الجمعة، 7 مارس 2014

التشدد الديني .. ظاهرة تستحق الدراسة

بقلم عماد أحمد العالم

مقاله تم نشرها في جريدة الرؤية الإماراتية 07-03-2014



التشدد ما كان في أمر إلا شانه وكذلك الاستخفاف والاستهتار، لكن ما يقلق أكثر هو التزمت وهو مصطلح آخر ملاحظ وسمة للعديد من المجتمعات المسلمة. تحولت بعضها في تزمتها إلى اختلاق أمور لم تُنزّل ولكن مارسها البعض. ضررها الأكبر جاء فيمن تلاهم من أفراد حولوها لبدع ملزمة ومن ثم أصبحت كواجب بدلاً من أن تكون فضيلة.
عامةً ما يكون الحديث في مثل هذه الأمور خطير، ويعرض من يطرحه لأن تنال منه الألسن والأقلام، هذا إن لم يُكفر أو يتهم بالزندقة والليبرالية والإلحاد وعداء الدين. ذلك لأن ثقافة الترهيب قد حولت البعض منا لأتباع يسهل السيطرة عليهم عبر التخويف، وهو ما قد يكون بالعذاب والعقاب الذي جبلت الفطرة الإنسانية على الخوف منه حتى لو لم تكن متدينة، فالخوف من صعوبة المجهول ذو وقع قاس يسعى الإنسان لتطمين نفسه بشأنه.
الانقسامات التي تعرضت لها الديانات على مر التاريخ كان المسبب لها التشدد أو تراخي البعض وتساهلهم وسماحهم للتغيير ليتخلل الدين. انقلب عليه أتباع آخرون ورأوا فيه خروجاً وضلالاً، لتقوم على إثرها الحروب الدينية التي نادى كل طرف فيها أتباعه وحمسهم بروح الجهاد المقدس. النتيجة كانت تشكل تكتلات جديدة وعدم اندحار أي طرف، بل على العكس سببت نشوءاً لمذاهب جديدة. بهذا المنوال تكونت الكنيسة البروتستانتية والأرثوذكسية، ليس على أنقاض الكاثوليكية المسيحية وإنما كمذهب جديد منافس لها.
كمسلمين، اللبنة الأولى لنا كانت مذهب أهل السنة والجماعة، والمقصود بذلك اتباع رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام والعمل بما جاء به السلف الصالح بعده. الاجتهادات التي تلت تلك الفترة، وتعدد الآراء، والفهم الخاص للدين، أوجد عند البعض تفسيراته، بسبب المتطرف والمتراخي منها، ظهرت مذاهب مختلفة كل منها يرى في نفسه الصواب والآخرين خطأ. دخلنا مجدداً حمى الصراع الديني بسبب التكفير ونبذ الآخر ورفضه. لم يبقَ هدف كل طائفة هو الحفاظ على اتباعها فقط وتنويرهم، بل تحول ذلك لمحاربة الآخر المختلف وتخوينه وتكفيره، ليدخل الجميع على إثرها في صراع عقائدي تناسى فيه الجميع القول الكريم «لكم دينكم ولي دين».
لا يشمل هذا الطرح المذاهب الإسلامية السنية الأربعة، التي في المجمل قامت على أساس واحد وانتهت إلى المحصلة نفسها، واختلافها فقط في تفسير بعض الأحكام والشروط والواجبات، ما نُهي عنه وما أُمر به، ما حُبِّذ وما كان مكروهاً، ما حُلِّل أو حُرِّم. لم يقم أي من المذاهب الأربعة بتخطئة الآخر ولا تجريمه، وإنما أقر جميعهم برأي الآخر الذي تعددت فيه التفسيرات.
في مثال قد يوضح ما أصبو لطرحه، أُخذ الظاهر في تفسير بعض أحاديث رسولنا الكريم، فيما فسر آخرون الحديث بباطنه أو المقصود منه. في الحديث «من أكل لحم الإبل فليتوضأ»، قيل إن تناول لحم الإبل ينقض الوضوء. تفسيرٌ آخر للحديث قال بعكس ذلك ولم يوجب الوضوء بعد أكل لحم الإبل، وفسره بأن قول الرسول كان بسبب رغبته ألا يحرج شخصاً أحدث وأراد منه أن يعيد الوضوء قبل الصلاة. هذا التفسير وصف بالموضوع وغير الصحيح كما قرأت للشيخ ابن عثيمين رحمه الله.
