشية الاقتتال الداخلي التي استمرت لعقود ونال ذكرها جزءً لا بأس فيه من أدب ماركيز الذي خلط السياسة بالدراما، فأنتج مزيجاً متكاملاً وصورةً مسهبة لمسار الحياة  وتداخل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والتغيرات الاجتماعية والفوضى والقلاقل السياسية التي استمرت لسنيين طويلة، تاركةً اثراً بالغاً في تطور دول أمريكا اللاتينية، التي كان للتغيير فيها ظروف أكثر صعوبة من أي مكانٍ آخر.
هجر ماركيز دراسة القانون واتجه للصحافة لكنه تركها فيما بعد ليكون قاصاً أسس مدرسةً فكرية لم تُعرف من قبل، وتُرجع له فقط وهي الواقعية السحرية، التي تتلمذ بها العديد من الكتاب بعده، لكنهم لم يصلو بها ما وصل له من عبقرية الوصف والكلمة وجنون الابداع الذي لم يُعرف له نهاية في كل ما أبدع قلمه وأدبه بكتابته.


المصدر: مجلة فكر الثقافة العدد السادس - http://www.fikrmag.com/index.php

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...