اختلف العلماء في الوضوء من لحم الإبل، فقيل: لا ينقض الوضوء، وقيل: يجب منه الوضوء.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «أشار صلى الله عليه وسلم في الإبل إلى أنها من الشياطين، يريد والله أعلم أنها من جنس الشياطين ونوعهم، فإنَّ كلَّ عات متمرِّد شيطانٌ من أي الدواب كان، كالكلب الأسود شيطان، والإبل شياطين الأنعام، كما للإنس شياطين، فلعلَّ الإنسان إذا أكل لحم الإبل أورثته نفاراً وشماساً وحالاً شبيها بحال الشيطان، والشيطان خُلق من النار، وإنما تُطفئ النَّارُ بالماء، فأُمر بالوضوء من لحومها كسراً لتلك السَّورة، وقمعاً لتلك الحال، وهذا لأنَّ قلبَ الإنسان وخُلقه يتغير بالمطاعم التي يطعمها» .. (شرح عمدة الفقه 1/185).
يوضح لنا هذا المثال اتفاقاً لجميع علماء الأمة على تحليل أكل لحم الإبل، لكن اختلافهم كان في تبعاته فيما يخص القيام بفرض ديني إن أعقبه وهو الصلاة وإعادة الوضوء لها. كعامة، يبدو الأسلم لي في الأمر هو إعادة الوضوء الذي لا ينطوي عليه أي مشقة وبه أجرٌ نُثاب عليه، كما أن الأصل هو الوضوء قبل كل صلاة، وعداه يُعد جائزاً ورخصةً تسمح للمسلم بأن يصلي أكثر من صلاة على وضوء واحد طالما لم ينقضه.
الشرع في أحكامه هو الأكمل، والعلماء هم الجهة الوحيدة القادرة على تفسيره للعامة، والتي بدورها عليها أن تنفذ دون أن يكون لها حاجةٌ لمعرفة سبب التشريع، بل تأخذه كما هو وتنفذه.
المشكلة، مما رأيت من ممارسات تأتي من العامة ومدى امتثالهم في التنفيذ، أو القيام بالأمر وفق قناعتهم التي ربما قد تكون الأسلم (ولو كان به مبالغة). من المشاهدات الشائعة لذلك ما نراه لدى البعض من تقصير مبالغ فيه للثوب، للدرجة التي يبالغ فيها البعض فيظهر بلبسه وكأنه يرتدي تنورة قصيرة. لو سؤل عن سبب قيامه بذلك لقال: إن الإسدال محرم وما دون الكعب في النار، وهو ما ورد في أكثر من حديث. لكن إن قست له المسافة ما بين كعبه وطول ثوبه لوجدت فرقاً غير مُبرر ولم يرد له ذكرٌ في الشرع ولا معنى له، بل إن منظره لا يوحي بالجمال وإنما يثير في النفس النفور! إذاً لم هذا التنطع، ولم المبالغة في الأمر، الذي لن يزيد الفرد تديناً ولن يقربه أكثر لاتباع السنة النبوية، بل سيعطي انطباعاً سلبياً وسيرسخ مبدأ التشدد وينفر الآخرين من التدين والالتزام.
في الجاهلية وعقب الدعوة للإسلام وفي الزمان الأول، كان طول الثوب نوعاً من الخيلاء والكبر، وكان من علامات الغنى لبس الحرير والثوب الطويل الذي يتجاوز طوله المعقول فتبقى منه مسافةً تجر على الأرض خلفه، في مشية هي الأقرب للطاووس. مثل هذا التصرف ينبذه الإسلام ويحرمه، فهو الدين القائم على التواضع والمساواة بين الجميع، فقيرهم وغنيهم، عالمهم وجاهلهم، من هنا جاء التحريم لأي فعل يرمز للكبر والغرور وأحدها إسبال الثوب زهواً.
في عصرنا هذا لم يعد أحد يرتدي الثوب أو البنطلون بنفس الطريقة سابقاً، ولم يعُد طوله نوعاً من الكبر، الذي بات الظهور به بأشكال أخرى وطرق أكثر لفتاً للانتباه. إن استبعدنا التفسير السابق، فلنبق إذاً على ما أمرنا الله به سبحانه وتعالى، ولنلتزم به ولكن دون مبالغة لم ترد في الدين، ولنترك جانباً التشدد وإدخال الممارسات الخاطئة المبالغة بها ولنفعل ما أمرنا به بالضبط دون نقص أو زيادة.



المصدر: جريدة الرؤية - http://alroeya.ae/2014/03/07/133099

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أوروبا وفقدان البوصلة الأخلاقية

  موقع ميدل إيست أونلاين 10-11-2023 بقلم: عماد أحمد العالم سيستيقظ الأوروبيون ودول أوروبا ولو بعد حين بعد انتهاء الحرب الدائرة في غزة على حق...